مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

هل يُشكل الفزع لغزاً بشرياً؟

يُشكل الفزع لغزاً بشرياً لا يمكن فهمه في الحياة، فمن المثير للإعجاب كيف يمكن أن يتفرع منه الخوف الذي يُشكل لأي شخص بغض النظر عن مسألة الموت وما وراء كواليسه، وكيفية مواجهة الأخطار نوعاً من مسألة نظرية، وهي مسألة (كمون الفزع في المعادلة والوجود الإنساني) التي ذكرها (سورن كيرككورد) في كتابه مفهوم الفزع المُترجم من قبل (قحطان جاسم) والتي جعلتني أبحث أكثر في الدراما والروايات، وحتى اللوحات التشكيلية والرسوم المتحركة لغموض معنى الفزع الفعلي الذي يتمثل في الكثير من الأعمال الأدبية والسينمائية وغيرها؛ لأن كلها تؤكد على أهمية دراسة المخاوف عند الآخرين وما يُشكل الفزع الأكبر من المجهول الذي لا يمكن توقع موعده، ومتى سيأتي وأبرز ذلك الموت ومواجهة المخاوف التي يتولد عنها الرعب أو يشتق منها، فالمخاوف مراحل تتدنى أو تزداد تبعاً لما تعرضنا له في الحياة وتشكل عقدة نفسية لا يمكن مواجهتها ما لم ندرك عمقها، وهذا ما أكده (كليف باركر) في قصته القصيرة التي تحولت إلى فيلم بعنوان (الفزع) وقد اعتمد على مواجهة الآخرين بمخاوفهم والسيطرة الكاملة على مواجهة ذلك بشتى الطرق، وقد تؤدي الأحداث التي يتعرض لها الإنسان في الطفولة إلى السادية والتعذيب، ولكن أحياناً أخرى عند من يصابون بالهلع من تجدد الحدث في حياتهم قد يؤدي إلى الموت المفاجئ؛ فالتوترات الدرامية في فيلم (dread) حملت في طياتها الكثير من الفلسفات التي تتشابه مع مفاهيم (سورن كيرككورد) المبنية على عدة دراسات تناولت مفهوم الفزع سايكولوجياً وفلسفياً وأخلاقياً بالدرجة الأولى. فماذا عن مؤلفات ستيفن كينغ التي تؤسس لحقيقة معنى الخوف بكافة مصطلحاته واشتقاقاته اللغوية؟ وهل كتب (كليف باركر) قصصه التي تحولت إلى أشهر الأفلام دون تفكير وتمحيص وتجارب وهو الذي استطاع أن يؤسس لمدرسة أدب الرعب الخاص به؟
لا أريد أن يدخل هيتشكوك هنا رغم مدرسته التي تهتم بالبصريات أو فن الإخراج الدقيق المحاكي أكثر حسياً للنص الذي يُكتب تمثيلياً بمقدرة كبيرة تميل إلى إبراز علم الجريمة أكثر مما تُبرز موضوع الفزع. وبقدرة إبراز الفعل الإجرامي التي ينتج عنها الكثير من المخاوف التي يمكن دراستها من نواحٍ مختلفة، لأن كليف باركر وسورن كيرككورد وضعا الأبحاث تحت مجهر الفعل ورد الفعل، والنتائج وفق معادلة بشرية تؤدي إلى خلق نظريات كان البعض منها في مجموعة الطلاب الذين يدرسون موضوع الخوف في الجامعة، وحاولوا إثبات حقائق الخوف وكراهته من قبل الذين تعرضوا لأحداث الخوف للوصول إلى فهم أسبابه وكيفية مواجهته من خلال مواجهة النفس، بتكرار الحدث تمثيلياً أو بالأحرى من خلال القصص والدراما التي تضع الإنسان أمام المخاوف مباشرة، وقد تكون مخاوفه الحقيقية. إذ ينتمي هذا الفزع بصورة جوهرية جداً إلى الطفل، بحيث إنه لا يستطيع أن يستغني عنه، حتى وإن أفزعه، فإنه يأسره، مع ذلك، بقلقه الحلو. يوجد هذا الفزع لدى كل الشعوب. فمفهوم الفزع يتسم باللاعقلانية في أغلب الأعمال السينمائية والروايات والقصص، ويلامس السوريالية في أبعاده الأخرى. فهل هؤلاء الكتاب ميالون إلى اكتشاف أنفسهم من خلال ما يكتبون أو ما يخرجون وحتى ما يمثلون؟ وما هي الأخلاق الأساسية التي يجب أن تُمتلك في أنفسهم؟ وما الفرق بين كليف باركر وسورن كيرككورد؟
حالما تحدث القفزة، سيحسب المرء أن الفزع سيكون ملغىً، لأن الفزع عرّف كافتضاح الحرية لنفسها في الإمكانية فالقفزة في كتاب مفهوم الفزع هي السقطة الأولى لآدم وحواء على الأرض، وهما بحالة فزع ولدت من الحدث نفسه. أما السقوط من ارتفاع شاهق لبطلة العالم في تسلق الصخور لين هيل التي عاشت أكثر من خوف اشتق عن الفزع الأكبر أثناء السقوط الذي خلع مرفقها وتركها في حالة ألم شديد؛ لتواجه بعدها عدة مخاطر قبل إنقاذها، وأيضاً هيلين ثاير البالغة من العمر 52 عاماً التي واجهت عدة أيام من العمى بعد أن بقيت في عواصف ثلجية قوية جداً بمفردها، كما أنها واجهت الدببة القطبية. فهل يمكن أن يتخيل المرء مقدار الخوف الذي يعيشه الإنسان عند إصابته بحدث مفزع جداً ينتج عنه الخوف الشديد والمستمر والذي قد يُنسى ويخفي نفسه في العقل الباطن، ليستيقظ باللاوعي عند شيء ما يؤدي الى إيقاظ الحدث مجدداً، ويُفهم السبب فجأة تماماً كما حدث في فيلم (الفزع) لطلاب أصابهم الخوف في حياتهم، وولد من جديد وبشكل مفزع عندما تكرر ذلك بقوة، مما يجعلنا نفهم قوة الكاتب الذي استطاع أن يجعلنا نلمس خوف الذين أصيبوا من فزع لا يوصف أن تتكرر في حياتهم مرة أخرى، وقد يعيشها المرء فعلياً عند من يُشاهدونهم في نفس الحدث الذي أصابهم، وبعيداً عن مواضيع الهلع الشيطاني البعيدة كل البعد عن موضوع الفزع، والسقطة أو الحادث القوي الذي قد يتسبب ببتر أعضاء أو ولادة على عاهة ما تؤدي إلى الفزع من مواجهة العالم بها كالوحمة التي ولدت بها بطلة فيلم (الفزع) والتي تتلاقى او تتوافق مع كلام (سورن كيرككورد) عندما تقع حادثة استثنائية أو أخرى في الحياة، عندما يجمع بطل تاريخي عالمي أبطالاً حوله وينجز أعمالاً بطولية، عندما تحدث أزمة وكل شيء يكتسب معنى، عندها يرغب الناس أن يكونوا جزءاً منها. فهل الخوف من المجهول يُشكل للإنسان نوعاً من الاحتمالات التي قد تتشكل في الأعمال الأدبية والفنية وغيرها؟ وهل من متعة في الخوف نفسه؟ وهل يمكن أن نستمتع بقراءة الكتب التي تثير الخوف وتزيد منه في النفس لتخلق العديد من المعاني الأخرى التي تخفيها النفس أو العقل اللاواعي؟ وهل نخاف التعبير عن المخاوف التي تنتابنا من المجهول؟ وهل من تناقض بين الإحساس بالأمان وتذوق الشعور بالخوف لهذا نجح كليف باكر وستيفن كينج باستقطاب عدد كبير من القراء ومن المنتجين الذين أنتجوا أعمالهم للسينما والتلفزيون؟
حملت الكوميديا الإنسانية منذ القدم شتى مواضيع الخوف، وما يشتق عنه من مفردات أخرى، كالفزع الذي يفصّله سورن كيركوورد لينشق عنه الخوف، ويمنحه أهمية كبرى في علم النفس مصحوباً بدراسات اهتم بها الكثير من الكتاب، وبعضهم بنى عليها القصص والروايات حتى في أعمال الكاتب (بلزاك) وما برره في كتاباته من معاني الهواجس المجتمعية بكافة تفاصيلها، وحتى السياسية منها، علاوة على ذلك يتنوع الإلهام الأدبي المصحوب بالفزع عند الكثير من الفنانين التشكيليين كلوحة الصرخة الشهيرة لمونك، وغيرها الكثير مثل لوحات (فرانسيسكو غويا) وقدرته في تجسيد أو بث الخوف في النفس من خلال التعبيرات المتعددة والصاخبة. لفهم المعنى من خلال ما نراه بصمت فني حمل قوة في الرؤية النفسية. أما الأكثر أهمية في عالمنا المعاصر، وإن صح القول في عالم ما بعد الحدث ما جاء في الحلقة السادسة من الأنيمي الشهير (بليتش) (Bleach) والمعروف أكثر باسم إيتشيغو؛ إذ قيل له «كل شخص لديه أشياء يأمنها ويخافها، حين يدخلون إلى مكان آمن، ويسألون لماذا يشعرون بالأمان يقدمون إجابة مبهمة مثل ما أشعر به وحسب، وهم حين يدخلون إلى مكان الخوف، فحتى الأحمق يمكنه تقديم سبب واضح، الظلام حالك، الجو بارد، المكان مرتفع، المكان مغلق، هذا مؤلم، هذا قذر وكل ما يشبه ذلك، يمكنهم منحك قائمة بالمخاوف وهذا لأن كل شعور بالأمان مرتبط بالحياة وكل مشاعر الخوف مرتبطة بالموت». فالارتباط بمعنى الخوف يتشكل في الأفكار تبعاً لاختيارات الحياة المتعددة، والتي في مجملها تسعى نحو تحقيق الأمان والابتعاد عن كل ما من شانه أن يثير الخوف. فكيف يمكن الشعور بالأمان ما لم يتم اختبار الخوف، وإن عبرت الروايات الأدبية القائمة على أدب الرعب، وحتى الأدب البوليسي، فالرعب النفسي في نهاية فيلم الفزع يشرح تماماً الأسباب النفسية التي تقودنا إلى البحث عن الأمان والتخلص من الإحساس بالخوف، وهذ يعزز الكثير من الجوانب المثيرة للاهتمام في كتاب سورن كيرككور. فهل الإحساس بالأمان لا يمكن أن يحدث ما لم يتذوق الإنسان الخوف؟ وهل الخوف عند الإنسان يبدأ من السقوط الأول في الحياة أم أن احتضان الأم لطفلها عند الولادة يشعره بالأمان الذي يبحث عنه فيما بعد خلال مشواره الحياتي؟ أم أن سورة قريش القرآنية حملت باختصار معنى الأمن والإحساس به؟

ذو صلة