تشهد المملكة العربية السعودية تحولاً ملحوظاً ثقافياً وفنياً، حيث تتجه إلى فتح آفاق جديدة في قطاع السينما. ويعد الاهتمام المتزايد بالفن السابع في السعودية علامة فارقة تعكس التحولات غير المسبوقة للنظرة السعودية نحو هذا الفن الذي يعد أكثر من مجرد ترفيه. هذا التوجه الفريد يبرز أبعاداً كثيرة تتجاوز مفهوم السينما ترفيهياً، جميعها بفضل رؤية السعودية 2030، وعرابها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان يحفظه الله.
تتسم النظرة السعودية للصناعة السينمائية بنظرة شمولية، حيث لم يقتصر الاهتمام الحكومي على الأفلام بوصفها منتجات ثقافية فحسب، بل عملت على الاهتمام بالأبعاد المختلفة، حيث إن هذا القطاع يتقاطع مع قطاعات عديدة مثل السياحة والاقتصاد والثقافة.. وغيرها، ولهذا نجد أن برامج تحقيق الرؤية، مثل: برنامج جودة الحياة، وبرنامج تنمية القدرات البشرية؛ تضع مستهدفات ومبادرات لخدمة نمو صناعة الأفلام السعودية.
المملكة مركز عالمي لصناعة الأفلام
في فبراير 2020 أطلقت هيئة الأفلام، إحدى الهيئات التابعة لوزارة الثقافة؛ رؤيتها التي تتمثل في سطر واحد فقط، وهو: ترسيخ مكانة المملكة لتكون مركزاً عالمياً لصناعة الأفلام في قلب الشرق الأوسط. بهذه الرؤية الواضحة في المعنى والوصف، والطموحة للغاية؛ ينعكس للمستثمرين والمواطنين المستقبل الطموح الذي يسير إليه قطاع صناعة الأفلام في السعودية.
لتحقيق هذه الرؤية الطموحة فإن السعودية لديها العديد من الممكنات، مثل: العلا ذات التاريخ الممتد لقرون عديدة قبل الميلاد، والتنوع الجغرافي، مثل: الغابات والجبال الخضراء الممزوجة بالقلاع والقرى التاريخية في عسير والسواحل والجزر البكر والممتدة على سـاحل البحر الأحمر.. وغيرها من ممكنات التنوع الثقافي والتاريخي شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً.
ومع وجود جهاز حكومي آخر فإن محافظة العلا سوف تتبوأ مكاناً كبيراً وعنصر جذب واسع بين مناطق المملكة للإنتاج الدولي. وكانت أولى الإنتاجات العالمية التي صورت في السعودية هو الفيلم الهوليوودي قندهار الذي اختار العلا ليكون مكاناً لتصوير الفيلم.
ومن أبرز الأساليب المستخدمة دولياً لجذب الإنتاجات الخارجية هو تقديم حوافز ضريبية تسمى بحوافز الاسترداد المالي، والتي تختلف نسبتها من دولة إلى أخرى، ففي السعودية، وخلال مشاركة هيئة الأفلام في مهرجان كان لعام 2022؛ أعلنت الهيئة عن بدء تطبيق برنامج حوافز الاسترداد المالي بنسبة تصل حتى 40 % من المصاريف المؤهلة للحوافز لدعم الإنتاج السينمائي، هذا القرار الرائع يساهم وبشكل مباشر لجعل السعودية واحدة من أهم الدول الجاذبة لتصوير الأفلام العالمية، ويعزز من مكانتها لتكون مركزاً عالمياً للإنتاج.
ومع وجود هذه المواقع الفريدة كما ذكر أعلاه، ووجود حوافز ضريبية عالية عالمياً؛ فإن القطاع الحكومي لم يتوقف عند ذلك الحد، بل خرجت العديد من المبادرات لتطوير المواهب السعودية من خلال العديد من البرامج التي قدمتها هيئة الأفلام، منها: فيلم العلا ومؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي ومسك الخيرية ومركز إثراء، حيث إن البيئة الجاذبة للإنتاج الدولي لا تحتاج إلى مكان تاريخي وحوافز ضريبية فحسب؛ بل تحتاج إلى مواهب محلية تنفذ الإنتاج بنفس المستوى الدولي.
ولذلك أدرك القطاع الحكومي والقطاع الثالث هذا الأمر مبكراً، ومنذ إطلاق الرؤية في عام 2016، بدأت مسك الخيرية، وأطلقت برنامجاً للتقدم في صناعة الأفلام من خلال ابتعاث بعض صناع الأفلام إلى هوليوود للحصول على دورات قصيرة مكثفة بالشراكة مع أكاديمية نيويورك للأفلام في لوس أنجلوس. ومن ثم خرجت العديد من المبادرات لتطوير المواهب السعودية من خلال العديد من البرامج التي قدمتها وزارة الثقافة وهيئة الأفلام وفيلم العلا ومؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي ومسك الخيرية ومركز إثراء.. وجهات أخرى عديدة.
وما يميز هذه البرامج هو تنوعها من حيث الاهتمام لوظائف فوق الخط ووظائف تحت الخط للعاملين في المجال. وتنوعت ما بين برامج مكثفة قصيرة وبرامج طويلة كالابتعاث الثقافي الذي تقدمه وزارة الثقافة للحصول على درجات علمية مثل البكالوريوس والماجستير في تخصصصات صناعة الأفلام. كذلك تميزت بالتنوع الجغرافي، حيث إن بعض البرامج أقيمت داخل السعودية، وبعضها في دول مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا. قدمت هذه البرامج جيلاً سعودياً من الشباب والفتيات ليساعدوا في تطور ونمو صناعة الأفلام السعودية، ويساهموا في تمكين الإنتاج الدولي حينما ينتج داخل السعودية.
المحطة الأولى للفيلم الدولي في الشرق الأوسط
اليوم وبعد مضي خمسة أعوام على افتتاح أول صالة سينما تجارية، وثلاثة أعوام من إطلاق هيئة الأفلام؛ حققت مداخيل صالات السينما التجارية في السعودية المركز الأول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بإجمالي قدره 250 مليون دولار - بما يعادل 937 مليون ريال. الأكثر إثارة للدهشة هو حينما نشرت مجلة فيراتي الشهيرة تقريراً عن أكبر 15 سوقاً للأفلام في العالم لعام 2022، وحلت السعودية في المركز الرابع عشر متخطية دولاً لها عقود من الزمن تعرض الأفلام وتدعمها حكوماتها بمئات الملايين سنوياً. وأشارت توقعات نشرها الموقع الإخباري الشهير Deadline أن السعودية ستحقق مليار دولار إيرادات تذاكر في عام 2025.
هذا المنجز يقدم للمهتمين بالتجرية السينمائية السعودية درساً مهماً، وهو أن التقدم الدولي يبدأ من العمل المحلي، ويحققه الجمهور المحلي من مواطنين ومقيمين. وفي حال استمرار هذا النمو في أعداد صالات السينما، وفي أعداد مبيعات شباك التذاكر للأفلام؛ فإن السعودية وبحلول 2030 قد نراها بين أكبر عشرة أسواق لمداخيل صالات السينما، لتتخطى دولاً مثل إسبانيا وإيطاليا وروسيا. وبرأيي فإن هذا أحد أهم الوسائل لترسيخ مكانة المملكة في هذا القطاع، من خلال أن يكون لدينا سوق كبير لعرض الأفلام، والذي سيكون بدوره مكاناً مهماً يرغب صناع الأفلام والشركات الدولية الكبرى أن تعرض فيه أفلامهم حينما يفكرون في العرض الدولي.
وبناء على هذه الأرقام فإن المحطة الأولى والأهم لأي فيلم في المنطقة هو السوق السعودي، وأحد أبرز الأمثلة هي الأفلام المصرية التي أصبح بعضها يهتم بالسوق السعودي أكثر من اهتمامه بالسوق المصري، بعدما حققت العديد من الأفلام المصرية إيرادات عالية في السوق السعودية تفوق الإيرادات التي تجنيها في بلد الإنتاج. من أبرزها فيلم (بحبك) لتامر حسني الذي حقق حوالي 58.8 مليون ريال سعودي، وهو أعلى من الرقم الذي حققه في بلده.
كذلك على مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ فإن الشركات الدولية أصحبت ترى السعودية السوق الأهم والأبرز لعروض أفلامها بسبب النجاحات الكبيرة لبعض الأفلام. من أبرزها فيلم Top Gun: Maverick الذي حقق أعلى إيرادات للأفلام لعام 2022، كان السوق السعودي هو خامس أكبر سوق للفيلم بعد الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا بإيرادات تجاوزت 84 مليون ريال سعودي.
هذه الأرقام، والتي معظمها ترصدها جهات دولية مستقلة ومختلفة؛ فإن التجربة السعودية في السينما وخلال خمسة أعوام أصبحت من ناحية تسويق عرض الأفلام هي المحطة الأولى للفيلم الدولي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والمحطة الأهم لأي فيلم عربي ليس خارج بلاده فحسب بل حتى قبل بلد الإنتاج.
التجربة السعودية للأعوام السابقة ملفتة إقليمياً وعالمياً، وحازت على إعجاب دولي واسع. وبتطوير التنظيمات فإن القطاع سيكون مستداماً وجاذباً أكثر للعاملين. وحتى عام 2030 سيكون أمامنا الوقت الكافي لتحقيق المزيد من المنجزات، وجعل السعودية مركزاً عالمياً لصناعة الأفلام في قلب الشرق الأوسط، وبذلك نكون مركزاً للتأثير، ومركزاً للريادة والإبداع.