مجلة شهرية - العدد (577)  | أكتوبر 2024 م- ربيع الثاني 1446 هـ

رؤية المستشرقين للشعر العربي الحديث.. بين التحليل والتأويل

لم يكن اهتمام المستشرقين الغربيين بالشعر العربي الحديث بشكل عام، وحركة الشعر الحر على وجه الخصوص اهتماماً عابراً ولا سطحياً، ولا خاضعاً لقوانين الصدفة التي يؤمنون بها، كما أنه لم يكن نابعاً عن حالة مزاجية طارئة ولا ناجماً عن تطلع شخصي أو ذاتي صرف، وذلك لأن المستشرقين على مختلف مشاربهم الفكرية والأيديولوجية أدركوا أهمية الحركات التجديدية في الشعر العربي المعاصر وشخصوا معطياتها وخصوصاً حركة الشعر الحر.
ولم يقف ذلك الاهتمام على القيمة الإبداعية والجمالية للشعر العربي الحديث فحسب، بل لكونه يمثل موضوعاً جديراً بالبحث والدراسة في كافة المناحي السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية، ومن خلال تلك الرؤية قاموا بتأليف الكتب الكثيرة والدراسات العديدة التي تعاملت معه كظاهرة لافتة ومعطى حضاري، وقبل ذلك قاموا برصد كل حركة وسكنة نجمت عنه ونقبوا عن كل ما قيل وكتب فيه وعنه وملاحقة أدق التفاصيل التي نجمت عنه، ولم يغفلوا عن تسليط حزم ضوء كاشفة على نشوئه وتتبع حركة تطوره، كما قاموا باستقراء جميع معطياته وإفرازاته بعناية فائقة وبرؤية تحليلية تأويلية عميقة.
ومن بين أهم تلك الكتب التي سلطت الضوء عليه كتاب (فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر) لأحمد سمايلوفيتش الذي تناول فيه عدة دراسات استشراقية استهدفت الشعر العربي المعاصر، وبالخصوص ما تم الاصطلاح عليه بالشعر المرسل والشعر الحر، وقد قام برصد الإسهامات المهمة لرواد الشعر الحديث من خلال ترجمة الكثير من أعمالهم إلى لغات أوروبية عديدة، فخلص إلى القول: (وهذا يدل على اهتمام الاستشراق البالغ بهذين الاتجاهين الرئيسين (الشعر المرسل، والشعر الحر) في الشعر العربي المعاصر وتتبع الاستشراق المستمر له). أما إدوارد سعيد فقد تطرق في كتابه (الاستشراق) إلى طبيعة العلاقة بين المستشرقين والشرق بقوله: (كانت العلاقة بين المستشرق والشرق بصورة أساسية تأويلية)، مؤكداً أن المستشرقين سعوا عن طريق الترجمة إلى تقليص حالة الإبهام التي تعتري بعض الظواهر الحضارية أو الثقافية في الشرق، لذلك اتسم حديثهم الذي طال كل ما له صلة بالشرق وبالذات الأدب العربي والحركات التجديدية التي تبلورت فيه بوضوح الرؤية ودقة المعلومة لأنهم: (ترجموا النصوص، وفسروا الحضارات والأديان والسلالات والثقافات والعقليات).
ومما لا شك فيه أن انبثاق حركة الشعر الحر كان من رحم التجارب الحداثية للأدب العربي المعاصر إلى جانب انفتاحها على التجارب العالمية ونجاحها الباهر على المستوى العربي من خلال إقبال الأدباء العرب عليها من جهة، وتقبل الذائقة العربية لها من جهة أخرى، الأمر الذي أدى إلى لفت انتباه المستشرقين إليها وزاد من اهتمامهم المبكر بها، وظهرت محاولات جادة لمعرفة كنه هذه الحركة والتعرف على منطلقاتها، وقد أبدى المستشرقون إقبالاً لافتاً في الاهتمام بنتاجات الرعيل الأول من رواد حركة التجديد الأدبي وامتد هذا الاهتمام إلى شعراء الرعيل الثاني بفضل حضور هذا النوع من الشعر بشكل فاعل في الساحة الثقافية العربية، ومن خلال بعض الإسهامات العربية التي وجدت لها مكاناً في الساحة الثقافية الغربية في آن معاً، وكذلك من خلال الحضور والتفاعل ونشاط أعمال الترجمة لقصائد رواد حركة الشعر الحر أمثال بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وصلاح عبدالصبور ومحمود درويش وأدونيس وغيرهم.
إن القضايا المختلفة التي تبنتها حركة الشعر الحر باعتبارها مرآة للحياة العربية في كافة مناحيها الثقافية الفكرية والاجتماعية والسياسية السائدة في تلك المرحلة الحساسة، جعلت المفكرين الغربيين يدركون أهمية هذه الحركة التجديدية في كشف الشخصية العربية، ما حدا بالمستشرقين أن يشمروا عن سواعد الجد في البحث العميق في كل جزئيات وحيثيات حركة التجديد، وكشف كل ما يتعلق بإرهاصاتها الأولى وظروف نشأتها وملابساتها، وشمل الاهتمام تحليل نتاجات الرواد من أجل الوصول إلى معرفة أهم قضايا الأدب العربي الحديث ومن بينها طبيعة اللغة الحداثية المختلفة التي استطاع الأديب العربي المعاصر أن يوظفها في إبداعه، وكذلك طبيعة القيم الحداثوية التي جسدها الشعر الحر، إضافة إلى الإسهام النسوي الملحوظ الذي أفرز أسماء مهمة في ريادة هذه الحركة أمثال نازك الملائكة وفدوى طوقان وسلمى الخضراء الجيوسي وعزيزة هارون وغيرهن.
من جانب آخر اهتم المستشرقون بدراسة المجلات الثقافية العربية التي ساهمت في إثراء حركة الشعر العربي الحديث، وقاموا بتحليل مراحل مسيرتها، ومن بين هؤلاء المستشرقة الإيطالية مونيكا روكو، التي قامت بتحليل كمي لمجلة الآداب البيروتية وعملت فهرسة لجميع المقالات مع عناوينها، وقامت بترجمتها إلى اللغة الإيطالية ووضعت دليلاً للمؤلفين وآخر للموضوعات لجميع نتاج الآداب منذ عام 1953م إلى عام 1986م، إلى جانب ذلك فإن المعطيات الكبيرة والمهمة لحركة الشعر العربي الحديث قد صارت منطلقات نظرية لكثير من المناقشات المحتدمة والندوات العديدة التي اشترك فيها أيضاً الكثير من المستشرقين أمثال المستشرق ألكساندرو باوساني والمستشرق أمبرتو ريزيتانو وغيرهما.
بالإضافة إلى أن دور الأدباء العرب الحداثيين لم يكن مقصوراً على الصعيد الأدبي الثقافي المحض، بل لعبوا أدواراً مفصلية مهمة ومؤثرة على كافة صعد الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية، وكان لهم دور بارز في إعلاء كلمة الثقافة العربية الرصينة، وتعزيز مكانة المثقف والأديب في المجتمع العربي، وقد كانت لهم مواقف مشهودة ضد التخاذل الثقافي الذي رافق بعض التداعيات السياسية، وإن الكثير منهم قاوم الظروف الصعبة التي كانت سائدة في الكثير من البلدان العربية في ذلك المقطع الزمني الحساس، وإن معظمهم كان مناراً للصمود ومقاومة إغراءات التغرب والتغريب ودعوات هجرة الأدمغة والعقول الخلاقة خارج الوطن.
لقد ظلت حركة الشعر الحر منذ سني إرهاصاتها الأولى إلى يومنا هذا واحدة من أهم قضايا الأدب العربي التي تناولتها الدراسات الاستشراقية، وقد حظي الكثير من رواد حركة التجديد الشعري بمتابعة المستشرقين واهتمامهم، وإن أعمالهم كانت ذات أثر كبير في التلاقح الثقافي بين العالم العربي والغرب بشكل عام، كما كان لكثير من رواد الحداثة العربية صدى واسع في الثقافة الأوروبية.
ويمكننا القول إن هذا الاهتمام الملحوظ من قبل الفكر الاستشراقي الغربي بالأدب العربي الحديث يتساوق من جانب آخر مع الدراسات الثقافية التي اشتغلت على إبراز الأنساق المضمرة في النصوص الأدبية والشعرية منها على وجه التحديد، وإيجاد صلاتها بالسياقات الثقافية والأنثربولوجية والتاريخية التي أنتجتها، وذلك من أجل تفكيكها وتحليلها والوقوف على فهم واضح لها وفق رؤية منهجية ثقافية موسعة، وفي نفس المنحى وبعيداً عن الاستشراق، كانت كتابات الناقد السعودي الدكتور عبدالله الغذامي قد أغنت مسارات البحث والاهتمام بالأنساق الثقافية للأدب العربي القديم والمعاصر وعدم الاكتفاء بالأنساق الجمالية له، وقد أوضح ذلك من خلال جملة كتاباته ومحاضراته ومؤلفاته التي رسمت معالم واضحة للنقد الثقافي العربي، باعتباره بديلاً معرفياً ومنهجياً للنقد الأدبي، ومن أبرز ما دعا إليه الدكتور الغذامي في أطروحته: الحفر العميق في النصوص الإبداعية، بغية كشف الأنساق المخبأة الغائرة في أعماقها.

ذو صلة