مجلة شهرية - العدد (577)  | أكتوبر 2024 م- ربيع الثاني 1446 هـ

ثريا وعائشة والقويز.. سيرة ذاتية وتاريخ شخصي لعائلاتهم

عادة ما يذكر كتاب السير الذاتية (إلحاح أصدقاء) دافعاً لما يقدمون عليه، أما بالنسبة لي فأنا ذاك الصديق الذي كان لا يكف عن محاولة إقناع عبدالعزيز المنقور بالإقدام عل هذ العمل. لم يكن في حالة رفض تام، بل تحين لحظات يشعر فيها بضرورة ذلك. كنت أقترح مقربين على معرفة بكتابة السير أن يساعدوا في تبني هذا المشروع عبر لقاءات معه للاستماع لأقواله والقيام بصياغتها دون التأثير في المحتوى. لم يكتب لهذه المحاولات النجاح لكنه استساغ فكرة تسجيل أحاديثه معي، فقررنا السفر إلى أبوظبي للانعزال والتركيز على إنجاز المشروع.
لازلت أحتفظ بشذرات من نسخي لحديثه الذي يتناول فيه قصة حياته من أيام التقشف والكفاف عبر مسيرة أعماله ونشاطاته وعلاقاته. لو تمت كتابة السيرة لربما تردد في نشرها لما فيها من تفاصيل وصراحة، لكنها لاشك كانت ستكون فريدة لأن صاحبها لا ند له. ولو اقتصرت على فترة عمله كملحق ثقافي في أمريكا لكان فيها ما يشي عن بعض جوانب من شخصيته الفذة. يرد اسمه في كل السير التي تتضمن مرحلة تعليمية في أمريكا، لكن بطبيعة الحال منظورها محدود، فمن لا يذكر المنقور إلا بصفته الرسمية فهو لا يعرفه.
على خلاف المعتاد، تأتي مسألة الدافع لكتابة سيرة ثريا التركي في الصفحات الأخيرة من (حياتي كما عشتها)، فهي لم تصادف (في حياتي شيئاً يخصني حظي بإجماع أصدقائي وزملائي شبيهاً بالإلحاح علي لتدوين تجربتي في الحياة).
في كتاب محمد القويز (البحث في زمن مضى:سيرة أبي ومسيرتي في التعليم) الذي بدأ كـ(لمحات من سيرة) أبيه إلا أن (البعض أشار عليَّ أن أكملها بسيرتي الذاتية بعد 1975) ويبرر عدم اقتناعه بالفكرة لشعوره بالخصوصية في حياته وفقدان ما يهم القراء، ولو أنه استثنى تجربته في مجال التعليم. كان الرفض هو ردة فعل الأنثروبولوجي بينديكت أندرسن على إلحاح تلميذه الياباني كتابة سيرة حياته لأن (الأساتذة الجامعيين في الغرب نادراً ما تكون حياتهم محط اهتمام). لكنه مثل بقية كتاب السير رضخ لأن تلميذه كان من أعز أصدقائه، وشعر بالرضا لأنه لن يستطيع قراءة الكتاب باليابانية. تستهل عائشة المانع سيرتها (حدّ الذاكرة) بفصل عن والدها، وللأب دور محوري في سيرة التركي وإن لم تخصص له صدر مؤلفها مثل القويز والمانع.
في الواقع يجتمع الثلاثة في تقدير دور الأب الأساسي، خصوصاً في التعليم وكونه وراء التحاقهم بمدارس خارج المملكة، في مصر ولبنان. إن تجاربهم متقاربة لدرجة أن التركي والقويز درسا في نفس المدرسة Manor House في مصر في نفس الفترة. وتأتي فرادة الآباء في إلحاقهم بمدارس إنجيلية يسوعية Jesuit على طلابها ممارسة الشعائر المسيحية. ولم يترددوا في إسكانهم مع عوائل غربية، بعضها مسيحية الدين. في هذه الفترات جرت أحداث سياسية يأتي ثلاثتهم على ذكرها بوجهات نظر متشابهة. يدينون لهذه المدارس بمستوى التعليم الذي اكتسبوه ولتجاربهم التي وسعت آفاقهم وخلقت صداقات بعضها استمر.
لم تكن العلاقة مع الأب دائماً على وفاق. نجد القويز يشير إلى رسالة والده (المداعبة) بخصوص زواجه في الخارج، لكن بعض التأزم تخلل علاقة كل من ثريا التركي وعائشة المانع بأبيهما. يعترض الأب بشدة على اختيار عائشة المانع علم الاجتماع كتخصص، فقد كان (غاضباً ومستاء بشكل كبير)، كما يرفض رفضاً تاماً سفرها لأمريكا للدراسة. تقدر ثريا (مرونة) أبيها في تقبله دخولها الجامعة وهو يعلم بالاختلاط فيها. تأتي على ذكر أحداث لجأ فيها إلى العنف في العقاب. ما يميز صلة القويز بأبيه هو اعتمادها على رسائل فيها شيء من ندية الصداقة.
تزخر السير الثلاث ليس بالأب فحسب ولكن ببقية أفراد العائلة، خصوصاً الأم. في ختام كتابه يخصص القويز صفحات لـ(سيرة مختصرة) لعمه. تتناول ثريا التركي بالتفصيل العلاقات بأمها وأخواتها وخالاتها، وتجعل لأخيها الوحيد منزلة خاصة. وبالنسبة لعائشة المانع (العائلة تعني كل شيء)، وتضع نفسها - بالنسبة لأشقائها وشقيقاتها - بمنزلة الأب والأم. تنشأ لاحقاً بعض الخلافات بينها وبين إخوتها في مسائل عمل، وتقع حالات تأزم في علاقة ثريا التركي بشقيقها في قضية الزواج. من ناحية هذه سير ذاتية، ومن ناحية أخرى هي تاريخ شخصي للعائلة ككل. هذه السير تلقي الضوء (لمحات في حالة القويز) على إسهام تاريخ العائلة في تكوين الذات، فهي تركز على الماضي وتلم بالعلاقات الأسرية الرأسية لكنها عادة لا تشمل الأبناء ولو أن أسماءهم ترد في قائمة الإهداء. وربما تكوّن هذه السير مادة للأبناء ليكتبوا هم سيرهم الذاتية.
هذه مرحلة تجاه كتابة السيرة الذاتية لا تزال الأسرة تحظى فيها بالأهمية القصوى، والفرد وإن تمرد أو اختلف فهو مازال لصيقاً بعائلته ومجتمعه. بعد ذروة مرحلة الكتابة عن القبائل التي سادت في ثمانينات القرن الماضي تأتي هذه المرحلة الوسيطة. لم يعد الحديث عن الأسر يركز على تمجيد النسب والصلات النخبوية، ويبزغ دور الفرد في تطلعاته التي قد لا تتواءم تماماً مع نظرات الآباء والمجتمع. لم يختف تماماً الانتماء لأسر ذات منزلة اجتماعية رفيعة تمتلك مستعبدين. هذا التمايز بين المنزلتين يجد تبريرات دينية وتقليدية لا أساس لها، في الوقت الذي يتبرأ الكتاب الغربيون من اكتشاف استعباد في تاريخ أسرهم، وأصبح متقبلاً بل مستحباً وجود أشخاص في نسب العائلة من المضطهدين، هذا مع أن الاستعباد بشكل تجاري وحكومي هو صنيعة الغرب، وحالات الاستعباد المحلي في معظمها اختطاف داخلي وخارجي استفادت منه النخب المتسلطة.
لئن تجاهلتا تعقيدات الاستعباد، فإن نظرات وجهود كل من ثريا التركي وعائشة المانع هي النهوض بالمجتمع ومجابهة المناوئين لتقدمه، وخلق فرص أفضل لوضع المرأة. هنّ يرفضن المجتمع الذي نشأن فيه لقيوده الكثيرة رغم تمتعهن بميزات مريحة. يتميز كتاب السير عمن حولهم من عائلة وأصدقاء، فهم يجازفون بالإساءة لأهم مسلمات المجتمع المحافظ: السرية التي تعد جوهرية لحفظ أسرار العائلة وإخفاء الفضائح. هنا تتميز ثريا التركي بالحديث عن قضايا أسرية قلما يتجرأ الكثيرون على تناولها حتى داخل الأسرة.
أغراض كتابة السيرة الذاتية مختلفة لكن لعل التركيز على الإنجازات سببه شعور الكتاب أن إسهاماتهم غير معروفة وغير مقدرة. لا توجد وسائل لطرح مرئيات القويز عن التعليم، فليست هناك منصات أو صحف لهذا الغرض. وليس هناك من مجالات لنشر ومناقشة القضايا التي تثيرها المانع. وليس في السعودية معرفة بإنجازات التركي الكثيرة والمتنوعة، بل حتى كتابها عن عنيزة كان ممنوعاً عند صدوره. وبما أننا نتحدث هنا عن إنجازات، فإن كتاب السير يتبارون في التعريف بتميزهم عن سواهم ويسعون لنيل التقدير من أندادهم.
عندما رأيت العنوان الفرعي لكتاب ثريا التركي ( من عنيزة إلى كاليفورنيا) تذكرت اقتراح صديق مشترك على زميلي وأحد أعز الأصدقاء محمد القويز كعنوان (من الحنبلي إلى الزمالك)، بما للحنبلي من دلالات تتجاوز اسم الحي الذي ولد ونشأ فيه. فعنيزة عزيزة على ثريا التركي وإن لم تزرها إلا عند قيامها ببحث كتابها(*)
في كتابه (الماضي بلد أجنبي - مراجعة)، يقول ديفد لوينثال إن الكثيرين يحتفظون بصلة بماضيهم في أماكن ولدوا فيها أو عاشوا فيها فترة طويلة، وليس بالضرورة أن تكون تلك الأماكن رائعة لا تنسى. ولتنقلها الكثير واستقرارها في الخارج فإن الحنين إلى الوطن المتخيل لا يخفى: (عدم وجود صلات في الأراضي الجديدة يقود كثيراً من المهاجرين إلى إضفاء طابع رومانسي على أرض الآباء القاصية. صلات عاطفية لولاس ستجنر بالنرويج بلد أجداده التي لم يزرها قط خففت من وطأة حياته في العالم الجديد).
ما يميز كتاب ثريا التركي أن الأحداث تشكل مادة لنظراتها وتأملاتها. إنها تأخذنا معها في علاقاتها الدقيقة مع أختيها وأخيها، وتفصّل نشأة الصداقات التي كونتها، في تعاملها مع زملائها وتحضيرها للمقابلات والامتحانات والنشر، بطريقة مشوقة نتعرف على شريكيها والمشاعر الرقيقة والدقيقة المتبادلة. في أحيان كثيرة يكون للصدفة دور حاسم، سواء في دراستها أو علاقاتها. لأول وهلة شعرت أن صدفة ذهابها إلى بيركلي متكلفة لكني وجدت في سيرة بينيديكت أندرسن حزّة مماثلة. يذكر أنه بعد تخرجه من أكسفورد عرض عليه زميل له أن يحل مكانه لتدريس علوم سياسية في جامعة كورنيل، وهو لم يكن على معرفة بهذا التخصص.
(كان يوم حبك أجمل صدفة) هو عنوان أحد فصول كتاب ثريا التركي، وهذا مثال من أسلوبها، فهي تقترب من القارئ بتعبيراتها البسيطة والمتداولة فكأنها تتحدث لصديق. تعتمد في ذلك أحياناً على تمكنها من لهجات مختلفة، فهي تجعل أباها جداوياً حين يخاطبها (إلّا قوليلي حبيبتي، الجامعة اللي إنت فيها بها أولاد)، (إذا طلبت لبن عصفور يحضره لي). توجه بعفوية حديثها لأخوات وأصدقاء بالكلمة التي لا تزال تستعمل بكثرة: سامحيني/ سامحني. في مراجعة مسعود ضاهر لكتابها عن عنيزة وصفه بالممتع وهذا ينطبق أكثر على سيرتها.


(*) كتابها عن عنيزة ألفته بالتعاون مع دونالد كول، وترجم إلى العربية تحت هذا العنوان (عنيزة: التنمية والتغيير في مدينة نجدية عربية). ترجمه إلى العربية جلال أمين وأسعد حليم.

ذو صلة