الإبداع والنقد من الأنشطة الاجتماعية التي صحبت الإنسان منذ نشأته، فالإنسان مبدع بطبعه في مختلف مجالات الحياة، ومنها الأدب، وعندما يوجد الأدب يصحبه النقد، فالمبدع هو الناقد الأول لإبداعه، إذ يصحب عملية الإبداع عملية إمعان النظر في الأفكار أولاً، ثم تحضر عملية المراجعة لما يبدعه، وحتى ارتجال الشعر يمر بمرحلة من مراحل النقد تتمثل في المراجعة السريعة، ونجد هذا ظاهراً عندما يتوقف الشاعر، فيعدّل مفردة من مفرداته، وهو بهذا الفعل يمارس صورة من صور النقد.
وأشير بداية إلى أن النقد -بمفهومه الواسع- يدخل ضمن مناحي الحياة المختلفة، ويبدأ من نقد الإنسان لذاته، وعلى سبيل المثال، نجد أن الإنسان يمارس نوعاً من أنواع النقد، بمفهومه الواسع، عندما يقف أمام المرآة، لتعديل هندامه.
والنفس البشرية مجبولة على النفور من النقد، وفي مجال الفنون والآداب يتضخم هذا الشعور، نظراً لخصوصية التجارب الفنية والأدبية. ومن هنا يمكن وصف علاقة الإبداع بالنقد بأنها علاقة جدلية، فالإبداع هو مادة النقد التي يعمل على إبرازها وتفسيرها والاحتفاء بها، واستنباط النظريات الأدبية والمناهج النقدية منها. ولا يمكن تصور وجود نقد أدبي دون أدب والعكس.
وارتبطت نشأة النقد الأدبي بنشأة الأدب ذاته، فالناقد الأول هو المبدع ذاته، وبعد عرض شعره على الآخرين بأي صورة كانت، يظهر النقد بصوره المختلفة، فإقبال المتلقين على الأديب أو نفورهم منه، صورة من صور النقد، وإبداء علامات الإعجاب أو الرفض صورة أيضاً، وهذا في مرحلة البدايات، وهي صورة ما زالت حاضرة إلى يومنا هذا. وبعد ذلك تطور الأدب مصحوباً بتطور النقد عبر العصور المختلفة، فظهر ما يعرف بالنقد الأدبي، مع اختلاف وظائفه عبر العصور، وتعدد مشاربه ووسائله.
ولست هنا بصدد الحديث عن تاريخ الأدب ونقده، فالمراد هنا كشف اللثام عن العلاقة بينهما.
وبعد الإشارة إلى التلازم والترابط بينهما، سيقتصر حديثي عن تلك العلاقة في تراثنا وحاضرنا، من خلال إبراز نماذج تمثل تلك العلاقة الجدلية.
ولو شددنا الرحال إلى العصر الجاهلي سنجد النابغة الذبياني في سوق عكاظ، يفد عليه الشعراء، ويلقون عليه قصائدهم، فيفاضل بينهم ، وقصته المشهورة مع الأعشى وحسان بن ثابت والخنساء، إذ قال النابغة معلقاً على شعر الخنساء: (لولا أن أبا بصير أنشدني لقلت إنك أشعر الجن والإنس، فقال حسان: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك ومن جدك، فقبض النابغة على يده، ثم قال: يا ابن أخي إنك لا تحسن أن تقول مثل قولي..). وفي رواية أنه وصف الخنساء بأنها أشعر النساء، ولم يعجبها حكمه، فذهبت إلى أنها أشعر النساء والرجال أيضاً. من النموذج يتضح توتر العلاقة بين من يقوم بعمل الناقد والمبدعين.
وفي العصر الأموي برزت الخصومة بين الفرزدق واللغويين الذين وجدوا في شعر الفرزدق مادة ثرية للنقد اللغوي، وكان الفرزدق يرد عليهم بحدة ظاهرة، تعبر عن تمرده عليهم، ورفضه لنقداتهم، ومن ذلك قوله: (علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا).
أما قمة توتر تلك العلاقة فظهرت في الصراع بين المتنبي وخصومه من اللغويين والنقاد، فكانت مجالس سيف الدولة الحمداني ميداناً لذلك الصراع، وتبع ذلك تأليف مجموعة من الكتب والرسائل التي سعت إلى إبراز مساوئ شعر المتنبي وسرقاته، وفي المقابل هناك من سعى إلى إنصافه. فعلاقة المتنبي بوصفه ممثلاً للإبداع بالفريق الآخر الذي يمثل النقد، تقدّم لنا صورة من أوضح صور توتر تلك العلاقة.
وما سبق يمثل إشارات عابرة تناسب المقام، وتوضح لنا تلك العلاقة المتوترة بين الإبداع والنقد، وإذا ما انتقلنا إلى العصر الحديث نجد أن كثيراً من النقاد كانوا من الأدباء، واحتدمت الخصومة بين الرواد، مثل: العقاد والرافعي وطه حسين وغيرهم، ونشأت بينهم معارك أدبية حادة، وحسبنا الإشارة هنا إلى كتاب (على السفود) لمصطفى صادق الرافعي، ويمكن الاطلاع على كتاب (المعارك الأدبية) لأنور الجندي، لنقف على توتر تلك العلاقة.
وظلال تلك المعارك انتقل من مصر إلى البلاد العربية الأخرى، ومنها مشهدنا الثقافي، خصوصاً في مرحلة البدايات، نظراً لريادة مصر في تلك المرحلة.
وفي مرحلة البدايات كانت الصحافة الناشئة مؤثرة في الحركة الثقافية في بلادنا، واحتضنت الأدباء، ومارس بعضهم دور الناقد، لأن النقد الأكاديمي لم يحضر بعد على الساحة الأدبية في تلك المرحة، ونلحظ أن الصورة كانت صورة مصغرة لما كان في مصر، لكن الصراع بلغ ذروته في معركة الحداثة، وكان الشعر ميدان تلك المعارك، فهو الجنس الأدبي الأكثر حضوراً في تلك المرحلة.
وجه النقد الإبداع في تلك المرحلة، حيث أيقن بعض الشعراء أن شعر الحداثة هو النموذج الجدير بالاهتمام، فبدا الإبداع خاضعاً للنقد، والطرف الآخر على النقيض. ومن هنا يمكن القول: إن الحداثة أثّرت في الإبداع ووجهته، فتبنت شعر التفعيلة، وبعد ذلك قصيدة النثر، وخصوم الحداثة، نقدوا بقوة ذلك التوجه عند النقاد والمبدعين على حد سواء.
ومن خلال متابعتي للمشهد الثقافي في تلك المرحلة أجد أننا -حالياً- تجاوزنا ذلك الصراع بين الإبداع والنقد الذي تبنته الصحافة والمنابر الأدبية، وأعيد السبب في ذلك إلى بروز الدراسات العلمية التي تبنتها الأقسام العلمية في الجامعات، إذ تطور مفهوم النقد في تلك الدراسات من مجرد المدح أو القدح، إلى تقديم قراءات نقدية جادة، تقوم على مناهج نقدية تتوخى -غالباً- العلمية، وتتجاوز الذاتية المحضة.
ومن هنا كان لحضور النقد العلمي الموضوعي في مشهدنا الثقافي أثره في تخفيف حدة التوتر بين الإبداع والنقد، وضعف أثر الصحافة الورقية التي كانت ميداناً من ميادين تلك الصراعات، في مرحلة سابقة، والقضية لها وجهان: إيجابي وسلبي. وهنا أصف ولا أنقد دور الصحافة المهم في ثقافتنا الحديثة، فهذا له بحث آخر.
نشهد -حالياً- مرحلة هدنة بين الإبداع والنقد، فبدت العلاقة طبيعية، يسودها التكامل والتناغم النسبيين، حتى بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وظهور ما يعرف بالأدب الرقمي، بمفاهيمه المختلفة، وصحبه النقد، بقيت تلك العلاقة في الحدود المعتادة في مشهدنا الثقافي.
وهذا لا ينفي أنه في المرحلة الأخيرة وقفت على بعض محاولات إعادة المشهد إلى سابق عهده، لكنها لم تنجح، والأسباب متشعبة، منها: فهم طبيعة الإبداع من قبل كثير من النقاد، والتزام الموضوعية في النقد قدر الإمكان، بحكم التخصص والدراسة، يضاف إلى ذلك أن بعض النقاد هم من الأدباء، وتراجع دور الصحافة الورقية، بعد الانفتاح على وسائل التواصل المختلفة، وهناك أسباب أخرى لا يتسع المجال لذكرها، في هذا المقام.
وختاماً أرى أن مشهدنا الثقافي في هذا المرحلة يشهد إيجابية في العلاقة بين الإبداع والنقد، إذ تجاوزنا مرحلة الصراع لأجل الصراع، فالإبداع هو مادة النقد، والنقد هو من يُعرّف بالأدب، ويحتفي به، ويؤصل له، ويرصد حركته وتطوره، ويرسم ملامح أجناسه، وغيرها من الوظائف.