بنت الشاطئ (عائشة عبدالرحمن) اسم لمع كثيراً في واحدة من أقدم الصحف العربية (الأهرام)، بما سطره قلمها من أفكار ورؤى وتحليلات تناولت العديد من قضايا الفكر الإسلامي والثقافة العربية، خاضت من جرائها معارك حامية الوطيس، إثر اصطدامها بعدد من أنصار الاتجاهات الفكرية الأخرى. كما تردد الاسم كثيراً في أروقة الجامعات العربية بمؤلفاتها في الأدب واللغة والدراسات القرآنية، وفي الصالونات الثقافية والفكرية حيث الإشادة أو النقد لما حملته مؤلفاتها من أفكار. غير أن بنت الشاطئ لم تأبه بما قد يجره إصرارها على ما تؤمن به من أفكار، من عواقب قد تنال منها في الحال أو في المآل، وقد بلغ بها تمسكها بأفكارها، وبعضها عارضت بها سياسات الدولة (مصر) في ستينات القرن الماضي، بعد أن جهرت بها في أحد المؤتمرات العلنية وأمام رئيس الدولة نفسه.
لكن هذا الاسم الذي لمع بوهج بريقه في بلاط صاحبة الجلالة، وفي عالم الفكر، وفي صالونات الثقافة، وفي المنتديات الأدبية، فضلاً عن رحاب الجامعة، ما نال هذه الشهرة إلا بإخلاص من تحمله لفكرها، وتفانيها في أداء رسالتها، وشديد حرصها على تجويد عملها، وشغفها بالحقل المعرفي الذي ملك عليها كل انشغالاتها، ناهيك عن تجرد عملها من أية منافع تجلب لها.. أو تدفع عنها.. تقربها.. أو تبعدها. وقد أدرك القائمون على الأمر ذلك كله، فتوج هذا الاسم بعديد من الجوائز والأوسمة داخل مصر وخارجها كان أرفعها جائزة الملك فيصل العالمية عام 1994م، إذ كانت أول امرأة تمنح هذه الجائزة، وجاء في قرار المنح أن استحقاقها جاء لتميزها بغزارة الإنتاج، خصوصاً في التفسير البياني للقرآن الكريم. فضلاً عن أن تحقيقها للنصوص النثرية العربية ودراساتها حولها، كان جزءاً مهماً من جهدها الكبير في الربط بين العربية والإسلام، على أساس من منهج موضوعي سليم.
الشخصية وعوامل التشكل
عوامل كثيرة ساهمت في تشكيل شخصية بنت الشاطئ، يمكن القول إنها عملت معظمها في فترات زمنية متباعدة، وربما بعضها تشابك في فترة زمنية واحدة، لتنتج كلها هذه الشخصية الفريدة أو الشخصيات في آن واحد؛ لسيدة وزوجة وأم وعالمة وأديبة، في شمال دلتا مصر في منتصف نوفمبر عام 1912، ولدت وترعرعت في بيئة أزهرية محافظة، لها نسقها الثقافي وقيمها ذات الرافد الصوفي الصافي، ثم في رحاب الجامعة المصرية حيث نسق، بل أنساق أخرى تجمع بين العتيق والحديث، ومنها ما يهيم ولعاً بالحديث الغربي. ثم هناك التواصل الحميم مع الأساتذة الذين لهم باع طويل في الدرس العربي، وفي واسطة العقد منهم الشيخ أمين الخولي الذي كان له من الأثر ما جعل الطالبة عائشة عبدالرحمن تغير بوصلة توجهها البحثي أو لنقل المنهجي، ويتوثق هذا التواصل حيث يقترن الأستاذ بتلميذته في زواج ناجح، بعد أن رأى فيها مشروعاً علمياً يحتاج إلى بعض التوجيه والمتابعة يمكنه بكل جدارة أن يضيف إلى المنظومة الفكرية التي ينتمي إليها. وقد أثمر هذا الزواج فكراً جديداً مع خلف لم يكتب لهم أن يعيشوا طويلاً في حياة أبويهما، ثم هناك العطاء الذي لم ينقطع عن جريدة الأهرام، وعن التدريس لعدد من التخصصات في الجامعات المصرية والعربية ختمت بجامعة القرويين في المغرب، إضافة إلى محاضراتها في الملتقيات والندوات كما أسلفنا.
مؤلفات ثرية
امتازت (بنت الشاطئ) عن غيرها بجمعها النادر بين الدراسة العميقة لعلوم الإنسان وعلوم العربية، حيث قررت البيان القرآني أصلاً للدرس البلاغي، والدلالات القرآنية أصلاً للدرس اللغوي، والشواهد القرآنية أصلاً للدرس النحوي، ومنهج علماء الحديث أصلاً للمنهج النقلي وتحقيق النصوص وتوثيقها. وكان تحقيقها للنصوص نموذجاً جيداً في خدمة النص وتذليل ما فيه من عقبات، وتقريبه إلى القارئ والباحث بتوضيح ما فيه من غموض وتصحيح ما اعتراه من تصحيف أو تحريف.
وقد أثمر هذا التلاقح العلمي والتكامل المعرفي عند بنت الشاطئ، مجموعة من المؤلفات الثرية في الدراسات اللغوية القرآنية، وفي الدراسات الفكرية والأدبية وفي السيرة النبوية، فضلاً عن كم كبير من المقالات التي اعتادت على نشرها في جريدة الأهرام المصرية وعالجت فيها كثيراً من القضايا المختلفة، ولعل من أبرز هذه المؤلفات: التفسير البياني للقرآن الكريم، القرآن وقضايا الإنسان، تراجم سيدات بيت النبوة، رسالة الغفران للمعري، الخنساء الشاعرة العربية الأولى، مقدمة في المنهج، قيم جديدة للأدب العربي، على الجسر.. سيرة ذاتية، سيدة العزبة رواية مصرية واقعية، الحياة الإنسانية عند أبي العلاء، رجعة فرعون رواية واقعية مصرية، صور من حياتهن مجموعة قصصية، سر الشاطئ مجموعة قصصية، الشاعرة العربية المعاصرة، أبو العلاء المعري، على الجسر رحلة بين الحياة والموت، مقال في الإنسان، لغتنا والحياة، مع المصطفى، القرآن والتفسير العصري، مع أبي العلاء في رحلة حياته، القرآن وقضايا الإنسان، الإسرائيليات في الغزو الفكري، أرض المعجزات.
إخلاص للرسالة منقطع النظير
امتد هذا العطاء منذ عرف اسم (بنت الشاطئ) ككاتبة على صفحات جريدة الأهرام حتى وافتها المنية عام 1419هـ / 1998م، عن عمر ناهز خمسة وثمانين عاماً، وقد حرصت بنت الشاطئ على أن يظل هذا العطاء ممتداً لقرائها وطلابها ومتابعيها في المؤتمرات والندوات رغم المحن التي كادت تعصف بحياتها، حيث تتابعت عليها، فلم تثنها عن أداء رسالتها المقدسة تجاه الفكر والثقافة، ولم تنل هذه المحن من قوة عزيمتها في أداء واجباتها أو القيام بمسؤولياتها على أفضل ما يرجى. ومن العجيب والنادر ما تحكيه تلميذتها الدكتورة سهير خليفة أن أستاذتها الدكتورة بنت الشاطئ ما تخلفت ولا تأخرت يوماً عن محاضراتها في الجامعة، وتخص بالذكر ما أقدمت عليه حين فاجأت الطلاب بحضورها لاختبارهم شفهياً بعد وفاة زوجها الشيخ أمين الخولي بيوم أو يومين.
ونراها في كتابها (مقال في الإنسان) الذي صدر في مارس 1969م تكتب الإهداء لزوجها الراحل (الشيخ أمين الخولي) الذي غيبه الموت في ذات التاريخ. وتستمر في أداء رسالتها، إذ لم يصرفها هذا المصاب الجلل في أستاذها وزوجها عن واجباتها، بل كان واحداً من الدوافع إلى أدت إلى صدور كتابها التالي: (الإعجاز البياني) في عام 1971م بعد سنتين من فجيعتها في الأستاذ الزوج.
وتواصل بنت الشاطئ رحلتها في رحاب العلم، وفي أداء رسالتها السامية تجاه طلابها وقرائها، لكن أعاصير المحن لم تكف عن استهدافها، فبينما هي تعد للطبعة الجديدة لكتابها (مع المصطفى صلى الله عليه وسلم)، إذ بها تفجع في ابنها المهندس الشاب (أكمل أمين الخولي)، لتجعل خطاب الإهداء في هذا الكتاب مخصوصاً لهذا الفقيد، ولنقرأ كلماتها في وصف هذه الفجيعة وأثر هذا الحادث عليها، تقول: (فقدتك فجأة في عز شبابك.. فتصدع كياني وأوحشت دنياي وكأني فقدت إرادة البقاء..)، لكن تسليمها بقضاء الله وإصرارها على إكمال رسالتها جعلها تتغلب على ما ألم بها، فتقول: (وفيما كنت تحت وطأة المحنة الصعبة أطوي أوراقي وأنطوي على نفسي الضائعة، إذا بطيفك حياً شاخصاً ماثلاً أمامي، ملء بصري وسمعي، ملء قلبي وخواطري ورؤاي، يشد من أزري بصحبة الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، فأجمع شتات نفسي الضائعة وكياني المتداعي، لأرفع إليه صلوات الله وسلامه هذا الكتاب: زكاة وقربى ونجوى.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين). بهذا التسلح الإيماني جعلت الأم المكلومة من المحنة منحة، ومن المصيبة تجلداً وقوةً وإصراراً، حملها على عبور الأزمة دون خسائر نفسية أو بدنية أو مادية، ومن ثم خرج للنور هذا الكتاب في طبعته الجديدة متوشحاً بهذا الإهداء.
أما إهداؤها الأخير في كتابها (مقدمة ابن الصلاح) فكان لكل من فجعت فيهم، وكلهم من أفراد أسرتها أصولاً وفروعاً ونسباً: أبيها الشيخ محمد عبدالرحمن، ووالدتها السيدة فريدة عبدالسلام، وزوجها وشيخها أمين الخولي، وابنتها فقيدة العلم والشباب الدكتورة أمينة أمين الخولي التي فجعت فيها بينما كانت تنتظم في دراستها العليا في جامعة فينا.
هكذا عاشت بنت الشاطئ، وهكذا تحملت، وهكذا صمدت، لقد استطاعت أن تعبر كل هذه الخطوب، لتواصل رسالتها المقدسة في التأليف والتدريس والإشراف العلمي على طلابها، فضلاً عن مقالاتها. وذلك بعد أن فقدت الأم، والأب، والزوج، والابن، والابنة. إن واحداً فقط من هذه الخطوب خصوصاً من الثلاثة الأخر كفيل بأن يجعل المصاب بها في انهيار لا يستطيع بعدها أن يستجمع قواه، لكي يعيش حياته كما كان من قبل، فما بالنا بمن يرزأ بكل هذه النكبات!
ولا مبالغة في القول، حين نخلص إلى أن هذه العالمة الجليلة ما كان نجاحها المنقطع النظير وسط هذه الظروف الحالكة التي أحاطت بها، وكادت أن تأخذ بها في أقل التأثيرات بعيداً عن مشروعها الذي وهبت نفسها له، هذا إن لم تكن مؤثر مزلزل يمكنه أن يحدث تصدعاً في كيانها، وشدة في اعتلال صحتها النفسية والبدنية. ما كان ذلكم الإنجاز ليكون إلا لأن قوة إيمانها بالله، ثم بدورها الرسالي الذي نهضت به بإخلاص تجاه أمتها، ظل أقوى من كل ما حل بها. وإنها بذلكم لخير أنموذج في عصرنا لكل من يحمل أمانة العلم والدرس، امرأة كانت أو رجل. وبمثل هذا الأنموذج تفخر الأمم، وتتقدم الشعوب، وتزدهر الحضارات، وتنهض المجتمعات.