مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

موقع العقل في جسم الإنسان: دلالات رمزية

من السمات الرئيسة التي يتصف بها القرنان العشرون والحادي والعشرون ما أصبح يسمى بالانفجار العلمي والمعرفي في كل الميادين تقريباً. فالبحوث العلمية في المجتمعات المتقدمة كشفت لنا الكثير من المعلومات حول الكون، وحول كوكبنا الأرضي، كما أنها أمدتنا برصيد معرفي هائل حول الظواهر الاجتماعية في مجتمعاتنا وحول الدوافع والقوى المحركة لشخصياتنا كأفراد وجماعات وحضارات وثقافات.
إن ما نريد إلقاء الضوء عليه في هذه السطور هو ظاهرة العقل البشري كمستعمل ماهر لما نسميه الرموز الثقافية (اللغة والتفكير والمعرفة والعلم والدين والأساطير والقيم والمعايير الثقافية). نستعين في تحليلنا هذا بالمعطيات العلمية الحديثة ومعطيات التراث المعرفي الإسلامي بخصوص العقل الإنساني وقدرته على الاستعمال الكمي والكيفي المتميزين لعالم الرموز الثقافية. فدراسة المخ والعقل والتفاعل بينهما أصبحت ميداناً يحتل اليوم الصدارة عند العلماء والباحثين في المجتمعات الحديثة.

ويمكن القول من الناحية العلمية إن المخ هو الإطار العضوي الذي يهيئ الظروف اللازمة لظهوره ظاهرة العقل. فالمخ البشري طالما نظر إليه من طرف العلماء المتخصصين في علم التشريح والأعصاب بأنه أعقد شيء في الكون. فهو يتكون من عدد ضخم من الخلايا حيث تتخصص 100 بليون منها في تكوين شبكة الاتصالات العجيبة التي تؤدي بدورها إلى بروز وتبلور ظاهرات الذكاء والابتكار والعواطف والشعور والذاكرة. وهي ملامح يتميز بها الإنسان إلى حد كبير عن غيره من بقية الكائنات الحية وأصناف الاختراعات الحديثة للذكاء الاصطناعي. فالدراسات في كل من علم النفس وميدان الذكاء الاصطناعي تجمع على أن الذكاء الإنساني يتمتع بقصب السبق على كل من ذكاء الدواب الحية الأخرى, وأذكى آلات واختراعات العصر الحديث في الذكاء الاصطناعي. وباختصار، فما يميز ظاهرة الذكاء الإنساني عن غيرها هو مرونتها وقدرتها المتنوعة في التعامل مع الأشياء المختلفة التي تعترض سبيل الإنسان. فبينما يتفوق الكمبيوتر عموماً على الإنسان في السرعة والدقة في تعامله مع حساب الأرقام يظل الإنسان متميزاً عليه في عمليات استعمال اللغة والتفكير والابتكار.
الإنسان كائن ثقافي بالطبع
وكما أشرنا، يتفوق الكائن البشري على كل من عالمي الدواب الحية وأجهزة الذكاء الاصطناعي المختلفة في ما يسمى في العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة بعالم المنظومة الثقافية: اللغة والتفكير والمعرفة والعلم والدين والأساطير والقيم والمعايير الثقافية. فهذه العناصر هي بالتعبير الإنثروبولوجي اللبنات الأساسية التي تكون المجال الثقافي عند الجنس البشري وهي التي تجعل منه كائناً ثقافياً بالطبع. ومن ثم، يتأثر سلوك هذا الأخير في العمق بالرموز الثقافية التي لا تمتلكها كماً وكيفاً لا الكائنات الأخرى الحية ولا أكثر الاختراعات الحديثة تقدماً في ميدان الذكاء الاصطناعي. فالملاحظة الميدانية لكل من عالم الأجناس البشرية وعوالم بقية الدواب الأخرى تفيد، من ناحية، بأن سلوكات هذه الأخيرة تتأثر في صلبها بالمؤثرات الغريزية؛ ومن ناحية أخرى، فإن سلوكات الأجناس البشرية تتأثر كثيراً بعامل الرموز الثقافية. فكانت حصيلة ذلك الفرق بين الإنسان والدواب الأخرى استمرارية التجانس في السلوك في كل نوع من أنواع الكائنات الحية عبر الأجيال المتلاحقة وعبر الزمان والمكان. أما بالنسبة إلى نوع الجنس البشري فهناك تنوع كبير في نمط السلوكات الرئيسة والفرعية على حد سواء من ثقافة إلى ثقافة، ومن مجتمع إلى مجتمع ومن جيل إلى جيل. إن علماء الاجتماع والإنثروبولوجيا المعاصرين متفقون على أن هذه الاختلافات في أنماط السلوك بين المجتمعات البشرية وداخل كل منها تعود أساساً إلى تأثيرات عالم الرموز الثقافية عندها مثل العقائد الدينية والأعراف والتقاليد الثقافية وأنساق المعارف والعلوم وغيرها من الرموز الثقافية.
وبعبارة أخرى، فالكائن الإنساني يستمد من عالم الرموز الثقافية حرية العمل وحرية الاختيار وحرية الاختلاف عن الآخر. وبناء على ذلك، فالسلوك البشري يتمتع بقدر ضخم من المرونة، أي أنه تحكمه حتمية مرنة لا حتمية متصلبة مثلما هو الشأن في عوالم الحيوانات والطيور والحشرات. وليس من العجيب، من هذا المنطلق، أن تفشل في الكثير من الحالات تنبؤات مختصي دراسات السلوك الإنساني بخصوص التعرف على التوقعات الحقيقية لسلوك الأفراد. إذ أن علماء النفس وعلماء الاجتماع طالما يبنون تنبؤاتهم حول السلوك الإنساني على أرضية حتمية صلبة ذات قوانين لا تكاد تعترف بمبادئ الحرية والإرادة والاختيار عند بني البشر في معادلة المؤثرات على تصرفات الناس. إن الاهتمام المتزايد في البحوث الحديثة بعالم الرموز الثقافية عند الإنسان وكيفية تعامل العقل البشري معها أدى إلى تبلور شبه تخصص جديد في العلوم الإنسانية والاجتماعية والمعلوماتية.
العلوم المعرفية
ظهر منذ أكثر من أربعة عقود فرع جديد من العلوم يهتم أساساً بفهم آليات العقل البشري وكيفية طبيعة عملها مثل آليات تعلم اللغة واستعمالها، وآليات ظاهرات التفكير والتذكر والنسيان والذكاء والإبداع وإدراك الذات، وأصبح يطلق على هذا الفرع من العلوم ذات العلاقة القوية بالإنسان مصطلح العلوم المعرفية cognitive sciences. ونظراً إلى موضوع البحث الرئيس الذي يتمثل في فهم أنشطة العقل المختلفة فإن جهود عدد من العلوم المهتمة بدراسة الإنسان قد تضافرت، من جهة لسبر أغوار العمليات المعرفية عند الكائن الإنساني؛ وعمليات الذكاء الاصطناعي في الحاسبات والكمبيوتر، من جهة أخرى. ويأتي في طليعة هذه العلوم اللسانيات والفلسفة وعلم النفس وعلم الإنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والمعلوماتية.. وغيرها من التخصصات المهتمة بميدان الذكاء الإنساني والاصطناعي. وجاء بروز هذه العلوم كرد فعل خصوصاً على موقف علماء النفس السلوكيين Behaviorists الذين همشوا دور العقل وأنشطته في التأثير على السلوك الإنساني. فكان العقل البشري عندهم، صندوقاً أسود، كما أصبح معروفاً. فالسلوك البشري، في هذه الرؤية، هو انعكاس للمؤثرات الخارجية ليس إلا. ولعل نقد عالم اللسانيات الأمريكي المشهور نوام تشامسكي للسلوكيين في تفسيرهم لآليات تعلم اللغة عند الإنسان كان الحدث البارز الذي ساهم في حفز المختصين في العلوم الإنسانية خصوصاً للاهتمام أكثر بعالم الرموز الثقافية التي يحتضنها عقل الإنسان. فمقولة تشامسكي بالنسبة إلى ظاهرة تعلم اللغة عند الإنسان تتعارض مع ما يذهب إليه المنظور السلوكي بهذا الصدد، فهو يرجع آليات تعلم اللغة واستعمالها إلى استعدادات ومواهب فطرية في العقل البشري، بينما يفسر السلوكيون ذلك بالمؤثرات الخارجية التي تتلخص في المكافآت والعقوبات.
ومما زاد في تطور هذا الفرع الجديد من العلوم توسع الاختراعات للكثير من أصناف الآلات الجديدة ذات المقدرة الذكائية المحدودة. فلهذه الاختراعات انعكاسات مباشرة على الاهتمام المتزايد في محاولة تفكيك وفهم آليات العقل البشري.
فالمصالح إذن، متبادلة بين الطرفين هنا. فمن ناحية، سيساعد سبر أغوار آليات العقل الإنساني على اختراع وصناعة أدوات ومستحدثات جديدة أكثر تطوراً على مستوى المقدرة الذكائية الاصطناعية؛ ومن ناحية أخرى، فإن استمرارية تفرد الإنسان بطبيعة ذكائية تفوق بكثير ذكاء الكائنات الحية الأخرى والأدوات المصنوعة ينبغي أن تطرح على العالم والمفكر خصوصاً أطروحات إبستيمولوجية (معرفية) وتعطشاً علمياً يساعدان على إنجاز مكاسب أكبر للتعمق في فهم ألغاز المخلوق الإنساني.
العقل ودوره في الرؤية القرآنية
وبمصطلح الثقافة الإسلامية يمكن القول إن الرموز الثقافية تمثل الأساس الأول والأخير لمشروعية خلافة الإنسان على الأرض. فبتميزه عن الكائنات الأخرى بالتفكير وكسب العلم والمعرفة جاءت مشروعية سيادته عليها، وجاء تفوق الجنس البشري على غيره من الأجناس بسبب مهاراته اللغوية وعلاقة ذلك بثراء خياله الفكري وذكائه المتعالي وقدرته, كنتيجة لكل ذلك على إقامة صرح الحضارات الإنسانية التواقة إلى التطور والتقدم.
إن موقف القرآن الكريم من أهمية الرموز الثقافية في تأهيل الإنسان وحده لتولي مقاليد الحكم هنا على الأرض موقف واضح شفاف. ففي نظر القرآن أن تميز الإنسان بحيازته لرهان عالم الرموز الثقافية لم يؤهله للسيادة على الكائنات الحية على هذه الأرض فقط بل أيضاً جعل الملائكة يسجدون لمقدم هذا الكائن الجديد المتميز: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ). يفيد تأويلنا لكلمة روحي في سياق هذه الآية أنها تعني المقدرة الرموزية الثقافية في ذلك الطين المسوى. تعتبر هذه النفخة الرموزية الثقافية هي الحدث الأكبر الذي أحدث القطيعة بين نوعية المخلوق الإنساني ونوعية بقية المخلوقات. وبعبارة أخرى، فاكتساب الإنسان للرموز الثقافية ذات الجذور الثقافية الإلهية المتعالية يمثل بيت القصيد المحدد لصيرورة الإنسان المتميز بين بقية الكائنات الأخرى.
ومن هذا المنطلق، منطلق الصدارة الذي يحتله عالم الرموز الثقافية بالنسبة إلى مكانة الإنسان الخلافية، تأتي دعوة القرآن الملحة لكي لا يفرط الإنسان وبكل مشروعية من فرص التعامل مع عالم الرموز الثقافية. إذاً تبعاً لدرجة تسخيرها واستعمالها ونوعيتهما ينحط أو يعلو شأن البشر. فالقرآن يدعو الإنسان إلى إعطاء الأسبقية من رصيده الرموزي الثقافي الهائل والمعقد إلى العلم والمعرفة كنشاطين رموزيين يختص بهما الكائن البري. فأول آية في القرآن لأول سورة منه يأتي فيها الخطاب الموجه للنبي (ممثل الإنسانية) بصيغة الأمر (اقرأ..) المنادية بامتلاك الأدوات الرموزية الأساسية: القراءة والكتابة (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) لكسب رهان ناصية المعرفة والعلم.
إن ما ينفرد به الإنسان بطريقة قطعية عن غيره من الأجناس الأخرى هو المستوى الضخم والرفيع والنوعية من الرموز الثقافية التي بدونها يصعب تبلور ظاهرة ما نسميه بالعقل. ففي المنظور القرآني تمثل المقدرة العقلية الفاصل الحاسم بين الجنس البشري وبقية أجناس الكائنات الأخرى. (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ..) (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً), ومن ثم ترددت مشتقات كلمة العقل في صيغها الفعلية (من الفعل) في القرآن.
وطالما تستعمل في صيغها النقدية لهؤلاء الذين لا يستعملون عقولهم (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ), (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون). كما أن القرآن يتوجه إلى الإنسان محفزاً له على استعمال العقل، (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون)، فمواهب العقل الرموزية الثقافية واستغلالها -كما ينبغي- تقرب من ناحية الإنسان وتتقدم به إلى الدرجات العليا في المعرفة والعلم وتأخذ بيده إلى منصب الخلافة على الأرض. ومن ناحية ثانية، فإن الاستنكاف من استعمال العقل واستغلال طاقاته يؤدي بالإنسان إلى الجهالة وإلى التردي إلى مصاف الدواب الصم والبكم، وبالتالي إلى ضياع مقاليد الخلافة من حوزته وخسران علاقاته بالعالم العلوي.
وإذا كان العقل ومقدرته الهائلة في استعمال الرموز الثقافية هو الرمز المميز للنوع الإنساني فإن خيال الإنسان –وليد تلك الرموز الثقافية– قد يدفعه لكي يثري البعد الرموزي الثقافي للعقل الإنساني، وذلك بالنظر إليه لأعلى مستوى حقائق الأمور ومعطياتها فحسب, ولكن أيضاً على المستوى المجازي لمكانة هذا العقل، فيمكن إذن أن ينظر إلى موقع العقل في أعلى الجسم كرمز على مقامه السامي.
إن مكان العقل هو في أعلى جسم الإنسان، أي داخل جمجمته حيث يوجد المخ. فمن الناحية التشريحية الفيزيولوجية يمكن للمرء أن يتساءل هل يمكن هندسة جسم الإنسان بحيث لا يكون مخه ومن ثم عقله موجودين في قمة هذا الجسم؟ قد يكون هذا السؤال غريباً لكل من الفرد العادي والمتخصص على حد سواء، لأنه فعلاً تساؤل خيالي وفلسفي. ولكن هذا الطرح يبقى مشروعاً عند هذا الكائن الرموزي الثقافي بالطبع وغير وارد عند كل من الكومبيوتر والإنسان الآلي, وبقية الكائنات الحية الأخرى. قد يجيب الطبيب وعالما الفيزيولوجيا والبيولوجيا عن تساؤلنا بـ(نعم) عند ذلك تنتفي الدلالة الرمزية لوجود العقل في أعلى عضو (الجمجمة/المخ) من جسم الإنسان. لكن الغالب أن تكون الإجابة بـ(لا) عن تساؤلنا أعلاه, أي أنه سيكون هناك إجماع بين المختصين برفض هندسة جسم الإنسان هندسة جديدة لا يكون فيها المخ البشري/العقل في أعلى جسم الإنسان. يذكرنا مثل ذلك الرفض برد عالم البيولوجيا الشهير جان روستان Jean Rostand عندما سئل في الستينيات من القرن الماضي: هل يمكن تحسين خلقة الجسم الإنساني باستعمال اختراعات التكنولوجيا الطبية الحديثة؟ فأجاب روستان يومئذ بأن جسم الإنسان شديد الإحكام في تركيبته، فلا يحتاج إلى تحسين. وبالتعبير القرآني (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم)، فالجسم الإنساني، إذن، ذو تركيبة مثالية يبقى فيها المخ والجمجمة ومن ثم العقل في أعلى موقع من جسم الكائن البشري. وبذلك يتحقق المعنى الرمزي لمكانة العقل ودوره في إضفاء الخلافة على الإنسان وحده على وجه هذه البسيطة. فانتصابه على قمة الهرم الجسدي للإنسان يرمز، من جهة، إلى سمو مكانته في تسيير شؤون الإنسان في حياته هنا على الأرض. ويرمز من جهة أخرى إلى أن مخبأه (الجمجمة/المخ) هو أقرب نقطة تماس –وهو واقف أو يمشي سويا– يشرئب من خلالها الإنسان إلى رحاب وألغاز العالم العلوي الفسيح والمتباعد.


ذو صلة