تشكل الحصون، الهياكل الدفاعية المنيعة، جزءاً من تاريخ البشرية المشترك. وفي الواقع خلفت الحضارات المتعاقبة بإسبانيا أكثر من أربعة آلاف مبنى حربي قديم متعدد الأحجام والأشكال، أكثر من ربعها يعود إلى التراث الإسلامي. وهو ما يدل على أهمية الحصون في التاريخ الإنساني عموماً والإسلامي بالخصوص. وقد شيدت نصف هذه الحصون بين القرنين الثامن والثاني عشر.
في بداية الحكم الإسلامي بشبه الجزيرة الأيبيرية وجزر الباليار انتشر بناء الحصون بمختلف أنواعها. وتتميز هذه البناءات بثرائها وتنوعها وانسجامها الشديد مع الواقع الجغرافي والاجتماعي في بدايات العصر الإسلامي وحتى القرن التاسع. ولكن بداية من القرن الثاني عشرة شهدت المعطيات تغيراً مع تقدم المسيحيين باتجاه الجنوب وقدوم الموحدين إلى الأندلس والتركز الكبير للمسلمين المشردين في أراضي تضيق يوماً بعد آخر.
وتعتبر الحصون أنظمة دفاعية مستقلة أو آليات حماية أقامتها الشعوب للتصدي للأنظمة الدينية أو الاجتماعية المعادية وتأخذ في الاعتبار في أغلب الأحيان طبيعة المجتمع أو المجتمعات فيها. وفي الأندلس، وإلى جانب القصور الفسيحة وأبراج الحماية ظهرت كذلك القصور صغيرة الحجم في القرن العاشر, وتتضمن تحصينات صغيرة، وفي الغالب تبنى في أعلى التلال والهضاب المتوسطة مع خزان مائي، وتحيط بها تجمعات سكانية مشتتة خارج السور الرئيس. وبنيت في الأساس لحماية مصادر المياه وصد الأعداء المحتملين. أما الأبراج التي ساعدت على مراقبة الأراضي في الأرياف فقد أدى بعضها دور المراكز الحربية. وتتميز بسعتها الكبيرة مما يسمح للجيش بتركيز حراسة دائمة فيها. وتعتمد كلها مخططاً أو رسماً رباعي الزوايا وبارتفاعها الكبير وقبتها المسننة. وكانت في الغالب في شكل قبة أو قلعة أو قليعة أو برج فيما بعد حسب الفترة التاريخية.
ويمكن أن تكون الأبراج مربعة الشكل أو دائرية. وقد اعتمدت الجيوش على الأبراج المربعة حتى وقت قريب من تاريخ الأندلس. وفي مقاطعة فالنسيا لا تزال هناك العديد من الآثار المتبقية لهذه الأبراج, ولعل أهمها برج بوفيلا, وهي تعود إلى فترة حكم الموحدين, وقد شيدت من الحجارة الطينية وتتميز بارتفاعها مقارنة بأبراج الأمويين ويمكن اعتبارها النموذج الأصلي المعتمد في بناء الأبراج.
أما الأبراج الدائرية، ورغم بساطة شكلها فإنها تلعب دوراً معقداً, وبالخصوص التي تسمى منها أبراج المراقبة أو الطليعة. وتتمثل المهمة الوقائية لأبراج المراقبة بنقل سريع للرسائل التحذيرية إلى مركز المراقبة الرئيس عبر إشارات كالنيران أو الدخان. في القديم كان نقل الرسائل المشفرة بالطرق التقليدية من منطقة غورماز إلى قرطبة مثلاً يتطلب نحو خمس ساعات, ولكن بفضل أبراج المراقبة وعبر إشارات بسيطة كالدخان أصبح من السهل التحذير المبكر عن العدو قبل المباغتة. وقد تواصل بناء هذه الأبراج حتى فترة حكم فيليبس الثاني في القرن السادس عشر, وبالخصوص على السواحل المتوسطية لإسبانيا, وساعدت في التحذير من هجمات القراصنة من البحر. وتتناثر في أنحاء الأندلس بقايا أبراج المراقبة وهي في شكل شبكة اتصال متطورة.
أما الحصون فكانت تلعب دور الحد الفاصل بين مدينة وأخرى أو مدينة وضواحيها إضافة إلى طابعها الدفاعي أو العسكري. ويمكن أن تخضع المساحة المحصنة بالمدينة إلى التوسع باستمرار مع التزايد السكاني والنشاط التجاري، وذلك بسبب موجات الهجرة نحو مدن الجنوب بالنظر إلى الزحف المسيحي في إطار حملات الاسترداد من ناحية الشمال في نهاية القرن الثاني عشرة, مثال توسيع الموحدين لمدن قرطبة وسيفيل وغرناطة. وعلى هذا الأساس يضم الحصن وسط المدينة مع ضواحي ومقاطعات صغيرة, وهي ترتبط فيما بينها, إضافة إلى وجود قصبة أو مكان إقامة الحاكم مثل القصبة القديمة بغرناطة أو القصبة بمالقة.
وتتميز القلاع والحصون بأنظمة تحصينية ودفاعية معقدة, ويمكن أن تشيد الحصون من مواد مختلفة, ويمكن كذلك أن تقسم وبشكل عام إلى نوعين: الحجارة, والطين المقوى. وكانت الحجارة تشكل المادة الرئيسة المستعملة في الحصون الكبرى في العهد الأموي، حيث كانت تبنى صفوف عريضة من الحجارة عرضها ما بين 50 و55 سم, ولبناء هذه الأسوار الضخمة يستعمل في الغالب إما الحجر المربع المستمد من البناءات الرومانية القديمة مثل مدينة مريدا غرب إسبانيا، أو الحجارة الطينية التي تصنع من خليط التراب وعناصر أخرى مثل الأغصان والقش والعظام والكلس, وهي تسمح بسرعة بناء جدار صلب ومقاوم. وقد استعملت في بناء عدة معالم مثل قصر الفاكار بقرطبة أو كاليرا بفالنسيا.
ولهذه الحصون بوابة رئيسة تتصل بباب القلعة الخارجي بواسطة دهليز طويل ينحدر تدريجياً حتى الباب مؤلفاً منعطفاً دفاعياً في منتصفه, ولها ثلاثة أبواب مفتوحة على الخندق, كما ترتكز الحصون على عوامل أساسية أخرى متعددة مثل الماء والخنادق والخراج، هو امتداد للحصن خارج البناء عبر جدار خارجي يمتد إلى الداخل ويتم استخدامه لحماية وتأمين إمدادات المياه من النقطة الخارجية كالأنهار أو العيون إلى داخل الحصن, وذلك بالخصوص في حالات الحصار, ويمكن أن يمتد طوله إلى مئة متر, كما أنه يحمي الاتصالات بين الحصن ونقطة معينة ليست بعيدة. أما الخنادق فقد أعدت وفق الأنظمة الشرقية المعتمدة خلال القرن التاسع. أما القلعة فتتضمن سوراً داخلياً يتألف بدوره من خمسة أبراج دفاعية وحامية، إضافة إلى خندق مائي يفصل بين السورين الداخلي والخارجي.
إن الحصون بالأندلس، إلى جانب المعالم الحضارية الأخرى، تعتبر من الشواهد العجيبة على عظمة التراث الإسلامي الثري والمتجدد، والذي ما إن مر من هناك إلا وكان خير حافظ لذاكرة شعوب أبدعت في مجالات العوم والهندسة والبناء والتخطيط وشتى المعارف. فكانت مصدر إلهام لعديد الاختراعات بأوروبا في فترة لاحقة. وهي تتميز بأحجامها وتصاميمها العظيمة وبخاصة في القرنين التاسع والعاشر. أما اليوم فأغلبها يشهد خراباً كلياً بعد استعمالها وإهمالها أو تدميرها خلال الحروب الأهلية التي تعاقبت في ذلك الوقت، فتحولت إلى حالة يرثى لها من الخراب والضياع. ولكن رغم ذلك مازالت تمثل أحد أعظم الأمثلة لفن الحصون في التاريخ الإنساني، الجديرة بالدراسة والفهم العميق.