استأثر موضوع الحرب العالمية الأولى، ومدى تأثيرها على الأدب، بالعديد من الأبحاث الأكاديمية والكتب النقدية. ومن آخر ما كتب في هذا المجال أطروحة الباحث أوليفيي بارونتو (Olivier Parenteau) التي سماها (شرف الشعراء: الحرب العظمى والحداثة الشعرية) (2009). وقد بين هذا الباحث في أطروحته، التي درس فيها أعمال أربعة شعراء كبار هم: أبولينير، كوكتو، دريو لاروشيل وإيلوار، أنه في فرنسا -كما في كل الدول المشاركة في الحرب- ساهمت الحرب العالمية الأولى في خلق إنتاج معتبر من النصوص الشعرية، بدأ منذ الأيام الأولى من أغسطس 1914، ولم يفقد قوته وغزارته بمجرد انتهائها، بل استمر في أعقابها إنتاج شعري وافر وجد متنوع، سواء عند أنصار الحرب الذين سماهم أبولينير (الروح الجديدة) أو لدى الشعراء الذين لم ينتسبوا إلى الطليعة.
ويرى الباحث أن معاصري حرب 1914 التي سميت (الحرب العظمى) منذ 1915 نظروا إليها على أنها حدث استثنائي، ينطوي على قدر من الملحمة، أدى إلى عودة القصائد الوطنية من النمط التقليدي، مشبعة بزخم من الشوفينية والأيديولوجية الانتقامية التي زرعها غالبية الشعراء خلال الأشهر الأولى من الحرب. كما يشير الباحث إلى أن مجموع المتن الشعري الذي كتب إبّانها وقع في النسيان منذ قرن تقريباً. ولا يبدو في الأفق المنظور أن هذا الأمر قابل للتغير، لأن القصائد الوطنية التي كتبت خلال سنوات الحرب، حتى وإن كانت تستجيب لمعايير الأناقة والإتقان البلاغي، وكتبها الشعراء بلغة نبيلة وجذابة لمعاصريهم، لتمجيد المعارك أحياناً، فإنها لم تعد لها قيمة تذكر في عيون النقاد اليوم.
إن الفقر الشعري لهذه النصوص، والتي كتبت في الغالب من قبل نظَّامين هواة، يفسر بلا شك حظر هذا المتن الذي يتميز بغنائية أكثر كلاسيكية، وبحضور الصيغ المطبوعة للقصيدة التقليدية، والكليشيهات الأكثر ابتذالاً للبطولة. ويذكر الباحث أن ميشيل توري يلاحظ - في المجلد الأول من كتابه (تاريخ الأدب الفرنسي في القرن العشرين)- أن بين عامي 1914 و1918، كانت هناك وفرة من الكتابات لصالح الحرب، ولصالح الجيش الفرنسي ليس فيها ما يدهش، بل كانت رديئة كذلك، في حين كان هناك عدد قليل جداً من الأعمال المكتوبة والمنشورة خلال الحرب تتيح الاستماع إلى مشاعر أخرى وتتحدث لغة أقل تكلفاً ونمطية. ويرى أن (رداءة) الأدب المتزمت لا ترجع حصراً لاستخدام (لغة مقيدة ونمطية)، لكنها أيضاً تفسر بسبب أن (المشاعر) المعبر عنها (الدفاع، وتبرير الحرب) لا يتقبلها قارئ اليوم إلا بصعوبة. لكن على هامش هذا الكم الشعري الضخم المكتوب لصالح الحرب، فقد تطورت أيضاً قصائد سلمية تدعو إلى مناهضة الحرب، بين عامي 1914 و1918، وإن كان ذلك بطريقة سرية وبكمية جد محدودة.
إن التعبير الشعري لرفض الحرب لم يجذب انتباه نقاد اليوم لأن الرسالة التي أبلغها دعاة السلام تتفق أكثر مع حساسياتهم الأخلاقية. فالمعلقون الذين يهتمون بالشعر السلمي يعتبرون تبعاً لـ(سكوت باتس) Scott Bates كل الشعراء الذين نظموا ضد الحرب العظمى ينتمون إلى التجمع الجيد من (الكتاب الفرنسيين)، وفي نظر أليفيي بارونتو أن هذا الاقتباس يعكس اتجاه هذه (الأقلية من الشعراء الثائرين الذين تجرؤوا على قول الحقيقة حول الحرب في مناخ من الأكاذيب والكراهية والانتقام)، ثم إنه مبرر بأسباب أخلاقية أكثر من معايير التقدير الجمالي.
يذكر الباحث أيضاً أن نانسي سلون غولدبرغ Nancy Sloan Goldberg تعترف في المقدمة التي وضعتها لأنطولوجيتها المكرسة للشعر الفرنسي ضد الحرب العظمى أن الأبيات السلمية هي وسائل، وأن هؤلاء الشعراء واعون دائماً بالغرض التعليمي لقصائدهم. إنهم يوظفون لغة مفتوحة، صادقة، معاصرة وآنية، وصارمة قليلاً في بعض الأحيان. هذه القصائد السلمية راسخة في الوقت الحاضر، تواريخ محددة، أماكن، وأسماء المقررين المشهورين يوثقون عدالتهم. لقد شدد هؤلاء على الحقيقة الرهيبة لحياة الخنادق وعلى الدمار الرهيب للطبيعة والرجال. ويعلق الباحث على رأي نانسي سلون قائلاً (نحس في هذا المقتطف أن صاحبة التقديم تحتاط في وصف نوعية النصوص الشعرية الرديئة التي تتحدث عنها في بعض الأحيان بطريقة صارمة قليلاً)، ولكن في المقابل، وبصراحة هي معجبة (بصدق) لغة أصحابها، حيث قول الحقيقة يخدم إدانة المذبحة.
يشير الباحث أنه في نظر معظم نقاد ومؤرخي القصيدة الفرنسية في القرن العشرين، أن الأشعار، التي كتبت سواء لتمجيد الصراع أو قول الحقيقة، تنخرط في نمط شعري يعتبر أقل شأناً، وثانوياً. وتلك هي سمات (قصيدة المناسبة). إذ من المعروف نقدياً أن هذا النوع من الشعر النفعي المنجز بمناسبة بعض الأحداث التي تُفرض بسبب أهميتها أو حجاجيتها يأخذ معنى تحقيرياً في مرحلة أخرى كان فيها الأدب الذي يتألف في مجال مستقل نسبياً، هو (ما تقوم به مجموعات من الأدباء المستقلين).
إن إرساء هذه النصوص الشعرية للآراء السياسية والأخلاقية المسبقة التي تقودها والالتزام، سواء الشكلي أو الموضوعاتي، الذي يميزها (يثير الارتياب إلى حد كبير حيث تبدو أنها نشرت قبل الأوان، دون التدبير اللازم ولا المسافة المناسبة)، وقد خصص الباحث الفصل الأول من أطروحته لتقديم هذا المتن الضخم من قصائد المناسبات المكرسة لإعلان شرف الأسلحة أو المناداة بضرورة السلام، مبرزاً أن هدفه سيرتكز بشكل أقل على عرض جانب الخصائص الجمالية لهذه النصوص أو تحرير لائحة الحوافز المختلفة الموظفة لقول الحرب في هذه الأشعار، لتوضيح أن (وسائلية) الشعر كانت معممة خلال الحرب العظمى، مقراً أن هذه الظاهرة غير مسبوقة في تاريخ الشعر الفرنسي. فقد انخرط في كتابتها أكاديميون وشعراء محترفون ومبتدئون... وكل الأصناف. فضلاً عن الآلاف من المواطنين الذين لم تكن لديهم عادة الكتابة قبل 14 أغسطس 1914. لقد نظم الجميع الحرب (سواء لصالحها أو ضدها)، وإنه لمن المستحيل ألا نصدم من كمية تكرار الموضوعات والتكافؤ الشكلي لجمع كل هذه القصائد. ويورد ملاحظة آنا بوشيتي Anna Boschetti، في مقالتها المخصصة لشعر أبولينير، بكون معظم الشعراء، بما في ذلك الكبار، تأثروا بعمق في موضوعاتهم وخياراتهم الشكلية بالحرب، حيث اهتز استقلال أبحاثهم في علاقة بالأحداث (الخارجية) عموماً. وتشير إلى أنه خلال سنوات الحرب ظل قلة من الشعراء الذين يدعون الحداثة الشعرية أوفياء للتمثلات المعروفة لشعراء الطليعة الموروثة عن البرناسية والرمزية، والتي كانت غير مبالية بمتطلبات السياسة وأوامر للأخلاق، ولا تعترف بأي وصاية غير المعيار المميز لفنها. فأسماء شعراء مثل: بيير ريفيرديPierre Reverdy، بول فاليري وأندريه بريتون غالباً ما تدرج على قائمة قصيرة من الشعراء الذين نجحوا على الرغم من ضغط الأحداث في إبعاد الحرب عن أعمالهم. وعلى طريقة غوتييه Gautier صاحب Émaux et Camées، الذي رفض (إخضاع الفن لبعض معايير الاستعمال الأخلاقي أو الاجتماعي على الإطلاق)، فإن هؤلاء الشعراء الثلاثة نظموا (بدون حذر من الإعصار الذي كان يضرب نوافذهم المغلقة)، لكن من الواضح أن تجاهلهم للاضطراب الذي هز فرنسا نسبي. فقد ألف ريفردي في قصائده النثرية نصوصاً سماها (جبهات القتال) (معركة) و(الجنود)، في مجموعته (النافذة البيضوية) (1916)، وفي عام 1917، عندما ظهرت La Jeune Parque اعتبر فاليري ديوانه (ملتزماً) على طريقته، بما أن الشاعر يؤكد أنه يريد (العمل من أجل لغتنا إن فشلنا في المحاربة من أجل أرضنا)، وفيما يتعلق بتطبيق سمات الحرب في قصيدة بريتون المكتوبة بمناسبة الحرب العالمية الأولى، فإننا نشير إلى أنه، على الرغم من كل الاحتياطات التي اتخذها الشاعر لحذف الحرب من أبياته، فإن الأمر ينتهي مع ذلك بتدخلها فيها.
ويذكر كريستوف بروشاسون Christophe Prochasson وآن راسموسن Anne Rasmussen أنه خلال الحرب العظمى (لم تؤثر الوظيفة السياسية بقدر تأثير الوظيفة الروحية. لقد صار من المستحيل التفكير، والكتابة، والرسم أو التلحين دون الإشارة إلى الحرب).
ويرى الباحث أن الدراسات التي ستلي ذلك تثبت العكس. فالحرب دفعت الشعراء إلى شحذ كتابتهم والقيام باختيارات جمالية دقيقة، صعبة، مدهشة. حتى في المجلات الطليعية كـ SIC و(شمال جنوب)، لم تكن الموضوعات العسكرية فقط ممتدة، لكنها أكثر من ذلك محمية ومشرعنة بطرق متعددة.
وذكر الباحث أن ديكودان Décaudin يستحضر رجوع أبولينير إلى باريس، لكنه يتجنب كثيراً الإشارة إلى نشر Calligrammes سنة 1918. ومن دون أدنى شك، هذا الصمت ليس من قبيل الصدفة: هذه المجموعة، مكرسة بالكامل تقريباً لتطوير قصيدة الحرب، وتذكر ربما بطريقة جد واضحة بأنه في قلب الحرب نفسها ليس دائماً ما بعد الحرب هو الذي يتطور في مجال الشعرية الطليعية. فأبولينير نظم الأوركسترا ورعى جل الأنشطة الشعرية الأكثر ابتكاراً، المُقامة في باريس في السنوات 1916 - 1918. ففي منتصف الشعرية الطليعية الباريسية كان أبولينير واحداً من القلائل الذين تحدوا علناً الميل العام إلى التراجع. بينما أنصار الطليعة، الأوفياء لهذه العقيدة المصطنعة في الحداثة، يموقعون أنفسهم -على الأقل من الناحية النظرية- ضد أدب الحرب بأي شكل من الأشكال.
يحكم أبولينير أن الحرب (يجب أن تكون معتمدة من قبل الأدب: أين نحن؟ الحرب التي نشطت الأمزجة بلا شك نشطت المواهب. لقد أنتجت قبلاً بضعة كتب لجنود ممتلئين بأفكار جديدة، أولئك الذين من جيلي يجب أن يكونوا راضين، لأننا لم نمل إلا إلى ذلك، شعراء وكتاب النثر والرسامين: التعبير ببساطة عن الأفكار الجديدة والإنسانية. يجب أن تكون الحرب ثمرة معرفة الماضي ورؤية للمستقبل.
هل تعتقدون أن الحرب يجب أن تغير الحركات الطليعية؟ وبأي معنى؟
نعم، يجب أن تغير الحرب هذه الحركات وتوجهها إلى مزيد من الكمال. نحن لا ننتج أدباً مترفعاً.
هل تعتقدون أن الحرب نفسها يمكن أن تلهم أعمالاً ذات منفعة؟ بالتأكيد. وهذا ما يجب أن نتمناه).
وينتقد الباحث الطريقة التي استدعى بها ميشال ديكودان Michel Décaudin دادا وفاليري، من خلال فصلهما عن الحرب معتبراً إياها ليست مقنعة إطلاقاً. فمولد دادا في عام 1916 لا يمكن اعتباره دون أن تؤخذ بعين الاعتبار مذابح الحرب العظمى. المجزرة التي تمت داخل نظام اللغة من قبل الدادائيين Dadaists تستجيب لتدمير العالم و(لأزمة القيم التي تسببت فيها الحرب العظمى، ولمؤسسة غسيل الدماغ الأكثر كثافة والتي شنتها الأمم المتحضرة). وأخيراً، وكما ذكر سابقاً، عودة فاليري إلى الشعر مع ديوانه La Jeune Parque يرتبط جزئياًّ بالأحداث. هذا (التمرين في الأسلوب) مكتوب في حالة اضطراب، حتى أن ديكودان حكم عليه بأنه جدير بالاهتمام على وجه التحديد، لأنه يبدو منسحباً من عصره حيث (الحياة الأدبية تقلصت إلى حماس وطني بقيمة فنية رديئة في كثير من الأحيان)، فهو يمثل شكلاً من أشكال الالتزام: (الجمالية ليست أبداً الرفض، اللجوء، ولكنها إعلان، تأكيد لانبعاث العقل وممارسة للإرادة).
بين عامي 1914 و1918، انشغل الشعراء بالأصالة الجمالية لأعمالهم وحرصوا على عدم إعدادها وفق توقعات الجمهور الكبير، ولم يترددوا في جعل الحرب تيمة لنصوصهم الشعرية، نصوص لا توجه للحشود ولكن إلى جمهور على علم وإحساس بالتجارب الشكلية والأسلوبية، يلبون حاجة لتغيير جذري للطرق التقليدية في تقديم الحرب.
قصائد أبولينير، أراغون، سوندرارس Cendrars، كوكتو، دريو لاروشيل، إيلوار على سبيل المثال لا الحصر قد استولت على حدث الحرب العظمى وتمكنت من قوله بطريقة تعكس أن الشعر ليس شكلاً مقدساً، ولكن ينظر إليه على أنه كلمة مواجهة لكلام آخر، وكبديل، في وقت كانت فيه كل التعبيرات تخشى الركض نحو الإفلاس.
إن من الأسباب التي جعلت الباحث يركز على أبولينير، كوكتو، دريو لاروشيل وإيلوار، هو أن هؤلاء الشعراء الأربعة ألفوا (عمل حرب). وهذا يعني أنهم لم يكونوا راضين عن كتابة بعض قصائد الحرب المشتتة، لكنهم وضعوا دواوين حيث النموذج الحربي مركزي، لأنها دواوين تجمع العديد من القصائد حيث الصراع هو المحور الرئيس للدلالة المركزية، هذه الدواوين تظهر (شعريات الحرب) المفردة.
من الممكن أن نرى الخصائص الشكلية والموضوعية لكل واحد منهم، قطائعهم استمراريتهم، أماكنهم المشتركة، وحوافزهم المفضلة، والكشف عن آثار المعنى.
دواوين الحرب هذه تنخرط على المدى الطويل، وتسمح بخلق الإحالات التناصية وإنتاج (سرود) لحرب خفية، حيث القصائد الموضوعة واحدة بعد الأخرى تكون هي المعالم الرئيسة لآثار المعنى.
أخيراً، وعلى الرغم من أن الكتاب الأربعة هم من بين الشعراء الأكثر شهرة في تاريخ الأدب الفرنسي في القرن العشرين، فإن دواوينهم الشعرية المكتوبة خلال الحرب العالمية الأولى تبقى، لحد الآن، غير معروفة بشكل جيد أو بالأحرى هي مجهولة.
بين عامي 1914 و1918، أبولينير، كوكتو، إيلوار لاروشيل كانوا يطمحون للمشاركة في إحياء الشعر. والمفارقة في مشاريعهم هي أنها تفترض الرغبة في إعادة اختراع أشكال اللغة الشعرية من خلال تطبيق منحرف وغير مباشر لتحويل الحرب إلى موضوع، لكن دواوينهم كانت في الوقت نفسه مسكونة بالنزاع والعزم على إسماع أصوات مفردة يتعذر تحفيظها للخطاب العام. هذه المفارقة تتجلى بطريقة قوية من خلال ثلاثة أسئلة مميزة للحداثة: الموضوع الشعري، الانعكاسية الذاتية والقصد المرجعي للشعر. وسيعطي تحويل النموذج الحربي شعرياًّ لدى هؤلاء الكتاب الأربعة المعتبرين معنى جديداً لهذه الأسئلة.
بعد اختبار الخطاب الشعري النموذجي لسنوات 14 - 18 كتب الشعراء الأربعة ستحلل بالتتابع من خلال الزوايا الثلاث التالية: صورة الشاعر الجندي، ردود الفعل المتضمنة في القصائد عن الشعر نفسه، ومعالجة الموضوعات التي تكشف وتنقل تمثيل تقاليد الحرب. كما أن الانفتاح على الاحتمالات التاريخية وظروف الحرب جعلت هذه القصائد تجدد الحداثة الشعرية، كما ستفتح الباب واسعاً أمام مدارس أدبية أخرى ستظهر كرد فعل على الحرب، من أهمها السوريالية والدادائية.