ينتمي كتاب (موت الناقد) (2007) لرونان ماكدونالد، الذي ترجم من فخري صالح (القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2015) إلى أرشيف مأساة العاملين الأكاديميين منذ القرن العشرين حتى الآن، الذين يعيّنون كمدرسين (أو محاضرين) لكنهم يحملون عبء مصطلحات ذات وظائف تخصصية -فوق طاقتهم- (الأستاذ والباحث والناقد والمثقف).
وهم لا زالوا يعانون مرارات (تاريخ النقد) الذي لن يكون علماً ولن يكون أدباً أو فناً. رغم أنه يتوجب الحذر في التعامل مع استخدام اللغة المجازي لمفهوم (موت الناقد) غير أنه يتعامل بشكل حرفي مثلما حدث سابقاً مع (موت المؤلف) وسواها من المصطلحات، ولا أكثر موقف سخرية من أن غلطة أكاديمي أمريكي هو فنسنت ليتش أطلقت مصطلح (النقد الثقافي) في كتابه (النقد الأدبي الأمريكي) (1988) تحولت إلى (حرَاج نقدي) عرض فيه الكثير من بضاعاتهم في الريادة والإنجاز!.
وبحسب أطروحة التضاد بين مسارين في تاريخ النقد العربي متوازيين لا يتقاطعان ولا يلتقيان البتة، فهناك فرق بين نقاد يطوّرون (النظرية الأدبية) غالباً من تتفوق عندهم موهبة التفكير أو الأدب أو الفن مع تطور الأدوات المعرفية والتحليلية، هم من خارج الأكاديمية، بداية من الجاحظ وعبدالقاهر الجرجاني حتى عبدالله عبدالجبار وغالي شكري.
وآخرون هم عبدة (النظرية البلاغية) يستخدمون -بالوهم بينما العكس تستخدمهم- النظريات والاتجاهات النقدية، شغلهم الشاغل إصدار الأحكام ومنح الألقاب وإسكان من يريدون تحت مظلتهم أو قطع أرجل من امتدت خارج أسرتهم النقدية، وهم حفدة ابن قتيبة وقدامة بن جعفر حتى آخر أي بحث لأحد طلبة أقسام اللغة العربية وآدابها في النقد العربي لدرجات الماجستير والدكتوراه، فهم لن يروا في النقد إلا صرف القيمة الحسابية لا القيمة النسبية!.
وحين يتباكى الناقد الإنجليزي ماكدونالد على انهيار السلطة الأكاديمية في الثقافة عبر فصلين (قيمة النقد) و(أسس القيمة النقدية) ما جعله يساوي بين أحكام الأكاديمي وأي كتابة رأي في المواقع الاجتماعية يتجه في الفصلين الآخرين (العلم والحساسية) و(صعود الدراسات الثقافية) إلى الاعتراف بأن هناك من هم متفوقون على تخرصات الباحثين الأكاديميين.
إذ يعترف بأن القرن العشرين مستمر في فضل هؤلاء الأكاديميين حين يضعون أبحاثاً حول (الإنتاج الثقافي) وجعل من مرحلة (الحداثة) أكبر فضيحة كشفت عجز أدواتهم المعرفية والنقدية عن استيعاب هذا الإنتاج ومن ثم محاولة نقده ما دفع إلى أن نشّط المثقفين أنفسهم إلى وضع كتابات نظرية كالبيانات والشهادات بالإضافة إلى مقالات ومراجعات كتب تمكنت من كشف جماليات الحداثة عبر ما أنجزه كل من ت. إس. إليوت وفرجينيا وولف وعزرا باوند، وهو ما حدث أيضاً في مرحلة (ما بعد الحداثة).
فقد عادت لتتضامن العلوم الإنسانية والاجتماعية مع الثقافة ونتاجاتها من الآداب والفنون والفكر، وهو ما أنتج (الدراسات الثقافية) التي أعادت العلاقة بين نتاجات مفكرين ومحللين -وليسوا نقاداً فقط- والثقافة بمفهومها الواسع بالإضافة إلى فئاتها وطبقاتها الاجتماعية مثل رولان بارت وميشيل فوكو وجوليا كريستيفا وجاك لاكان وميخائيل باختين ووريموند وليامز وريتشار هوغارت وستيورات هول وسوزان سونتاغ وتيري إيغلتون وسواهم.
ولعلنا نذهب إلى ما هو أبعد من الإشهار الظاهر لـ(موت الناقد) في تلك الأطروحة بل إلى الإشهار الباطن في العجز المرير لممثلي الأكاديميات مقابل منجزات (الدراسات الثقافية) لكثير من علماء اجتماع هم مثقفون بالفكر والأدب والفن، وليس ممن يكتب عنواناً فاضحاً عن (القبيلة) ولم يرجع إلى مصدر أو مرجع من الأعمال البحثية لعلم الاجتماع أو الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا أو التاريخ الاجتماعي وإنما التعامل مع الحقيقة الاجتماعية والتاريخية التي بوصفها مؤسسة اجتماعية فاعلة في المجتمعات المختلفة باعتبارها ظاهرة بلاغية!.
ويمكن أن أسوق هنا إلى منجزين نقديين كشفا تلك المأساة الأكاديمية الأول (استقبال الآخر) (بيروت، المركز الثقافي العربي، 2004) للناقد سعد البازعي، والثاني (حرباء النقد) (طرابلس، دار الكتاب الجديد، 2011) للمعلم الفاضل حسين الواد.
وقد انعكس على الثقافة العربية تكريس مؤسسة كاذبة تدعي النقد ليس في الأكاديمية فحسب بل حتى في الصحافة الثقافية، ولا أقصد المؤسسة النقدية العربية، لكنها لا تقدم شيئاً.. مجموعة من البحوث والمقالات الممطوطة التي تنتهي صلاحيتها قبل ختامها، وتكشف عن توهم منح الأحكام.
الآن مع تطورات الفنون الأدائية والكتابية والبصرية تطور النقد أيضاً صار صياغة إبداعية وشكلاً أدبياً وفنياً.. النقد الذي لا ذوق له لا شيء أبداً.
الناشر: المركز القومي للترجمة 2015