لا أستطيع الجزم بأن هناك استفادة واسعة من الفنان التشكيلي المستقل المكرس فنه للمعارض في الإنتاج الصناعي بمختلف أنواعه. ربما هناك عمليات تعاون محدود تتم مع بعض الفنانين، بشكل متقطع وغير مستمر وبعيداً عن خط التصنيع، لإنجاز مهمات محدودة تتعلق بالتجميل أو الترميز البصري. ولكن الأهم من ذلك هو أن نعي أن الصناعة بمفهومها الرأسمالي أو حتى الشمولي ليست راسخة في العالم العربي، عدا مجالات محدودة جداً فليس هناك صناعات لكافة المناحي، إذ يغلب الاستيراد. هناك صناعات تكميلية ودور الفن والابتكار فيها يكاد يكون ملغياً، فهي تنتج مواد وسيطة تدخل في مراحل أخرى لعمليات صناعية لمنتجات كاملة، وهناك صناعات مستنسخة من الدول الصناعية الكبرى وبالتالي يتم التعاون فيها مع فنانين ومهندسين عرب يتبعون تعليمات محددة، وبموجب اتفاقات ترسل الدول المصنعة خبراءها ليشرفوا على التنفيذ داخل الوطن العربي، وربما استعانوا بعمال أو منفذين عرب لهم دور هامشي، وعلى هذا النحو تبقى تفاصيل الصناعة وأسرارها لديهم ولا مجال للاستفادة من عقلية وفن الفنان العربي، حتى لو وجدت صناعات متكاملة، بعقود حقوق الامتياز، فإن دور الفنان معدوم، كصناعة السيارات مثلاً. لكن ينبغي ألا يغيب عن الإدراك بأن المصانع والصناعات لها فنانوها المحترفون المهنيون وهم فئة تختلف عن الفنانين المشهورين المستقلين والذين تتناقل أخبارهم وسائل الإعلام، هؤلاء الفنانون المهنيون دخلوا ضمن منظومة الشركات التجارية التي تشكلت عالمياً في النصف الثاني من القرن العشرين، وظهرت في العالم العربي بعد ذلك.
لا أغفل عن بعض الصناعات التي تميزت في بعض الدول العربية التي تستخدم فن وخبرات الفنانين المهنيين، مثل صناعة النسيج والغزل التي برعت فيها مصر وسوريا سابقاً، ولكن لا ننسى أنها تمت بآلات وخطوط إنتاج و(فبريكات) أوروبية وآسيوية، بل بتعليم وتدريب يتم هناك لديهم. وكذلك الحال في صناعة المنسوجات والملابس، فهي حقل واسع للاستفادة والاستثمار في إمكانات الفنان، ولكن من يفكر في استثمار عقلية الفنان التشكيلي المستقل؟. الطباعة أيضاً ينطبق عليها نفس القول، إذن أين هو الفنان في عالم الصناعة العربية؟، الإجابة ليس له مكان عملي أو مؤثر سوى بين جمهور ضئيل وفي متاحف متباعدة لا يرتادها سوى عشاق الفنون من نوع خاص، ناهيك عن أن يكون لمثل هذا الفنان دور اقتصادي داخل في حقل الاستثمار، ثم من هو هذا الفنان؟ هل هو التشكيلي المستقل أم المخترع أم الأكاديمي؟. هؤلاء ليس لهم وجود حقيقي في صناعة مستلزمات الحياة في الواقع العربي. بعض الصناعات للعناصر الاستهلاكية، مثل الأثاث والديكورات والأواني المنزلية وصناعة السجاد، تعتمد على صناع وحرفيين من خارج الوطن العربي، وإن وجد مثل هؤلاء من العرب فيكونون قد أخذوا الصنعة من الخارج وتمرسوا عليها واحترفوها بفعل التقليد وليس الابتكار، مثل ما حدث في مصر (مدينة دمياط) على وجه التحديد في صناعة الأثاث. لو تأملنا شركة إيكيا السويدية نجدها تستعين بفنانين من مختلف أنحاء العالم ومجالها واسع جداً في صناعات تأثيث المنزل، ولم أسمع أن أحد منتجاتها ابتكره فنان عربي أو خليجي. أيضاً كحال جميع الأنشطة البشرية استفاد المصممون بل وأثريت مجالاتهم بسبب تطور التقنية، لم يستفيدوا فقط، بل إن مصممين كثر دخلوا إلى معترك الإبداع بسبب تعلمهم تقنيات التصميم. والتقنية هنا لا أقصد بها استخدام الحواسيب والكمبيوتر فقط. هي أوسع من ذلك، وتبدأ من معرفة قوانين الهندسة بكل فروعها التقليدية والتحليلية والإنشائية والميكانيكية. عملية التعليم وإدارة المعلومات والتدريب ثم الابتكار وصناعة المعرفة جميعها تصب في تزويد المصمم برؤى وفكر يساعده على إنجاز مهامه التصميمية الفنية، وبالطبع تعد وسيلة الحاسب الإلكتروني أحد أدواته. المصمم الآن يعتمد بشكل كبير في تصميم منتجه على التقنيات الإلكترونية لدرجة أننا نجد أن بعض المصممين لا يعرفون استخدام أيديهم المجردة والأدوات التقليدية (الفرجار والمنقلة والمسطرة..إلخ) سواء أكان المنتج الذي يسعون لتصميمه مادة جرافيكية أو هندسية، لذلك فإن التخلف عن معرفة واستخدام برامج التصميم أصبح يؤثر بشكل كبير على المنتج، لذلك يعي المصممون الآن أن عليهم إتقان تلك البرامج، فهي أدوات أساسية في عملهم.
ومن ناحية أخرى هل يحق لنا أن نعرف من المقصود بوصف فنان؟، وقد أشرت إلى ذلك سابقاً، هل هو التشكيلي المستقل المتخصص في رسم لوحات ونحت مجسمات ثم عرضها في معارض ومتاحف خاصة؟. إذا كان الأمر كذلك فأقول نعم هو مستبعد من المؤسسة الصناعية إلى حد كبير، أتكلم عن الواقع العربي، لأن إنتاجه لفنه أصبح حقلاً قائماً بذاته، هو فنان عارض فقط ويجني شهرته ودخله من المعارض التي تهتم إداراتها بالبيع للجمهور أو عن طريق عرضها في متاحف ليشاهدها الجمهور بعد دفع قيمة تذكرة الدخول. نعم هو منسي لأنه خارج الحقل، ومن ناحية ثانية نجد أن مؤسسي وأصحاب المصانع لا يفكرون في استخدام هذا النوع من الفنانين، حيث إن لديهم فنانيهم المهنيين الحرفيين، وهم ليسوا مشهورين كالفنانين المستقلين العارضين، لأنهم يعملون ضمن كيان ومنظومة برسم الوظيفة. شركات المصانع يأتون بالنماذج من الغرب وينفذونها في عالمنا العربي النامي. الفنان العربي العارض يعتقد أن إقامته لمعرض شخصي هو نهاية المطاف ومبلغ الحلم، لا يفكر في طرح فنه وتصميماته على المصانع بغرض الاستثمار أو بغرض شيوعها في حياة الناس. الفنان العارض ليس مظلوماً لأنه يسير في طريق آخر، وأن واقعنا بكل معطياته فرض عليه هذا الدور: أن يكون عارضاً إما فردياً أو في متاحف أو مواسم فنية جماعية وحسب. لدينا أمثلة غريبة في الشباب العربي المعاصر، فقد استطاع بعضهم أن يصل بفنه إلى العالمية، عرض أعماله في كبريات العواصم العربية، وقدرت أعمالهم بملايين الدولارات، مثل الفنانين السعوديين: عبدالناصر غارم وأحمد ماطر وشادية عالم ولولوة الحمود وغيرهم. ثم ماذا؟! لا شيء، هنا يكون دور الفنان قد انتهى، لقد دخل العالمية، ولا شك أنه يعتقد أنه بلغ ذرى المجد وجنى الملايين وحقق الشهرة، مع إنه قد لا يعرف بأن فنه محصور للعرض لفئة محددة وصغيرة. إنه منسي عن الصناعة وهو يريد أن يكون منسياً فليس ذلك طموحه، فلا يتابع مناقصات المشاريع التي يتطلب تنفيذها جانباً فنياً ويتقدم إليها ولا يسوق نفسه كفنان حيوي ومهني. وفي الأخير لعل الفنان السعودي عبدالله الشيخ نموذج، فهو تولى إدارة الإنتاج في مطابع قطاع خاص بالمنطقة الشرقية. كما أنه رأس قسم التصميم بطابعة الهيئة الملكية بالجبيل الصناعية. ويحضرني اسم الفنان الخطاط التونسي نجا المهداوي الذي ساهم في تجميل طائرات (طيران الخليج). وهناك فنانون ومصممون عرب عالميون في مجالات مختلفة، منها تصميم البيوت والديكورات الداخلية أمثال: كريم رشيد (مصري)، محمد الرفاعي (سعودي) وفادي سري الدين (إماراتي) وندى دبس (لبنانية)، ومحمد بديع (مصري)، حاتم الأحمد (سعودي)... وغيرهم، ولكن تظل إبداعاتهم محصورة النطاق ولم تنطلق للحيز الجماهيري الواسع. ربما أستثني في مجال تصميم المجوهرات المصمم رالف المصري، والسعوديتان رجاء الفاسي وخلود كردي، وفي مجال المعمار المهندسة العراقية زهاء حديد، التي تجلت أعملها خارج الوطن العربي قبل داخله، وكذلك في مجال تصميم الأزياء السعودي يحيى البشري، واللبناني إيلي صعب.
أعتقد أن الفنانين المصممين في الصناعات الإبداعية الإعلامية من خلال المحتوى البصري للوسائط المتعددة لهم تأثير واضح وهم الفئة الكاسبة في مضمار الاستثمار الإبداعي، ويليهم المصممون الجرافيكيون مثل مصمم الشعارات والهويات التجارية اللبناني كميل حوا والمصمم التونسي ياسر جودي. ولا أستبعد الفنانين العاملين في مجال أدوات ومواد البناء مثل صناعة السيراميك والأعمدة والأسقف الجبسية والأبواب الخشبية المشغولة، لكن أعود وأقول بأن معظم التصميمات مستنسخة من الدول الصناعية ولا دور للفنان العربي سوى الاستمرار على نفس النهج. ربما بعض الصناعات اليدوية ذات الطابع الأصيل تظل فريدة، كما في دولة المغرب، التي تعنى بالفنانين الفطريين الذين ينتجون الأدوات المنزلية أو يعملون في فن الموبيليا. وربما أيضاً بعض الصناعات اليدوية الشعبية المحلية.