في ظل سيادة التسليع ودعاوى التشييء وانتشار الميكنة والرقمنة وهيمنة البرمجيات المعدة سلفاً لتنظيم حركة الحياة، تتلاشى الفوارق تدريجيّاً بين الإنسان والروبوت، فكل منهما آلة تتصل بالآخرين عبر شبكة معلومات في كون مادي هندسي تحكمه الدقة ولا يقبل الطفرات الفردية والمفاجآت.
هكذا، وفق هذا المنطق، يمكن الجزم بأنه لا يكاد يوجد فرق جوهري بين (الباركود) (الشفرة الخيطية الممثلة لبيانات المنتجات التجارية) وبين (الجينوم البشري) (مجموعة المعلومات الوراثية للإنسان)، بل من الممكن أن يحدث تداخل وتبادل للأدوار والوضعيات بين البشر والأشياء، فيصير للإنسان باركود يفصّل إحداثياته ويحدد قيمته ومواصفاته في السوق، وتصير للأشياء صبغيات حيوية تكشف خصائصها المميزة وأسرار جيناتها وسلوكياتها.
هذه الفلسفة شكلت مرتكزاً لإطلاق معرض بصري تجريبي بعنوان (باركود) للتشكيلية رانيا أبو العزم، في قصر الفنون بساحة دار الأوبرا المصرية بالقاهرة (نوفمبر 2018)، إذ تُقدم أستاذة الفنون في جامعة حلوان أعمالاً تصويرية وهندسية تبرز أن لكل شخص في الحياة العصرية الراهنة (باركود)، منذ نقطة بدايته حتى نهايته.
تقترح لوحات (باركود) إمكانية اعتبار الإنسان منتَجاً تسويقيّاً أو شيئاً مصنوعاً أو آلة صمّاء، ومن ثم تجري قراءة التمثيل الضوئي لبياناته وخرائطه القابلة للرصد من جانب الحاسوب بالرموز ثنائية الأبعاد، وفك شفراته كأية وحدة مبرمجة في عصر تسيطر فيه لغة الصفر والواحد وقوانين الهيمنة وتوحيد النمط والسلوك البشري بفعل العولمة وغيرها.
وسط تشابكات يومية جعلت الحياة الحديثة شبكة معلومات، تفترض أبو العزم في تجربتها أن الأحياء جميعاً يولدون مُحمّلين بالأرقام والبيانات، التي يصطبغون بها منذ الميلاد حتى الوفاة. وفي رحلة العمر، المثبتة في سلاسل الباركود، يتسم الفرد حيناً بالشباب والصحة، وحيناً بالشيخوخة والمرض، وفي النهاية يصيبه القِدَم، فيهرم وينزوي، ولا شيء يمنعه من قدره، فكم من جميل وجديد ينكسر ويضمحل.
هكذا، تذوي الأعضاء البشرية، وتهرم الوجوه، وكل شيء مهما طال أجله ينتهي، وإن اختلف أنين الكلمة الأخيرة. وبالرغم من ذلك، تبقى في الحياة متعة ما، وفي صرخة الوليد أمل، وفي الجمال مراوغة لحقيقة الامّحاء المؤلمة.
تترجم أعمال أبو العزم أبرز الأرقام والأكواد المعبرة عن البشر، كتواريخ الميلاد، وبطاقات الهوية، وجوازات السفر، وشهادات الوفاة، وتطرح من خلال مشروع فني قائم على الابتكار وخصوبة الرؤية وعمق الفكرة كيف يزداد اقتران الإنسان بأرقامه وبياناته يوماً بعد يوم، منذ وصوله إلى الدنيا، حتى مغادرته الحياة، ولكل مرحلة عمرية ولكل حالة طقسية ونفسية ومزاجية (باركود) مختلف يعكسها ويفسّرها من خلال الخطوط والنقوش والألوان.
يتجاوز (الباركود) في أعمال رانيا أبو العزم الحيز الضيق لمفهوم البصمة بالمعنى الجسداني، فالباركود ليس تمثيلاً شكليّاً للملامح الظاهرية والفيزيائية للإنسان، بل هو تعبير عن قراءة استبطانية استقصائية للداخل الإنساني العميق، وطبقات المشاعر والانفعالات الجوّانية، فرسم الباركود يعني ببساطة تشريح الإنسان تشريحاً كاملاً، ووضع خلاياه الحيوية مرتبطة ومنفردة تحت المجهر، وتحليل معطياته الروحية والذهنية، في آن.
ويحيل الباركود، على الصعيد العلمي، إلى ذلك الرمز الشريطي، أو الشفرة الخيطية، وهي التمثيل الضوئي لبيانات قابلة للقراءة من قبل أجهزة الحاسبات. وتأتي الشفرة الخيطية ممثلة بالخطوط والفراغات بين الخطوط المتوازية، كما قد تأتي أيضاً بأنماط مربعات أو نقاط أو أشكال سداسية أو أنماط هندسية أخرى ضمن صور يطلق عليها الرموز المصفوفة ثنائية الأبعاد.
وتجري قراءة الباركود بواسطة ماسحة ضوئية تسلط شعاعاً من الليزر عليه، ويرتد مرة أخرى من الأعمدة البيضاء فقط، حيث إن الأعمدة السوداء تمتص الضوء ولا تعكس الشعاع. ويقوم كاشف الضوء الموجود في الماسحة بتحليل الأشعة المنعكسة، ثم يرسل هذه البيانات إلى حاسوب يعمل على مطابقة هذه الشفرة مع الشفرات المخزنة لديه، فيستخلص كافة المعلومات المرتبطة بهذه الشفرة مثل السعر والكمية والمواصفات وغيرها.
ويبدو الباركود في تجربة رانيا أبو العزم البصرية متماسّاً بشكل كبير مع مفهوم الجينوم البشري، المقترن بصفات الإنسان وخصائصه، بما يعني مجموعة المعلومات الوراثية للإنسان والصبغيات الكائنة في نواة الخلية، ويقود تحليل هذه البيانات إلى صورة كاملة للبشر.
تعكس أعمال معرض (باركود) الحالات الإنسانية المتابينة، من خلال جملة الخطوط والفراغات والرموز والأشكال الهندسية التي تمثل كل فرد في حالة معينة أو موقف محدد، فللشخص الواحد أكثر من باركود بحسب المتغيرات الداخلية والمحيطة به، واللحظة الزمانية، والإحداثيات المكانية.
يساوي معرض باركود بين البشر مسلوبي الإرادة، والأشياء الجامدة، فالإنسان في عصر الآلة مكبل بقيود الحياة الرقمية الباردة، مفتقد جذوته المشتعلة، منسلخ من هويته وقدرته على اتخاذ قرار بحرية، منصهر في مشتركات جمعية أذابت خصوصيته وفردانيته. لقد انقادت الإنسانية إلى نفق مظلم، يخضع كل شيء فيه للحساب والمعادلات الرياضية، حتى معدلات المواليد والوفيات المتحكم فيها وفق مصالح وانتهازيات.
تنقل رانيا أبو العزم من خلال لوحات الباركود حكايات عن البشر/الأشياء، منذ الميلاد حتى النهاية، وتستعين الفنانة بعناصر إضافية في تجربتها البصرية، منها الورود وأوراق الأشجار ووجوه الأطفال وغيرها، لتوضيح دلالات الحالات التي تنقلها، بين اليأس والحزن والانطفاء وغيرها.
تلعب أبو العزم كذلك على ذبذبات الألوان وتردداتها، والمراوحة بين الظلال والأضواء، فالباركود المرسوم بالزيت والأكريلك يكتسب ثراءه من كثافة العناصر المحتشدة فيه، ليمكنه سرد سيرة الإنسان الكلية من خلال دفق زاخم فعّال.