من المسلم به أن التأريخ بالبيوغرافيا ليس عملاً جديداً، إذ اهتم الناس منذ القديم بتدوين سير الزعماء والأنبياء والقديسين والقادة العسكريين وغيرهم ممن كان لهم تأثير في زمانهم، غير أنها دخلت مرحلة الكسوف خلال فترة هيمنة مدرسة الحوليات على حقل التاريخ العالمي، بحجة أن البيوغرافيا صنم يمجد الأفراد. لقد عادت السيرة إلى العلم التاريخي -حسب جاك رانسيير- فبعد مرحلة طويلة من الشك، عاد المؤرخون فأنصفوها وكرس لها عدد منهم، خلال الثلاثين سنة الأخيرة، ما لديهم من طاقة، وتقدم لنا المكتبة البيوغرافية الحالية في زمن التأويل والهويات المتعددة ألف وجه وألف قناع، ومن هذه الأوجه والأقنعة الجديدة نجد، على سبيل المثال، (المرأة في حياة نابليون)، وهي سيرة تاريخية غيرية حديثة صدرت بقلم المؤرخ وكاتب السير الإنجليزي كريستوفر هيبرت (1924 - 2008)، الذي ألف في هذا المجال أزيد من أربعين رواية وسيرة، أشهرها: صعود آل ميديتشي بفلورانسا وسقوطهم.
وتميز هيبرت عن مؤلفي عصره بكتابته لسير المدن، حيث ألف سيرة لندن وسيرة روما وسيرة فلورنسا وسيرة البندقية، فضلاً عن تخصصه في كتابة بيوغرافيات عديدة لشخصيات ملكية شهيرة أمثال: إليزابيت الأولى، والملكة فيكتوريا. كما كتب سيرة الأديب والشاعر صمويل جونسون.
يأتي كتاب المرأة في حياة نابليون في سياق عودة الاهتمام ببيوغرافية الأفراد، وهي عودة تنسجم مع تزايد تغلغل فلسفة الذات ومنطقها من جديد، وبالخصوص بعد أفول صوت البنيوية، الأمر الذي يعبر عن تحول أبستمولوجي عميق، حيث أعيد الاعتبار لنظريات الفعل بطريقة قوية، وضمن تصور شامل.
لقد ظلت البيوغرافيا والسير الفردية دائماً ذات قيمة عند قسم كبير من الجمهور القارئ في مختلف بقاع العالم، ومن المتفق عليه أن العودة المحتفى بها لهذا النوع من الكتابات ارتبط بسياق العودة إلى الذات، وما رافق ذلك من تثمين لدور الفاعلين في التاريخ، وإبراز مكانة التفرد والاستثناء في العلوم الاجتماعية، وذلك بطريقة لا تمت بصلة إلى التناولات البيوغرافية القديمة. وهو الأمر الذي يفسر تنوع وتعدد الكتابات البيوغرافية اليوم، خصوصاً بعد أن تخلصت من الحظر الذي كبلها لسنوات، إذ لم يتوقف بريقها عن التقدم إلى الآن، فهذه الكتابة استطاعت أن تفرض نفسها بمفاهيم ورؤى جديدة ومغايرة، وحققت بذلك نجاحاً باهراً.
يمكننا أن نتتبع تبلور العديد من أصناف كتابة السير المختلفة المداخل، في ظل بروز مسارات جديدة، فقد انتشرت نماذج وأشكال متعددة وخصبة، فرضت نفسها كحقل جديد لإحياء الذاكرة التاريخية، أهمها: السير الجماعية والسير الفكرية والسير المتوازية، والسير المتقاطعة، وينتمي كتاب المرأة في حياة نابليون إلى الصنف الأخير.
افتتن جمهور القراء الفرنسيين على الدوام بالعظماء، فأي كتاب عن لويس الرابع عشر (1638 - 1715) أو نابليون بونابرت (1769 - 1821) أو غيرهم من عظماء الثورة الفرنسية وجنرالاتها كان يكفل حداً أدنى من المبيعات تتجاوز عشرة آلاف نسخة مهما تكن طبيعة الكتاب أو الكاتب. إن ذوق الجمهور يتجه بطبعه شطر سير الحياة المتميزة بحثاً عن الرومانسية والمعرفة. ومن الجدير بالذكر الإشارة الى أهمية السير التي تناولت شخصية نابليون بونابرت بالتحديد، لأهميتها في التاريخ الفرنسي خصوصاً، والتاريخ الأوربي عموماً، حيث نتوقف مع زخم تأليفي مهم ووازن، بل إنه حتى في المرحلة التي هيمنت فيها مدرسة الحوليات على الحقل الأكاديمي الفرنسي برزت سير لافتة، فبيوغرافية نابليون التي كتبها المؤرخ الجامعي جون تولار سنة 1977م، كانت بطلب من مديرة منشورات فيارد Fayard، التي اقترحت عليه أن يكتب بيوغرافيا تاريخية شاملة عن نابليون بونابرت بسبب تزايد الطلب الجماهيري. كما ظلت بعض النجاحات السابقة ذائعة الصيت، حيث كان يتم إعادة طبع بعض الأعمال المميزة، مثل ما هو الحال بالنسبة لأعمال المؤرخ وكاتب الروايات الشعبية الشهير ماكس كالو الذي كتب بيوغرافيات عديدة، لكن كتابه حول نابليون هو الذي حقق الرواج الأكبر وحطم الأرقام القياسية للمبيعات، فقد استطاع نتيجة الطفرة التي حققتها البيوغرافيا في زمانه أن يسوق 800 ألف نسخة من أعماله عن شخصية بونابرت، وحتى في خارج فرنسا تعلق الكثيرون بهذه الشخصية، وهو ما يفسر اهتمام والتر سكوت، الملقب بـ(أب الرواية التاريخية الحديثة)، والذي يعد من أكثر كتاب السير شعبية في ألمانيا وإنجلترا، بهذه الشخصية، إذ خط سيرة حياة الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، إلا أن غورغو غاسبار، وهو أحد الذين رافقوا هذا الأخير إلى جزيرة القديسة هيلانة، كتب بعد عودته إلى فرنسا دحضاً مفصلاً لسيرة سكوت، في كتابه المؤلف من جزأين والموسوم بـ: جزيرة القديسة هيلانة: سجلات يومية غير منشورة. كما اشتهرت بيوغرافية متقاطعة عن غوتة ونابليون: لقاء تاريخي بين الشاعر والجنرال، وقد أعيدت طباعتها أكثر من ست مرات في ظرف سنتين من صدورها، وفيها تتبع كاتبها، غوستاف ساييت، بكثير من التشويق لحظات الصعود والسقوط في حياة الإمبراطور ما بين سنة توليه السلطة بعد الفوضى التي أعقبت الثورة الفرنسية وإلى غاية استسلامه للإنجليز بعد انهزامه في معركة واترلو سنة 1814م.
في سيرته عن المرأة في حياة نابليون يبرز لنا كريستوفر هيبرت صورة مغايرة لبونابرت، فهي لا تظهره بمظهر القائد العسكري الفذ، أو الإمبراطور المظفر بالانتصارات العسكرية، أو حتى في صورة البطل المهزوم أمام إنجلترا وحلفائها، وإنما يكشف لنا الرجل في علاقاته المتشعبة مع عدد من النساء اللواتي أحطن به وأثرن في مسيرة حياته الحافلة بالأحداث والوقائع، زوجاته: جوزفين دي بوهارنيه وماري لويز، وعشيقاته الكثيرات بالبلاط، وأمه: ماريا ليتيزيا رامولينو، وشقيقاته، وبالخصوص: بولين المدللة والعنيدة. نتعرف في هذه الرواية على شخصية نابليون المزاجية واهتماماته الشخصية وأذواقه الخاصة، والانطباعات التي تركها لدى معاصريه بعيداً عن ميدان المعارك وسجل الجبهات الساخنة. وتتداخل في هذه السيرة المناورات والمكائد والعداوات النسائية والعلاقات الغرامية المتعددة. كما يسلط المؤلف الضوء أيضاً على حياة نابليون الخاصة في زمن السلم والحرب كما في زمن المنفى. ويرصد في نفس الوقت اعترافات نابليون بأبنائه غير الشرعيين: وهم إلكسندر ولوفسكي من عشيقته الكونتيسة ماري ولوفسكا، وشارل ليون ابن إليونز دينويل، وطفل من ألبين دي مونثولون وطفل من مدام دي بلابرا. وفي ختام هذه البيوغرافية يقتحم كرستوفر هيبرت بكثير من الجرأة الغموض الذي حام حول سبب وفاة نابليون بجزيرة القديسة هيلانة، ففي ملحق خاص ناقش هذه القضية استناداً إلى وثائق وشهادات تثبت وفاته مسموماً بالزرنيخ، بالنظر إلى عوارض التسمم العديدة التي ظهرت على نابليون في الأشهر الأخيرة قبل وفاته. وقد اتفق كاتبان حديثان ممن تناولا حياة نابليون بالدراسة والتحليل، وهما فرانك ماكلين وألن شوم، على أن هذا الأخير توفي نتيجة دس السم له في الطعام على فترات طويلة وبجرعات منخفضة، وذلك من طرف دي مونثولون رفيق نابليون في المنفى والمسؤول المباشر عن الخدم بمطبخه، وقد تعددت التفسيرات والتأويلات المتعلقة بالدوافع الكامنة وراء فعلته.