يمر المسجد الأقصى المبارك هذه الأيام وعلى مدى نصف قرن، منذ وقع تحت الأسر اليهودي عام 1967م، بأخطر مرحلة في تاريخه الطويل، وذلك بعد أن عقد الصهاينة العزم على محوه من الوجود، وإقامة هيكلهم المزعوم في الحرم القدسي الشريف.
وخطورة الموقف تتمثل في أن مخطط الاعتداء على المسجد المبارك يسير في اتجاه تصاعدي من حيث القوة والكثرة وتعدد الأطراف المشتركة في المؤامرة عليه، تلك المؤامرة التي تزداد مع الأيام، تنوعاً وتفرعاً وتخصصاً، وتحظى بتأييد ومباركة حكومة الاحتلال الصهيوني، التي تتخذ من الجماعات والمنظمات اليهودية المتآمرة على الأقصى ستاراً تختبئ وراءه، حتى إذا وقع المحظور وانهار الأقصى، قالوا إنها الجماعات المتطرفة، إنه الإرهاب الذي نرفضه، ولا مانع عند ذلك من القبض على شخص أو أكثر أمام العالم، ووضعهم كأبطال قوميين وراء القضبان.
استهداف الأقصى
لقد تأكد للعرب والمسلمين خاصة، وللعالم كله عامة، أن أعين الصهاينة لم تسقط عن المسجد الأقصى منذ عام 1967م، وهدفهم الوحيد هو هدمه، لكي لا يبقي في القدس للمسلمين ما يتمسكون به، وينتفضون من أجله، وهم يجسون نبضهم في ذلك، ويحاولون إماتة شعورهم تجاه مسجدهم المبارك، بأعمال الحفر والهدم لحرمه وشوارعه وجسوره، وتحريض متطرفيهم للاعتداء عليه بالاقتحامات المتكررة ومحاولات الحرق والهدم والنسف والتفجير، وأفعالهم المتنوعة في ذلك أكثر من أن تحصى، والمنظمات الصهيونية التي أنشئت لهدم المسجد وبناء الهيكل تزيد عن عشرين منظمة، والمحاولات الفردية والجماعية العدوانية على المسجد، باقتحامه أو احتلاله أو حرقه أو تفجيره أو إرهاب المصلين فيه، تعد بالمئات.
الحقيقة والأسطورة
وعندما نتعرض لقضية المسجد الأقصى المبارك اليوم في ظل الأسر الصهيوني، وما يحاك له من مؤامرات ومخططات لهدمه وإقامة الهيكل على أنقاضه، فنحن أمام حقيقة واضحة تضرب بجذورها الراسخة في أعماق التاريخ، وأسطورة مزيفة نسج خيوطها الغلاة والمتطرفون اليهود، ولا أساس لها من الواقع ولا من التاريخ.
أما الحقيقة الواضحة فهي ذلك المسجد المبارك الذي سبق وجوده وجود اليهود وديانتهم بآلاف السنين، وتعود بدايته إلى ما قبل عهد الخليل إبراهيم، عليه السلام، وجاء القرآن الكريم لكي يؤكد وجوده وقدسيته، ويبارك ما حوله من أرض قدسية، ويربط بينه وبين البيت الحرام بمكة، قبلة المسلمين وأول بيت وضع للناس، في حادث معجز من أعظم حوادث السيرة النبوية الطاهرة، وهو: الإسراء والمعراج، يقول تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الإسراء / 1.
وأما الأسطورة المزيفة، فهي ذلك الهيكل اليهودي المزعوم، الذي هدم عدة مرات قبل الميلاد وبعده، ونسج اليهود المعاصرون حكايته، وادعوا زوراً وبهتاناً أنه كان مبنياً مكان المسجد الأقصى، وأنهم يسعون اليوم إلى إعادة بنائه في مكانه القديم، وهذا الحلم لن يتحقق، ضمن مخططاتهم، إلا إذا هدم الأقصى، لكي يقيموا هيكلهم على أنقاضه.
تلك هي القضية، وذلك هو محور ما تدور حوله الأحداث المتعلقة بالأقصى المبارك منذ وقع تحت الأسر الصهيوني عام 1967م وإلى يومنا هذا.. فكل الأحداث التي جرت للأقصى، من اقتحامات ومحاولات للحرق والنسف والتفجير وضرب بالمدافع وحفريات حوله وتحت أسواره وأنفاق أرضية هنا وهناك في القدس والحرم القدسي، إنما تصب جميعها في خدمة الهدف الوحيد لليهود، وهو هدم الأقصى ومحوه من الوجود، لكي يتسنى لهم إقامة الهيكل المزعوم في الحرم القدسي الشريف.
مزاعم صهيونية
ولذلك نؤكد أن قضية الأقصى تمر اليوم بمنعطف خطير، مع إصرار اليهود على أن لهم حقوقاً في المسجد الأقصى وأن سليمان -عليه السلام- بنى هيكلاً في تلك البقعة عندما حكم القدس، وأن المسلمين معتدون على تلك البقعة، والتي بنوا عليها مسجداً أسموه المسجد الأقصى.
وهذه الخرافات والأكاذيب ما هي إلا أسطورة نسجها اليهود وأشاعوها، ويعملون على ترويجها حتى أقنعوا بذلك أنفسهم والكثير من نصارى العالم، لأنهم يتوقعون أن النصارى سيساعدونهم في بناء هيكلهم، وإن بناءه سوف يعجل بقدوم المسيح الذي سيتخذ من الهيكل مقراً لحكمه، لذا يستعطفون النصارى للعمل من أجل بناء الهيكل.
زوال الهيكل
ولكن التاريخ يؤكد أن هيكل سليمان قد زال من الوجود قبل الميلاد بمئات السنين، حيث غزا الملك (بنوخذ نصر) أرض فلسطين قادماً من العراق، وأنهى حكم اليهود فيها، ودمر مبانيهم ومعابدهم، وسباهم إلى العراق وذلك عام 586 ق. م، ثم تلاه الملك (هيرودس) الذي أعاد لليهود تواجدهم في القدس وسمح لهم ببناء معبدهم الثاني، لكن الملك الروماني (طيطوس) عاقب اليهود على سوء معاشرتهم فقام بهدم المعبد للمرة الثانية وذلك عام 70 م.
والمسلمون عندما فتحوا القدس في عهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لم يكن هذا المعبد اليهودي موجوداً، وكان المسجد الأقصى قائماً كأرض فضاء مسورة بسور، حتى تم بناء المسجد بصورته الحالية في العهد الأموي.
ولو كان المسلمون عندما دخلوا القدس فاتحين عام 637م، وجدوا معبداً أو هيكلاً يهودياً لحافظوا عليه وقاموا بصيانته ورعايته، كما فعلوا مع كنائس النصارى ومعابدهم ومزاراتهم، فقد بقيت القدس منذ الفتح الإسلامي، وحتى يومنا هذا حافلة بالكنائس والمزارات والمقدسات المسيحية، ورعاها المسلمون أكمل وأفضل رعاية عند الفتح الإسلامي وبعده، ولم يحدث أن هدم المسلمون معبداً من معابد اليهود والنصارى، لا في القدس ولا في غيرها من البلدان التي فتحوها، ولكن كانت روح التسامح الإسلامي تحكم سلوكهم تجاه أهل الذمة، الذين وجدوا في ظل الحكم الإسلامي كل أمن وأمان وحرية واستقرار.
تناقض حول مكانه
ورغم هذه الثوابت التاريخية، والتناقض الشديد عند اليهود، وعدم اتفاقهم حول شكل الهيكل وموقعه، إلا أنهم متفقون جميعاً على هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه، وهم الآن في سباق مع الزمن لتهويد مدينة القدس وتحقيق هذا الهدف.
فلم يستطع اليهود تحديد مكان الهيكل الأول والثاني حتى اليوم، وفي هذا دلالة واضحة على أنهم لا يعرفون أماكن عبادتهم، وأنهم يدعونها ادعاء، فمنذ عام 1519م تقريباً كان اليهود يصلون قريباً من السور الشرقي للمسجد الأقصى قرب بوابة الرحمة، ولم يتعبدوا قرب حائط البراق إلا بعد تلك السنة.
ولم يتمكن أحد من الباحثين اليهود تحديد مكان الهيكل بصورة لا تقبل الشك حتى يومنا هذا، فمنهم من يقول: إنه تحت المسجد الأقصى، والبعض يقول إن الهيكل فوق الصخرة، والبعض يرى أنه موجود على جبل جرزيم قرب نابلس، والبعض يخالف ويقول: إنه في تل أيل شمال القدس وجنوب رام الله.. إلى غير ذلك من الآراء المتضاربة.
حلم بناء الهيكل
وعلى الرغم من أن التاريخ ينسف أسطورتهم، وآثار القدس تؤكد زيفها، فإن حلم بناء الهيكل كان يراودهم عبر قرون عدة، وها هو الحلم قد تحول إلى واقع منذ سيطروا على القدس العربية في حرب يونيه 1967م، وأسروا المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقد نسج اليهود لأنفسهم أكذوبة أن المسجد الأقصى قد بُني مكان هيكل سليمان، وبنوا على هذه الأكذوبة كل مخططاتهم الرامية إلى هدم المسجد وتدنيسه.
ونحن لا نبالغ إذا قلنا إن الأقصى يتعرض للهدم البطيء منذ عام 1967م، وإلا ما معنى الحفريات التي تتم تحت جدرانه وأسواره وأساساته على مدى الخمسين عاماً الماضية، والتي أدت بالفعل، كما يقول خبراء الآثار في القدس إلى خلخلة أساسات المسجد، وجعلته عرضة للانهيار بفعل أي هزة أرضيه بسيطة تصيب القدس.
مجانين الهيكل
وفكرة إعادة بناء الهيكل اليهودي أحدثت هوساً لدى المتطرفين اليهود، حتى اشتهر من بينهم طائفة عرفت باسم (مجانين الهيكل)، وهم خليط من اليمين المتطرف في الدولة العبرية، ولدى العديد منهم سوابق قضائية بسبب ارتكابهم أعمال عنف على علاقة بطابع قومي متشدد، وهدفهم هو هدم أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين لإقامة هيكلهم المزعوم مكانه.
ولا يتوانى غلاة اليهود المتطرفون بالإعراب عن اقتناعهم بأنه يجب إعادة بناء المعبد اليهودي في ساحة الحرم القدسي، من أجل تسريع ظهور (المسيح المخلص)، ويشكل (مجانين الهيكل) هؤلاء مصدر قلق للسلطات الصهيونية نفسها.
طقوس تحضيرية
وقد أعاد (مجانين الهيكل) بناء أماكن البخور ومكانس الرماد المخصصة للذبائح الحيوانية، والآلات الموسيقية المصنوعة من الفضة وألبسة الحاخامات من قماش الكتان البيجي اللون، إضافة إلى شمعدان ضخم من سبع شعب مصنوع من الذهب الخالص. وتعرض المواد، بانتظار استخدامها في متحف (معهد جبل الهيكل) الذي أقيم بتمويل من وزارة التربية الإسرائيلية، ويقوم جميع تلامذة المدارس بزيارته لتكوين فكرة عن الحياة داخل معبد الهيكل.
منظمات يهودية
وهناك عدة منظمات يهودية متطرفة تعلن سعيها الصريح لهدم الأقصى وإقامة هيكل سليمان على أنقاضه، فقد أصدر أحد مراكز الأبحاث الفلسطينية تقريراً يحصر 13 منظمة يهودية تنحدر في غالبيتها من منظمات يهودية متطرفة وضعت نصب أعينها الاستيلاء على الحرم، تمهيداً لتحويله إلى كنيس يهودي وإقامة الهيكل الثالث مكانه بذريعة أن مسجدي الأقصى وقبة الصخرة أقيما في موقع الهيكل السابق.
وتتوزع هذه المجموعات على اثنتي عشرة فرقة ومدرسة دينية تستوطن جميعها في قلب البلدة القديمة، وغالبيتها اتخذت مقاراً لها في مبانٍ ملاصقة للحرم القدسي ومطلة على ساحاته، ومنها: أمناء جبل الهيكل، ومعهد الهيكل، مدرسة توراة الهيكل، حركة إقامة الهيكل، جمعية جبل البيت، وجماعة الهيكل.
وتتعامل الحكومة اليهودية مع تلك الجماعات والحركات والمؤسسات بتسامح يصل إلى حد إعطاء الضوء الأخضر للكثير من الممارسات والاعتداءات. وتتميز هذه المنظمات والحركات بالتنسيق فيما بينها والتكامل في أنشطتها.
التجهيز لبناء الهيكل
وهكذا جهز اليهود أنفسهم لبناء هيكل سليمان الثالث على أنقاض المسجد الأقصى، فوضعوا مجسماً للهيكل، وجهزوا أحجار البناء ومعداته وعمال البناء ومهندسيه، وجمعوا التبرعات المطلوبة لذلك، وقاموا بإنشاء المعاهد الدينية لإعداد الكهنة الذين سيقومون على خدمة الهيكل، وأقاموا المدارس الدينية التي تخرج أجيالاً يهودية تتفاعل مع الهيكل وتستخدمه، وأعدوا فانوس الذهب الشبيه بالفانوس الذي كان يستخدم في عهد الهيكل الثاني، وصنعوا الأدوات التي ستخصص للاستخدام في الهيكل.. وهذا كله يؤكد أن اليهود جادون كل الجد في تحقيق جريمتهم الكبرى بهدم الأقصى.
والواجب يحتم على العالم الإسلامي، بأفراده وشعوبه ودوله، أن يهب لإنقاذ ثالث الحرمين، ووقف هذه المؤامرة الصهيونية التي تدبر له، قبل أن ينهار في غفلة من المسلمين، وساعتها لن ينفع الندم والبكاء، وقد أضاعوا أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي جعله الله، سبحانه، أمانة في أعناقهم.
ولن يتحقق للمسلمين ذلك إلا إذا جمعوا كلمتهم ووحدوا صفوفهم في مواجهة هذا العدو الماكر الذي بنى تاريخه على الخديعة والغدر والنفاق والعنف والإرهاب وسفك الدماء، ومازال يعربد ويخرب في المنطقة العربية حتى اليوم.