للوزير الأسبق للطاقة النووية في روسيا (يفغيني آداموف) تصريح على قناة (روسيا اليوم): (عندما وقعت حادثة (جزيرة الثلاثة أميال) النووية في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1979، استغلها الاتحاد السوفييتي للدعاية السياسية ضد الغرب، آنذاك تم الترويج أنه لا يمكن لحادثة كتلك أن تقع إلا في مجتمع برجوازي، وأن فكرة الجشع والربح في مثل تلك البلدان تتقدم على أمن الإنسان، أما في المجتمع السوفييتي فلا يمكن أن يحدث شيء من هذا القبيل أبداً، بل يمكن وضع المفاعلات النووية في الساحة الحمراء دون الخوف من أن يحدث شيء لها).
وتؤكد الكاتبة البيلاروسية (سفيتلانا أليكسييفيتش) الحائزة على نوبل للآداب عام 2015 في كتابها (صلاة تشرنوبل): (كنا أبناء زمننا ووثقنا بما علمونا إياه، من أن المحطات النووية السوفييتية هي الأكثر أماناً في العالم، ويمكن بناؤها حتى في الساحة الحمراء، -الذرة العسكرية- هي هيروشيما وناجازاكي، أما -الذرة السلمية- فهي مصباح كهربائي في كل بيت، لم يتوقع أحد أن الذرة العسكرية والذرة السلمية توأمان-شريكان).
لا يوجد مدخل أنسب مما سبق لقراءة مسلسل (تشرنوبل)، فالتصريحان يؤكدان على ما يمكن أن تفعله الشوفينية بالبشر.
مسلسل تشرنوبل فاجأ الجميع بين ليلة وضحاها بأن أصبح العمل التليفزيوني رقم (1) من بين قائمة الـ IMDB لأكثر الأعمال التلفزيونية تقييماً لدى الجمهور، لحقه بنجاح نقدي كاسح على موقع الـ rotten tomatoes بتقييم إجمالي 96 %، فكيف لعمل يتناول وقائع حدثت منذ أكثر من ثلاثين عاماً في الاتحاد السوفييتي أن يحظى بكل تلك الشعبية الجارفة، وكيف يمكن أن يحيط بكارثة بهذا الحجم من كافة جوانبها في خمس ساعات فحسب، تلك التساؤلات سنحاول الإجابة عنها هنا، وإن كانت الإجابة الشافية الحقيقية تكمن في مشاهدة المسلسل نفسه!
رغم أن المسلسل ألزم نفسه بمحاكاة بصرية متناهية الدقة لكل المادة المصورة المتاحة من أحداث تلك الحقبة، إلا أنه نهج منهجاً سردياً غير ملتزم بكرونولوجية الأحداث، وذلك لعدة أسباب، أولها أن طبيعة ما حصل أضخم وأكبر حجماً من أن يجد تسلسلاً زمنياً يتسع لكل شيء، وثانيها أن كاتب السيناريو (كريج مازن) قرر أن يجعلنا نشعر بما شعر به الأشخاص الذين عاصروا الواقعة من ارتباك وعدم فهم ما يحدث، وثالثها أن السيناريو كان في حاجة حقيقية إلى أن يتفرع في خطوطه كالأخطبوط في محاولة منه للإلمام بالجوانب الأخرى الاجتماعية/ الإنسانية بعيداً عن المسار الأساسي المحكوم بما هو تأريخي/ سياسي بحكم الحدث.
يتوغل السيناريو عميقاً داخل ثلاثة أنواع من العقول، هي الأنماط الثلاثة الأكثر تكراراً بين الأحداث، عقل الشعب السوفييتي الذي تم غسله بالبروباغندا الشيوعية التي تم الإشارة إليها في البداية عبر تصريح سفيتلانا أليكسييفيتش، وهؤلاء هم أكثر الأشخاص الذين حظوا بالتعاطف من قِبل المشاهدين، ويمثلون 90% من إجمالي شخصيات المسلسل، منهم المهندسون والفنيون قليلو الخبرة والذين شاركوا في التجربة التي أدت لانفجار المفاعل، وراحوا هم كأول ضحايا الكارثة نتاج تعرضهم المباشر للإشعاع، ومنهم الإطفائيون الذين تم تضليلهم بمعلومات كاذبة وتعاملوا مع حريق المفاعل كحريق عادي دون أي استعدادات خاصة، ولم ينج منهم أي شخص ودفنوا في مقبرة داخل توابيت محكمة من الزنك وصُب فوقهم طبقة من الإسمنت تحت الأرض، وأولئك الذين شاهدوا لحظة الانفجار من فوق جسر سمي لاحقاً بجسر الموت، والآلاف من المواطنين الذين تم ترحيلهم عن موقع الحادث متأخراً جداً بحجة عدم نشر الذعر بينهم، وكل الذين أُجبروا على تقديم أرواحهم لإزالة المواد المشعة ودفنها تحت شعارات الوطنية وحفنة من المال والتكريمات التي لم يعيشوا حتى يتسلموها، هؤلاء الأشخاص هم نحن بكل ذعرنا وخوفنا من المجهول، وبكل ما يمكن أن يحدث لنا فقط إن كنا في المكان والزمان الخطأ، ضحايا كارثة تشرنوبل التي رفض الاتحاد السوفييتي الاعتراف بعددهم الحقيقي حتى الآن.
ثاني العقول التي يتوغل فيها السيناريو هي عقول الساسة السوفييت بكل ما تحمله من شوفينية، قد تظن في البداية أن الأمر ما هو إلا حالة إنكار طبيعية مر بها هؤلاء الأشخاص لفداحة وهول الكارثة، فلم يكن أحد يرغب في أن يصدق أن هذا ما حدث بالفعل، ولكن مع تقدم الأحداث تكتشف أنهم يرفضون الاعتراف بالأمر تعصباً لأيديولوجيا أعمتهم عن رؤية الحقيقة، فكما صرح يفغيني آداموف: (في المجتمع السوفييتي لا يمكن أن يحدث شيئاً من هذا القبيل أبداً)، تلك العقلية الشوفينية التي ترفض الاعتراف بالأخطاء وتُحيل كل شيء إلى مؤامرة خارجية بالضرورة، لا تكتفي بهذا وحسب بل ولا تسمح بتوفر المعلومات حتى للأشخاص المعنيين بمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فبدلاً من توفير مناخ آمن للعمل على حل الكارثة، تضعهم تحت المراقبة والتهديد كي يبقى الأمر طي الكتمان، حفاظاً على الصورة المثالية التي رسموها لأنفسهم، تلك الصورة المقدمة بالنسبة إليهم في المرتبة الأولى على أمن وسلامة المواطنين، ثم يغرقونهم ببروباغندا أن المجتمعات البرجوازية هي من تضع الأمن والسلامة في المراتب الدنيا، هناك إدانة واضحة من المسلسل لعقلية هؤلاء الساسة السوفييت الذين كان بمقدورهم إنقاذ آلاف الضحايا لو أنهم فقط اعترفوا بالأمر فوراً وطلبوا المساعدة، ولكنهم وضعوا حياة ملايين البشر على المحك باسم المصلحة الوطنية التي تأتي فوق الجميع.
ثالث العقول هي العقول العقلانية.. عقول العلماء، يبدأ المسلسل وينتهي من عند العالم (فاليري ليغاسوف) فهو العقل المدبر الذي حال من أن تصبح الكارثة أمر لا يمكن أن يتم تدراكه إلى الأبد، ويمكن القول إن السيناريو قد أوكل مهمة سرد الحكاية بتفاصيلها على عاتقه، ليغاسوف ليس رجلاً من خارج السياق الأيديولوجي الذي سمم العقلين السابقين بالبروباغندا والشوفينية، ولكنه صاحب العقل الأقل تضرراً بفضل حرصه على المنهج العلمي في التفكير، في الاجتماع الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي تحت قيادة (غورباتشوف) -الأمين العام في ذلك الوقت قبل أن يصبح رئيس الاتحاد السوفييتي- انفض الاجتماع بعد التأكيد أن انفجار المفاعل تحت السيطرة ولا توجد مشكلة كبرى، ولكن اعتراض ليغاسوف كان بداية الحل، إصراره على أن قلب المفاعل قد انفجر بالفعل نظراً للتقرير الفني الذي قرأه قبل دخول الاجتماع بلحظات، ومن ثم طار هو والمسؤول السياسي المكلف بالحدث (شربينا) إلى موقع المفاعل، ومن هناك بدأ يضع الحلول العلمية لاحتواء الموقف بمساعدة العالمة (أولانا خوميوك) -وهي شخصية خيالية وضعت لتمثيل عشرات العلماء والمهندسين الذين عملوا مع ليغاسوف على الحل- ليغاسوف هو نموذج للشخص الذي يكرهه رجل الأمن القمعي متمثلاً في مدير الاستخبارات السوفييتية الذي عاقب ليغاسوف على قوله الحقيقة أمام المحكمة قائلا له: (أنتم أيها العلماء.. وهوسكم الأحمق بالأسباب، عندما تصيب الرصاصة جمجمتك، ما أهمية السبب؟)، والحقيقة أنه عندما كلف ليغاسوف أولانا بتقصي السبب وراء الانفجار بالعودة إلى المهندسين الذين ما زالوا على قيد الحياة، برر ذلك بعبارة تلخص أهمية البحث وراء الأسباب وهي (يجب أن نفهم السبب حتى لا يتكرر الأمر مرة أخرى)، تلك هي العقلية التي أنقذت الموقف في نهاية الأمر.
شخصية ليغاسوف في السيناريو هي بمثابة المرشد السياحي الذي نشاهد الأمر من خلال عيونه وأفكاره، في الحلقة الأولى ننخرط مباشرة في الكارثة دون أن نفهم الكثير من الأشياء، فقط نتماهى تماماً مع ما يدور أمامنا على الشاشة، وبعد التقاط الأنفاس يأخذنا ليغاسوف منذ الحلقة الثانية وحتى الخامسة لنفهم ما حدث، نعرف منه آلية عمل المفاعل، حجم الضرر الناتج، المستوى الطبيعي والمستوى الخطير للإشعاع، كيف يمكن تحجيم الضرر الناتج، ما هي العوائق والصعوبات القادمة، ثم ما الذي حصل بالضبط في تلك الليلة ومن المسؤول عن الكارثة. الممثل (جاريد هاريس) يستحق الكثير من الثناء والتقدير على أدائه شديد الحساسية والتفهم لطبيعة الدور، فهو يتحمل وحده عبئاً معلوماتياً ودرامياً من الوزن الثقيل، كان من الممكن أن يثقل المسلسل وأن يفقده الكثير من رونقه، ولكنه أداه بكل اقتدار.
وبالرغم من قصر زمن المسلسل نظرياً إلا أنه استطاع عبر التكثيف الذكي أن يجعلنا نفهم كل الملابسات التي أحاطت بالأمر، مثل مشهد السيدة المسنة ذات الـ82 عاماً التي رفضت الامتثال لأوامر الجندي -الذي هو في عمر أحفادها- بإخلاء المنزل، وسردت عليه قصتها منذ الصغر وكيف قاومت كافة أنواع الأحداث الصعبة من حروب وتقلبات سياسية، فكيف لها أن تستلم وتترك منزلها لأجل شيء لا تراه بعينها!، وذلك الشاب الصغير الذي اختير مع عدة جنود من أجل قتل كافة الحيوانات التي خلفها السكان وراءهم أثناء الإخلاء، وكيف أصبح لزاماً عليه أن يقتل قططاً وكلاباً أليفة داخل منازل مهجورة وهو يستمع إلى زملائه في المهمة وهم يروون عليه ما فعلوه من قتل في أفغانستان، وتلك السيدة التي خسرت زوجها وجنينها من جراء الإشعاع النووي الذي فتك بهم، ناهيك عن عمال المناجم الذين أدركوا أنهم مهما ارتدوا من ملابس معالجة فلن تكون قادرة على حمايتهم من الإشعاع، فقرروا التخلي عنها على أية حال نظراً إلى أنهم يحفرون ويعملون تحت الأرض في مسافات وتحت درجة حرارة تمنعهم أصلاً من التنفس، وهكذا عرج العمل على كل شيء وعلى كافة المراحل دون أن يعرضها بتفاصيلها الدقيقة كما لو كان عملاً وثائقياً، لكن أيضاً من دون إهمال أو اختزال مخل قد يؤثر على استيعاب التفاصيل والملابسات العامة، لقد استطاع السيناريو عبر عدة خطوط فرعية متوازية أن يلقي الضوء على الآثار الاجتماعية والإنسانية المترتبة على الأحداث، إلى جانب الخط الرئيسي الذي بدأ وانتهى منه كله شيء حول الأسباب الحقيقية وراء الكارثة.
آثار كارثة تشرنوبل لم تتوقف عند الحدود الصحية -حالات وفاة وأمراض سرطانية وتشوهات خلقية للأجنة- والبيئية -تلوث الغابات والأنهار والأرض ذاتها- والغذائية -تضرر المحاصيل الغذائية والحيوانية التي تمثل الغذاء الرئيسي لثلاث دول- وحسب، بل كانت بمثابة الزلزال الذي هز العقل الإنساني المؤدلج والقابع تحت أطنان من الشعارات الفارغة من أي معنى، العقل الذي أصبح يبحث عن المعنى المفقود لكل ما يدور حوله، بعد أن أصبح كل شيء فاقداً للقيمة والفهم، تقول سفيتلانا أليكسييفيتش في كتابها صلاة تشرنوبل: (عاد الناس ليملؤوا المعابد من جديد، من آمن ومن ألحد، الجميع.. إنهم يريدون الحصول على إجابات، عجزت عنها الفيزياء والرياضيات)، كانت تلك الكارثة هي بداية سقوط الأفكار الشيوعية في عقول وقلوب معتنقيها في الاتحاد السوفييتي وخارجه، بل وربما سقوط الكيان السوفييتي بأكمله، في عام 2006 كتب رئيس الاتحاد السوفييتي الأخير (ميخائيل غورباتشوف): (لعل الانهيار النووي في تشيرنوبل كان سبب انهيار الاتحاد السوفييتي الحقيقي).