ورد اسم العلا لأول مرة في التاريخ عندما مر بها الرسول صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى تبوك، أما في عصور ما قبل الميلاد والعصور الرومانية فقد كانت تعرف باسم دادان، التي ورد ذكرها في العهد القديم، وتقع على بعد 3 كم شمال شرق مباني العلا القديمة.
نشأت مدينة قرح على بعد 20 كم تقريباً جنوب دادان، وقد بلغت هذه المدينة التي اشتهرت بوادي القرى أوج ازدهارها خلال العصر العباسي والفاطمي، واستمرت مزدهرة حتى حلول القرن 12 الميلادي؛ حيث بدأ الضعف والاضمحلال يدب في أوصال الدولة الفاطمية التي كانت قد بسطت سيطرتها على الحجاز. ونتيجة لذلك، بدأت شمس قرح في الغروب نتيجة لغياب الأمن بها، وبدأ سكانها في هجرها والانتقال منها إلى قرية العلا على بعد 18 كم شمالاً، بحثاً عن الأمن، حيث تقع العلا في أضيق نقطة في الوادي، وفي مكان مرتفع حول جبل صغير بنيت في أعلاه قلعة، وامتدت المنازل المكونة من طابقين حوله في كل جهة ولها طرقات لا يزيد اتساعها عن ثلاثة أمتار، وقد كونت هذه المنازل المتلاصقة سوراً حول البلدة، له 14 باباً تفتح على بعض هذه الطرقات. وكان في العلا قناتان مائيتان تجريان، إحداهما مجاورة للبلدة وتزودها بالماء المنزلي إلى جانب الزراعي واسمها «تدع إل». وكانت منطقة العلا قد شهدت أثناء ازدهار حضارة دادان، إنشاء شبكة كبيرة من القنوات المائية التي اندثرت فيما عدا هاتين القناتين اللتين كانتا من عوامل الاستقرار والاستيطان بالعلا وبخاصة قناة تدعل، وقد نجح المستوطنون بالعلا لاحقاً في إحياء عدد آخر من القنوات المندثرة ما أدى إلى زيادة المساحات المزروعة بأشجار النخيل خاصة، وبأشجار الليمون والتين والأعناب وغيرها، فيما تركت مساحات خاصة لزراعة الحبوب بأنواعها. أما المحاصيل الزراعية الأخرى كالبصل والثوم وأنواع أخرى من الخضراوات والورقيات المطبوخة وغير المطبوخة والبطيخ والشمام ونحو ذلك. فكانت لها مساحات مخصصة في بساتين النخيل والأشجار، وهكذا أصبحت العلا جاذبة لكثير من الناس للعيش بها بشكل دائم، وعلى الرغم من أنها كانت تقع آنذاك تحت الحكم العثماني إلا أنها كانت سلطة شبه اسمية، ولهذا فإن السكان نظموا بأنفسهم حياتهم الاجتماعية والإدارية والزراعية، وكان رؤساء العشائر، ويسمونها القبائل وعددها 15 قبيلة، مسؤولين عن تنفيذ هذه الأنظمة، وكان للبلدة قاض شرعي واحد، يختارونه عادةً بالانتخاب وغالباً ما يكون من قبيلة الأحامدة التي عرفت إلى يومنا هذا بعشيرة القضاة. وقد شجع هذا الاستقرار الأمني والاقتصادي على سكنى العلا والعيش بها، واستمرت الحياة مزدهرة بالعلا في تلك الفترة، مقارنة بالقرى والبلدان الأخرى، حتى وصفها العالمان الفرنسيان جوسين وسافنياك A. Jaussen & R. Savignac في بداية القرن العشرين أنها بلد العسل واللبن.
إرساء قواعد التنظيم الاجتماعي
وفي مطلع الربع الثاني من القرن العشرين، في العاشر من يناير عام 1926م، أشرقت شمس جديدة على المنطقة بعد أن دخلت تحت حكم الملك عبدالعزيز، وهنا بدأ عصر جديد وتاريخ جديد وحياة جديدة توطد فيها الأمن وانتهى فيه دور رؤساء العشائر والأعيان في إدارة شؤون البلدة بعدما تعين حاكم جديد وقاض جديد، وجهاز شرطة، وإنشاء إدارة مالية في عام (1927م) للإشراف على الشؤون المالية في العلا ومدن الشمال (تبوك، الجوف… إلخ) وهي ثالث إدارة يتم إنشاؤها في الدولة الجديدة، وإلى جانب الحاكم يوجد مجلس إداري من سبعة أعضاء يختار الأهالي أربعة منهم بالانتخاب لمدة 4 سنوات، والأعضاء الآخرون هم القاضي ومدير المالية ورئيس البلدية. أما الزراعة التي هي عصب الحياة الاقتصادية في البلدة، فقد ظلت نظمها وقوانينها المتعارف عليها على حالها كما هي بعد أن أقرها مجلس الشورى، واعتمدها نائب الملك في الحجاز الأمير فيصل، وقد أنشئت هيئة للأشراف على تنفيذ هذه الأنظمة والقوانين العرفية باسم «هيئة العرف والزراعة»، يختار الأهالي أعضاءها بالانتخاب كل ثلاث سنوات، وينتخب المجلس الإداري أحد أعضائها رئيساً لها. وفي ظل هذه الأنظمة واستتباب الأمن والنظام تم إحياء عدد آخر من القنوات القديمة حتى بلغ عددها 41 قناة، وقد أدى تحسن المعيشة في العلا في تلك الفترة إلى جذب عدد من الناس من شتى الأنحاء للقدوم إليها والعيش فيها، فاستقر بها عدد من الأفراد والأسر من ضبا والوجه وينبع على ساحل البحر الأحمر، ومن تهامة في بلاد غامد ومن المدينة وتيماء وحائل والقصيم والمنطقة الوسطى، بل وهناك عوائل وأفراد قدموا إليها من الشام والعراق وفلسطين والمغرب، وبقوا بالعلا عدداً من السنين حتى تحسن الوضع الاقتصادي في المملكة، فرحل معظمهم وبقي قليل منهم حتى اليوم.
وإلى جانب النشاط الزراعي كان هناك النشاط التجاري بطبيعة الحال، الذي اضطلع به على وجه خاص القادمون الجدد، أما النشاط الصناعي فلم يكن له وجود في العلا فيما عدا القليل من الصناعات التقليدية، ونشير إلى أهمها وهي صناعة الخوص الذي يصنع منه كثير من أثاث المنزل كالحصير وسفر الطعام والمراوح اليدوية والسلال والزنابيل وأوعية التمور والحبوب وبعض أدوات المزارعين والبنائين.
الحياة الاجتماعية
إذا تحدثنا عن الحياة الاجتماعية وما فيها من عادات وتقاليد، فإن في العلا بعض العادات التي تتميز بها عن غيرها من المدن والبلدات الأخرى في المملكة، اعتاد أهل العلا خلال النصف الثاني من يونيو في كل عام على الرحيل من منازلهم في حي الديرة والسكنى في منازلهم البسيطة المقامة في بساتين النخيل المنتشرة في الوادي شمالاً وجنوباً، وفي خلال الليل يكون حي الديرة مظلماً وفاقداً للحياة. في حين تشهد بساتين النخيل سمراً وطرباً وألعاباً شعبية من البنين والبنات، خصوصاً في الليالي المقمرة، وفي خلال النهار تعود الحياة جزئيّاً إلى حي الديرة؛ لأن الرجال يذهبون إليها لمزاولة أعمالهم التجارية من بيع وشراء وغير ذلك، بينما تبقى النساء والولدان في بساتينهم التي يقام في بعض منها دكاكين تجارية تديرها النساء وزبائنها من النساء والغلمان، وفي جوانب الطرقات بين بساتين النخيل، كان يقام فيها ما يشبه في يومنا هذا مطاعم الوجبات السريعة، حيث تطبخ الذبيحة من الضأن أو الماعز بعد تقطيعها إلى قطع صغيرة في قدر كبير، وتباع كل قطعة من اللحم مع كمية من المرق من وقت الضحى إلى ما بعد منتصف النهار، ويشدو الشيف بألحان شجية. وبعد الانتهاء من صرم النخيل وكنز التمور، وحلول فصل الخريف يرحلون عائدين إلى منازلهم في حي الديرة.
المناسبات الاجتماعية
أولاً: مناسبات الأفراح
أ. الزواج: يستغرق الاحتفال بالزواج أسبوعاً كاملاً، فإذا تقرر مثلاً يوم الخميس موعداً لدخول العريس بعروسه، وهو اليوم الذي يختارونه عادة، فإن الفعاليات تسير على النحو التالي:
السبت يقوم الشباب فيه بترميم وتجديد منزل العروسين.
الثلاثاء تقوم النساء بخياطة الحصير لفرش المنزل، ويقام حفل غنائي نسائي تضرب فيه الدفوف، وتذبح فيه الذبائح.
الأربعاء ويعرف بيوم القصة والحناء، حيث يتم في النهار دهان جدران المنزل ومدخله الخارجي بالجص الأبيض وتزيينها بالألوان والرسوم، وعند النساء غناء وحناء وضرب الدف، وفي المساء طرب وغناء تزف بعده العروس إلى منزلها الجديد وسط الأناشيد والزغاريد، أما العريس ورفاقه فهذه الليلة هي ليلتهم الرئيسة للغناء والطرب.
الخميس هو يوم الوليمة الكبرى نهاراً، وفي الليل غناء وطرب يختتم بزفاف العريس من بيت أهله إلى منزله الجديد بإنشاد قصيدة مخصصة لهذه المناسبة، مطلعها: «الله الله، الله الله ربنا يا رب تجمع بالمشفّع شملنا» وعندما يصعد العريس عتبة باب منزله يصدح المنشدون بهذا البيت: «من حين يرقى والملوك تزفه زفّ العروس وأرخوا عليه خلع الهناء» وبعد دخوله قاعة الاستقبال ببيته الجديد يقال: «داس البساط وتكللت وجناته عرقاً وأكثره حياء من ربنا»، ويبقى العروسان في منزلهما الجديد لا يخرجان منه أبداً لمدة أسبوع كامل، ينتهي بعدد من الفعاليات.
ب. الاحتفال بالعيدين: بينما يذهب الكبار للصلاة تخرج البنات والأطفال إلى الفضاء الفسيح خارج أسوار البلدة ويتبادلون الحلوى، وبعد انتهاء الصلاة يعود الجميع إلى منازلهم ويتبادلون الزيارات على نطاق واسع، وبعد صلاة العصر تتاح الفرصة للنساء لتبادل الزيارات، بينما يصعد الولدان إلى أعالي الربى، وفي الليل يحتفل الأهالي بضرب الزير وهو طبل كبير مصنوع من جذع النخلة وجلد البعير، مع ترديد قصائد غنائية معروفة.
ج. الختان: وفيه تقام وليمة كبرى بعد العصر لأهل البلدة، وجرت العادة أن يحضرها اثنان من الأسرة، رجل وامرأة. وفي الليل يقام حفل غنائي تضرب فيه الدفوف عند النساء مضافاً إليها البزق والعود عند الرجال.
ثانياً: المناسبات الدينية
(أ) صلاة الاستسقاء: كان الناس قبلها يصومون ويتصدقون وينشرون الطعام في مجالسهم العامة والخاصة، حتى لا يكون في يوم الاستغاثة جائع، وفي صباح هذا اليوم الباكر، يخرج الناس إلى مصلى العيد، رجالهم ونساؤهم ودوابهم، داعين ربهم:
يا أرحم الراحمين ارحمنا
وامح عنا الذي صار منا
ربنا رب القدر
عجل علينا بالمطر
ربنا نرجو رجاك
ما لنا ربّاً سواك
لا تخيب رجانا
لا دخلنا في حماك
***
قصدنا باب مولانا
كريماً ليس ينسانا
صدقنا بمن جانا
الصادق رسول الله
(ب) رمضان: وكان الناس يستعدون لرمضان بصناعة الشعرية طعاماً للسحور، وهي عبارة عن فتائل كالخيوط من عجين البر تشبه المعكرونة. واعتاد الناس على فتح مجالسهم بعد صلاة التراويح يقدمون فيها شراب الأقط المحلى بالتمر، ويتبادلون الأحاديث والقصص، ويتولى المسحراتي مهمة إيقاظهم لتناول وجبة السحور فيسير في الأزقة والطرقات ضارباً طبله ويقف برهة عند باب كل بيت منادياً صاحبه باسمه، مثلاً: (أبو عبدالله: وحّد الله، أبو صالح: اذكر الله...).
ثالثاً: المناسبات الأخرى
وإذا تحدثنا عن الأحزان، وما يمارس فيها من عادات، فإن العلا لا تختلف عن بقية المدن والقرى الأخرى. فلم تكن هناك أيام مخصصة للعزاء، يفتح أهل الميت فيها بيتهم لاستقبال المعزين كما هو الحال في يومنا هذا، غير أنه كانت تمارس عادات أخرى ربما لم تكن عند الآخرين، وهي إقامة أهل الميت وليمة بعد صلاة العصر بعد مضي أسبوع على الوفاة، وغالباً ما تكون تكاليفها من مال المتوفى وربما تكون بقصد الصدقة عنه، كما جرت العادة أن يقوم بعض النساء من أقارب وأصدقاء أرملة المتوفى بزيارة لها مرتين في الشهر، بقصد مؤانستها، وذلك في يوم الجمعة من وقت الضحى إلى الظهر، ويقدم لهن الخبز، وقد تشارك بعضهن في إعداده، وبعد انتهاء فترة الحداد، تقام عادة وليمة للنساء فقط.
ونختم حديثنا عن الحياة الاجتماعية لسكان العلا بالحديث عن عاداتهم في قضاء وقت فراغهم، فالشباب صغارهم وكبارهم يقضون وقت ما بعد العصر في ممارسة بعض الألعاب ومنها كرة التزقير وهي في حجم كرة التنس الأرضي ومشابهة للعبة الكريكت، وأما الرجال فعادة ما يجلسون على الدكاك (وهي مقاعد مبنية في جوانب الأزقة والطرقات من الحجر والطين) وغالباً ما يجتمعون عند أحد الدكاكين ويتجاذبون أطراف الحديث. ونشير هنا باختصار إلى ما رواه الإنجليزي داوتي في بداية عام 1877 حيث يقول: (ظهرت أزقة المدينة نظيفة جداً.. وأمام كل بيت توجد دكة من الطين بنيت على الطراز العربي يجلس عليها أصحاب البيت وغيرهم من المارة للتحدث والتدخين).
وخلال الربع الثاني من القرن العشرين وبعد أن زاد عدد الدكاكين خارج أسوار البلدة، صاروا يجتمعون بعد صلاة العصر أيضاً عند الدكاكين وحولها، ويجلس بعضهم على الرمل ويلعبون (الدومة)، وهي مشابهة للشطرنج، فيلعب اثنان ويتفرج الآخرون أو يتحدثون، وقد يحل أحدهم محل اللاعب الخاسر، وعند أذان المغرب يذهبون للصلاة ثم إلى بيوتهم لتناول طعام العشاء، وهو الوجبة الرئيسة في العلا.
ولم تكن النساء بمعزل عن الأنس ولقاء بعضهن بعضاً، ففي ليالي الشتاء الطويلة، وبعد الانتهاء من تناول العشاء، جرت العادة أن تقوم ربة المنزل في بعض الأحيان مع أطفالها وبناتها بزيارة بيت أحد الأقرباء أو الأصدقاء لقضاء بعض الوقت وتعرف هذه الزيارة بالمسيار.
*مؤرخ الهيئة الملكية لمحافظة العلا