يتباين مخرجو المسرح من ناحية الاهتمام والرصد والتركيز والتكثيف في مكونات عناصر العرض المسرحي، فالاهتمام بالمنظر وتحركه وأبعاده، وتحولات الضوء وألوانه وفلسفته في البناء الدرامي للشخصيات؛ كلها محاولات سعى المخرجون من خلالها إلى إثراء المشهد المسرحي وتحويل المسرحيات من متعة واحدة إلى مجموعة متع جمالية على مستويات مختلفة (سمعي- حركي- بصري). وتعد مهمة تنسيق وتشذيب عناصر العرض المسرحي، بعد تشعب الفرضية المسرحية والتحولات التي حدثت على بنية العروض؛ ليست أمراً سهلاً، وعليه أخذ المخرجون على عاتقهم هذه المهمة من خلال البحث عن آليات ورسومات مشهدية أخرى جديدة، تارة بالاختصار وتارة بالتكثيف البصري لجماليات الصورة.
فالوضوح والبساطة في بناء العرض المسرحي التي نبحث عنها لا يعنيان مطلقاً تبسيط المضمون وإفقار العالم الروحي للمشتغلين فوق الخشبة، فمهام المسرح تدعو إلى استخدام البساطة والوضوح في إظهار ظواهر الحياة العظيمة، بل العميقة والكبرى. ولا ينفصل الوضوح أو البساطة مطلقاً عن مفهوم الإيجاز والاختصار في التعبير الفني، سواء أكان هذا التعبير أدباً أم رسماً أو مشهداً مسرحياً، لذلك اعتبر التكثيف في وسائل التعبير الفني ضرورة ملحة لفن الإخراج، إذا ما علمنا أن وسائل التعبير الفني عن الفكرة في فن الإخراج هي الصور الدرامية، تلك الصور المتكونة في وحدة فنية من الممثلين و(الميزانسين) والإيقاع للوحات المختلفة والجو المسرحي وقوة تأثير هذه أو تلك من اللوحات.
إن أي لون أو تفصيل يستطيع أن يجد صداه في قلب المتفرج يصبح بالضرورة لحظة التعبير عن مضمون العرض المسرحي وفكرته. فإذا كانت الأجزاء المنفصلة للعرض والمكونة لأقسامه غير مرتبطة بالفكرة الرئيسة فإنها ستضر حتماً بالقيمة الفنية للعرض وبتكامله الفني. وعلى هذا فإن بعض المشاهد الصامتة أو المشاهد الجماعية التي يضعها المخرج والتي تحيد عن الفكرة الرئيسة تغدو عبئاً ثقيلاً على العرض ذاته، ومهما كانت قوة التكنيك الذي تنفذ به الرقصات والأغاني والمعارك كبيرة، ومهما حاول المخرج من خلال التفصيلات الجزئية إقناع المتفرج بعبقريته ومهارته؛ إذا لم تكن هذه التفصيلات جميعها مرتبطة بخط الفعل المتصل للعرض المسرحي، وبالتالي هدفه الأعلى؛ فإنها لن تشير إلى ثراء موهبة المخرج، بل على العكس، إلى إخفاق حيلته وعدم مقدرته على إخضاع أجزاء المسرحية وأقسامها للفكرة الرئيسة. يقول المسرحي البريطاني الشهير إدوارد كوردن كريك: (إيماني بنهضة المسرح يستند إلى إيماني بنهضة المخرج، فعندما يدرك كيف يعالج الممثلين والمشاهد والأزياء والإنارة والرقص المعالجة الصحيحة، ومن خلال كل ذلك السيطرة على حرفة التفسير؛ فإنه يتوصل إلى الهيمنة على الفعل والخط واللون والإيقاع والكلمات والجمهور).
وأيضاً عندما يهتدي المخرج إلى فكرة عرض واضحة، منبثقة من جوهر المسرحية، تصبح المشاهد التي يؤلفها ضرورية وغير مرهقة للفكرة الرئيسة، بل معززة لها. فمفهوم التناسق والتكامل الفني لا ينفصل عن مفهوم الدقة الفنية، وبالتالي فإن الإيجاز والتماسك لا يتركان أبداً مشاهد زائدة في العرض المسرحي المتكامل فنياً، وهذا هو قانون عام لجميع الفنون. وعندما سئل النحات الفرنسي الشهير رودان عن سر فنه أجاب: (إني آخذ كتلة المرمر وأقطع كل ما هو زائد فيها). فهل يستطيع المخرجون أن يفخروا بصرامة وقوة وبلاغة التعبير في لغة العرض؟ هل تعلموا قطع كل ما هو زائد في عروضهم المسرحية؟ هل استوعبوا بصورة تامة هذه الحقيقة البسيطة والقاسية في آن واحد: إذا كنا قد أخرجنا مشهداً مسرحياً أو فاصل صمت يمكن حذفه من العرض دون أن يلحق ضرراً بمضمونه أو بحيوية الفعل الدرامي يجب حذفه. إن التحديد الذاتي والاقتصاد في لغة الإخراج لا يتأتيان بسهولة، ذلك أن المهام الفنية للعرض غالباً ما تتصارع مع بعض جزئياته الناجحة، عند ذلك تتطلب ضرورة التكامل الفني إقصاء التفاصيل غير الضرورية والعميقة دونما تردد.
لا أحد يجهل براعة الكبير تشيخوف وقدرته على الإيجاز المذهل. فهو قد عرف قيمة فنه، إذ قال عن نفسه بشعور كبير من الرضا: (يمكنني أن أتحدث باختصار عن الأمور الطويلة)، ونذكر كيف أنه لم يتردد في حذف مونولوج كامل عن الزوجة في (الأخوات الثلاث) ليستعيض عنه بكلمات ثلاث (الزوجة تبقى زوجة). فالتكثيف في التعبير الفني يرتبطان دوماً بوضوح الأفكار وبتصور الفنان نفسه لخطة المسرحية. حتى إن عظماء العلماء والمكتشفين للقوانين العلمية الجديدة قادرون على شرح اكتشافاتهم حتى للأطفال، نظراً لبساطة ووضوح هذه القوانين بالنسبة لهم.
ودائماً ما يشير النقاد في الندوات التطبيقية التي تلي العروض أو في الصحف والمجلات المتخصصة، حينما يكتبون رأيهم في عرض ما؛ أن العرض سيكون متماسكاً وممتعاً لو أن المخرج اختصر ثلثه. وفي ذلك كتب المخرج والممثل الروسي أليكسي ديكي في مؤلفه (قصة عن الشباب المسرحي) يتذكر عمله في إخراج مسرحية (البرغوث) المعدة عن قصة ليسيكوف والتي كانت من أوائل تجاربه الإخراجية، حيث انتقد أستاذه العرض قائلاً: (يجب أن يختصر إلى الثلث كي ينجح العرض). وكمل أليكسي: لقد بدا لي هذا الأمر مستحيلاً ولا معنى له، فتذرعت بإصرار بأمور غير جوهرية كي لا أختصر شيئاً، ومع هذا فإن كلمات أستاذي قد غرست في رأسي، وعانيتُ من هذه الكلمات لمدة يومين وبعدها طبقتُ ما قاله واختصرتُ العرض على مضض، رغم احتجاجات الممثلين وعدم رضاي أنا شخصياً، غير إنني وفي لحظة من عملية التفاني هذه أحسست فجأة بأن العرض أصبح خفيفاً وأخذ يتدحرج على مدارج الفعل المسرحي، بل أصبح تأثيره أكثر حدة مع أني لم أختصر إلى الثلث كما طلب أستاذي إذ إن نفسي لم تطاوعني في فعل ذلك، إلا إن النتيجة تجلت بسرعة رغم أن الأجزاء التي حذفتها لم تكن أسوأ من تلك التي حافظت عليها في العرض أبداً، وهكذا ولأول مرة أدركت بشكل عملي قانون التناسب في فن المسرح. وما أكثر الحالات التي ينصح فيها الزملاء والأصدقاء المخرج في أولى البروفات العامة باختصار العرض ليصبح أفضل، ومع هذا تذهب جهودهم سد. فالمخرج لا يتزعزع عن رأيه، بل يدعو الجميع إلى حضور البروفة العامة الرابعة أو الخامسة، والعرض لم ينطلق بعد، ولم يكتسب السرعة الضرورية.
إن قوانين فن الإخراج تؤكد تماماً هذه القاعدة، وعلى المخرج لدى تكوينه للعرض المسرحي أن يتجه إلى الهدف منتقلاً من غزارة المادة الفنية إلى الاختيار الصارم لها. وعليه أن يحذف من العرض الجاهز كل ما هو زائد أو عفوي. كما أن المخرج هو أبعد من يلاحظ الزيادة في العرض المسرحي، والسبب في هذا يكمن في الفهم الخاطئ لمعنى السخاء الفني، وثراء الخيال الإبداعي، إذ غالباً ما يفهم المخرج الخيال على أساس كمي محض وليس على أساس كيفي، فنراه يفكر في هذه الطريقة (ليعيبوا علي الزيادة أفضل من أن أتهم بفقر الخيال)، لقد نسي أن الزيادة العشوائية لا يمكن أن تذهب به إلى رتب العبقرية، وأن العبقرية الحقة هي الدقة والصدق والتكثيف.
ومن المخرجين من يهتم بالشكل الجمالي للعرض على حساب الاختصار والتكثيف، متجاهلاً أن هذا الشكل ليس ممارسة معزولة عن العرض ومضمونه الفكري. فالمضمون الذي يحمل معنى العمل الفني، أو ما يريد أن يوصله من أفكار اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية وغيرها في ظرف تاريخي محدد، هو بمثابة علاقة جدلية بين الواقع المعيش والعمل الفني، ويحتاج إلى وسائط كثيرة حتى تنضج الصلة بين الفن والواقع، والمضمون يتشكل طبقاً لأسلوب المعالجة الدرامية بغية الوصول إلى هارموني مقبول بينه وبين الشكل، فهناك المخرج الذي يخضع مضمون العرض الفكري لحتميات التناسق الدرامي والشكل الفني في حين آخر يلح عليه المضمون إلحاحاً قد يجعل مسرحيته مجرد أداة عابرة لتوصيل مضمونه، وبالتالي فليس هناك مضمون أو فكر أو موضوع مطلق أو مجرد أو مستقل بذاته ذلك لأنه يستحيل الفصل بين المضمون الفكري والشكل الفني في العمل المسرحي الناضج، فالتوازن والتفاعل الدرامي بين الفكر والفن ضرورة منطقية وجمالية لا غنى عنها. فهناك معيار متغير قائم على كيفية توظيف الثوابت السابقة في التعبير عن المضمون الذي يتصدى له، لأن العرض المسرحي لا يوجد في المطلق ولكن هناك مؤثرات ثقافية وبيئية وأيديولوجية إلى جانب روح العصر الذي يعيش فيه تؤثر في كيفية تمثيل عناصر التكثيف والبلورة وتدفق السياق في عفوية وحيوية.
من هذا نرى أن دور المخرج لا يختصر نفسه في القول للممثل كيف يمثل، وإنما في خلق فضاء خالٍ تكون العوائق فيه غائبة، أو بالأحرى منظفة، أن يقوم المخرج بعمل البستاني، يقطع الأعشاب الميتة لكي يستطيع الممثل خلال عدة أسابيع أن يستمر في العثور على روابط خفية ما بين هذا المقطع والبداية والوسط ونهاية المسرحية، حتى يعثر في أحد الأيام الجميلة مع الجمهور في لحظة من اللحظات على السبب الحقيقي الذي يختفي وراء قوله هذا. عندئذ سيكون العالم كله مقتنعاً وذلك لأن الإيقاع سيكون متقناً والشكل سيكون متقناً أيضاً، إن التنظيف عملية ضرورية إذا شئنا أن نجنب الممثل عملية التورط العمياء، الخانقة للفوارق الدقيقة والخافية للمعنى الحقيقي.
المخرج الذي يفتقر إلى المعارف التقنية الضرورية من أجل إخضاع الأجزاء للوحدة الكلية على خشبة المسرح لتسطع بنور جديد، وعندما يكون عاجزاً عن توحيد المبادرات الإبداعية في كل هارموني واحد؛ عند ذلك يلجأ المخرج الذي أخفق في صوغ أي لفظة جديدة أو إشارة جديدة أو مجموعة جديدة، إلى الموسيقى والديكور والإضاءة والأزياء لتغطي تفاصيل الرتابة التي تبقى كما هي عليه، ليأتي الناقد المسرحي بعد ذلك فيشيد بوسائل الأسلبة المستخدمة بذكاء كبير وذوق مرهف، وكما كان يفعل سكان المدن النائية لدى تصفحهم المجلات الراقية، معتقدين بأنهم يتعاملون مع شيء فاخر وراق ليس له مثيل، كذلك فإن الجمهور العريض يصفق مع الناقد المسرحي لهذا الفن الجديد.
مصادر استفدتُ منها:
- إريك بينتلي: نظرية المسرح الحديث، ترجمة يوسف عبدالمسيح ثروت، وزارة الثقافة والإعلام، العراق، بغداد، 1986.
- أليكسي بوبوف: التكامل الفني في العرض المسرحي، ترجمة شريف شاكر، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، سوريا 1976.
- بيتر بروك: الضجر هو الشيطان، ترجمة د.محمد سيف، إصدارات دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، الإمارات، 2006.
- د.حيدر منعثر: المسرح الشعبي وجدلية التجربة الإنسانية، إصدارات الهيئة العربية للمسرح، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، 2017.
- فسيفولود مايرهولد: مجموعة مقالات في الفن المسرحي، ترجمة شريف شاكر، دار الفارابي، بيروت، 1979.