طُرحت في النقد الأدبيّ -عند العرب وعند غيرهم- قضية العلاقة بين إبداع الشعر وبين نقده وتحليله والحديث عن فنياته وجماله. وطُرح التساؤل الذي تفاوتت الإجابات عنه: هل مبدع الشعر هو الذي ينبغي أن يكون مختصّاً بنقده، على اعتبار أنه صنعته، والصّانع أدرى بخبايا ما يصنع، أو أنّ الأمر ليس كذلك، بل النقد مهارة متميِّزة، وملكة مستقلِّة عن الإبداع؟
يقع الباحث في التراث الأدبيّ عند العرب على نصوص نقدية كثيرة تتحدّث عن العلاقة بين المبدع والنّاقد، وعن طبيعة كلّ منهما، وعمّا إذا كان امتلاك المرء لإحدى الموهبتين يعني -بالضرورة- امتلاكه الموهبة الأخرى، أو قبضه على ناصيتها؟
تحدّثنا نصوص تراثية نقدية كثيرة أن طائفة من الشعراء قد تمرّدوا على أحكام نقاد بأعيانهم متهمين إياهم بعدم البصر بجوهر الشّعر وحقيقته، وأنّ نقدهم سطحيّ، يقف من الشّعر عند قشرته الخارجية، متمثّلاً ذلك في نحوه، أو صرفه، أو عروضه، أو وجوه إعرابه، وفيما يجوز وفيما لا يجوز، ويكتفي بذلك، فلا ينفذ إلى بواطن القول وخفاياه، ولا يقرأ ما خلف سطوره من معانٍ وأفكار، ولا يتلمّس ما في لغته من جمال وتميّز وخروج على النمطيّ المألوف، أي إنّ بعض النّقاد يكتفي بالصواب عن الجمال.
وقد يكون هذا الحكم -إنْ صحَّ- منصرِفاً إلى طائفة معينة من النقاد، هم اللّغويون والنحويون، ولكنّ أقوال الشعراء المتمرِّدين التي بين أيدينا تحمل طابع التعميم، وكأنها تريد أن تجعل معرفة الشّعر والحكم عليه من اختصاص المبدعين له وحدهم.
يعرف نقد الشعر من يمارسه
لم يتقبل بعض الشعراء ما وجّه النقّاد إليهم من ملحوظات أو مآخذ بصدر رحب، ولا سيما إن كان هذا الناقد من غير المبدعين، وأشاع هؤلاء الشعراء -إنْ عن اقتناع، أو عن معاندة لأنهم نُقِدوا- فكرة أنّ نقد الشعر لا يعرفه من لم يمارسْه، أو-بتعبير بعضهم- من (لم يُدفع إلى مضايقه).
سئل البحتريّ، فقيل له: (يا أبا عبادة! أمسلم أشعر أم أبو نواس؟ فقال: بل أبو نواس، لأنه يتصرّف في كلّ طريق، ويبدع في كلّ مذهب: إنْ شاء جدّ، وإنْ شاء هزل. ومسلمٌ يلزم طريقاً واحداً لا يتعدّاه، ويتحقّق بمذهب لا يتخطّاه)، فقيل له: (إنّ أحمد بن يحيى ثعلباً لا يوافقك على هذا، فقال: ليس هذا من علم ثعلب وأضرابه ممّن يحفظ الشّعر ولا يقوله، فإنما يعرف الشّعر من دُفِع إلى مضايقه).
ومن هذا القبيل ما كان من أبي نواس، فقد سئل عن رأيه في كلّ من جرير والفرزدق، ففضّل جريراً، فقيل له: إنّ أبا عبيدة معْمر بن المثنّى لا يوافقك على هذا، فقال: (ليس هذا من علم أبي عبيدة، فإنما يعرفه من دُفع إلى مضايق الشّعر).
وفكرة أنه لا يفهم الأدب ولا ينقده إلا من مارسه موجودة في النقد الغربيّ كذلك، يقول صاحبا كتاب (نظرية الأدب): (احتجّ بعضهم -على سبيل المثال- أن المرء لا يستطيع أن يفهم الأدب ما لم يكتبه، وأن المرء لا يستطيع بل ينبغي ألا يدرس الشاعر بوب ما لم يمارس بنفسه نظم الدوبيت البطولي، وألا يدرس الدراما الإليزابيثية ما لم يكتب هو بنفسه الدراما بالشعر الحر).
وكان بن جونسون شديد القطع في هذه القضية، فكان يقول -على نحو يذكرنا بكلام البحتريّ وغيره: (الحكم على الشعر هو ملكة الشعراء وحدهم).
ملكتا الإبدع والنقد
ولم يسلِّم عدد من الباحثين -في القديم والحديث- بهذه المقولات، وفرّقوا بين ملكة الإبداع وملكة النقد، وقالوا: إنه ليس صحيحاً أن نقد الأدب مقصور على مبدعيه، إذ النّقد نشاط مختلف عن الإبداع، وهو أقرب إلى العلم، وهو يحتاج إلى خبرة وحصيلة معرفية عميقة، إنه وليد ذوق مدرّب، واطلاع غزير على النصوص الأدبية، وهو نشاط عقليّ منظم، يقوم على مناهج وضوابط، لا يتم بصورة عفوية أو تلقائية.
إنّ النقد كما يقول نورثروب فراي: (بنية من التفكير والمعرفة موجودة لذاتها، مع شيء من الاستقلال عن الفن الذي تتعامل معه).
وقال رينيه وليك وأوستن وارين في ذلك: (علينا بادئ ذي بدء أن نميّز بين الأدب والدراسة الأدبيّة، فهما فعاليتان متمايزتان: إحداهما خلّاقة، فن، والأخرى -إذا لم تكن بالضبط علماً- فهي ضرب من المعرفة أو التحصيل).
ولم يكتفِ الدارسون بالتمييز بين ملكتيْ الإبداع والنقد، ممّا يعني أن نقد الشعر ليس حكراً على منشئه، بل ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، فذكر أنّ الناقد أقدر على تحليل النصوص الأدبيّة ودرسها، بل قد يكون أخبر بعمل الأديب نفسه، وأغوص على خفاياه من مبدعه ذاته، وكم استنبط الناقد من نصّ المبدع أشياء لم تخطر في بال هذا المبدع نفسه.
وهذا ما عبرّ عنه ابن رشيق وهو يشرح قول امرئ القيس يصف فرسه:
مِكرٍّ مِفرٍّ مقبلٍ مُدْبرٍ معاً
كجلمودِ صخرٍ حطّه السيلُ من علِ
إذ -بعد أن أورد عدّة تفسيرات للبيت فيما سمّاه في كتابه باب الاتساع- قال: (ولعلّ هذا ما مرّ قطُّ ببال امرئ القيس، ولا خطر في وهمه، ولا وقع في خلده، ولا رُوعه).
وكان شاعر العربية الأكبر أبو الطيّب المتنبي كثيراً ما يحيل من يسأله عن بعض ما أشكل عليه من قوله إلى ناقده، الذي فسّر شعره، وعني به، وهو أبو الفتح بن جني، ويقول له: (اذهبوا إلى ابن جني، فإنه يقول لكم ما أردته، وما لا أردته).
ولا شكّ أن هذه شهادة عظيمة ودلالة ذات قيمة من شاعر كبير، معتدٍّ بشعره وشخصه أشدّ اعتداد، لناقد شعره ابن جني، واعتراف منه بقدرته على فهم شعره فهماً عميقاً، والنّفاذ إلى بواطنه، بل إلى إدراك أسرار لم تخطر في بال الشّاعر نفسه كما كان يقول ابن رشيق.
وإذن قد ينقد الشعر، ويجيد في نقده من لا يقوله. وقد يقوله، ولكنه لا يستطيع نقده، أو لا يكون هو الأميز والأقدر على نقده.
ولكنْ ليس ثمة تلازم بين الإبداع والنقد، فهما -كما ذكرتُ- نشاطان مختلفان، وليس ثمّة علاقة حتمية بينهما. ولذلك لا يبدو صحيحاً ما ذكره مونتسكيو عن النقاد، حيث شبههم بجنرالات فاشلين عجزوا عن الاستيلاء على بلد فلوّثوا مياهه.
الناقد ليس مبدعاً فاشلاً كما يقول مونتسكيو، وهو لا يصبّ جام غضبه على الأديب، أو يحاول الانتقام منه، لأنه عجز أن يكون مبدعاً مثله. كما أن النّقد الأدبيّ لا يفقر العمل الأدبيّ كما قال بعضهم.
أورد ر.أ. سكوت جيمس في الرد على كلام بن جونسون السابق أن (الحكم على الشعر هو ملكة الشعراء) كلام هربرت ريد، وهو أن (الحقيقة -على الأرجح- أن الشعر والنقد ملكتان مختلفتان تماماً ومبنيتان على أرضيتين مختلفتين، ولهما وجهة نظر مختلفة، حتى إننا قد نجازف فنلاحظ أن الشاعر الممتاز يكون دائماً تقريباً ناقداً لا أباليّاً، أو على الأقلّ ناقداً هاوياً..)
ولكن سكوت جيمس لم يوافق على الشق الثاني من كلام ريد، وهو أن الشّاعر الممتاز لا يكون ناقداً لامعاً كما سيمرّ بعد قليل.
إنّ النقد الأدبيّ نشاط فكريّ مستقلّ، وهو نشاط فعّال، لا غنى للأدب عنه. وأفضال النقاد على الأدباء لا تكاد تحصى.
إنّ الناقد هو الذي يبرز الأديب المتميّز، وهو الذي يذيع ذكره، ويرفع شأنه، وهو الذي يعرّف الناس به، وينوّه بتميّزه، ويفسّر كلامه، ويقرّبه من عقول القراء وأذواقهم، بل يكتشف في نصوصه من الخبايا والأسرار ما لم يخطر في بال القارئ العاديّ، ولا في بال مبدعه نفسه.
وهذا ما عبر عنه الخليل بن أحمد الفراهيدي في حوار طريف دار بينه وبين ابن مناذر الشاعر. قال الخليل: (أنتم -معاشر الشّعراء- تبعٌ لي، إنْ قرّظتُكم ورضيتُ قولكم نفقتم، وإلا كسدتم).
النقد -كما ذكرت- نشاط فكريّ مستقل عن الإبداع. وقد عبرت أقوال نقدية كثيرة في تراثنا الأدبيّ عن هذه الحقيقة، وكانت ردود النقّاد واضحة مقنعة على من يتوهمون أن نقد الشّعر صنعة لا يجيدها إلا شاعر، لا يجيدها إلا من دُفع إلى مضايق الإبداع.
قيل للخليل بن أحمد الفراهيديّ: (لِمَ لا تقول الشّعر مع علمك به؟ فقال: لأني كالمِسنّ أشحذ ولا أقطع).
وكان ردّ المفضّل الضبيّ ذا دلالة بليغة على أنّ النّاقد الخبير بفنّ القول قد يطبق هذه الخبرة على ما يُقذف على لسانه هو نفسه من الإبداع، فيمتنع عن إذاعته بين الناس، لأنه ليس أهلاً لذلك، ولأنه أدرى من غيره بالحسن والرديء.
قال قائل للمفضّل: لِمَ لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به؟ قال: علمي به يمنعني من قوله، وأنشد:
أبى الشعرُ إلا أن يفيء رديئُه
عليّ، ويأبى منه ما كان محْكما
فيا ليتني إذ لم أُجِدْ حوكَ وشْيه
ولم أكُ من فرسانِه كنتُ مُفْحما
ومثله كان ردّ الأصمعيّ على من قال له: ما يمنعك من قول الشّعر؟ إذ أجاب إجابة دالّة، فقال: (نظري لجيّده).
النقاد المبدعون
إنّ الانتقاص من قدر النّاقد لأنه لا يستطيع أن يبدع أدباً؛ غير صحيح، ولا تؤيده شواهد التاريخ الأدبيّ، فتراثنا العربيّ وتراث الأمم الأخرى كذلك، عرف نقاداً كباراً لم يكونوا مبدعين، وربما لم ينشئ أحدهم نصّاً إبداعيّاً واحداً، أو أنه أبدع، ثمّ وجد ما أبدعه لا يرقى إلى مستوى الرّفعة والتّميّز، فطواه ولم يذِعه بين الناس، وكان هذا ممّا يُحتسب له، إذ يدلّ على موضوعية وقدرة على تمييز الجيّد من الرديء كما أشار إلى ذلك كلّ من الأصمعيّ والمفضّل الضَبيّ في النصوص التي توقّفنا عندها.
وإذا كانت ملكتا الإبداع والنقد متمايزتين، فإن هذا لا يعني أنهما لا تجتمعان، ولا يعني بالضرورة أنه ليس هنالك نقاد مبدعون، بل نقاد أبدعوا وأجادوا.
وقد ذكر صاحب كتاب (صناعة الأدب) ر.أ.سكوت جيمس أن في صفحات كتابه ردّاً على الشق الثاني من كلام هربرت ريد الذي أوردناه سابقاً، وهو (أن الشاعر الممتاز يكون دائماً تقريباً ناقداً لا أباليّاً، أو على أية حالة ناقداً هاوياً) فقال: (إن صفحات هذا الكتاب تزوّد السيد ريد بالدليل المعاكس على جملته الأخيرة).
ثم أشار جيمس في كتابه إلى عدد من النقاد الذي جمعوا بمهارة واقتدار بين ملكتيْ الإبداع والنقد، وقال: (وجدت بين نقاد كتابي هذا السيّد أرنولد بنيت وهو روائي، والسيّد أدموند بلندن وهو شاعر، والآنسة ربيكا ويست وهي روائية، وثلاثة أو أربعة ممن كتبوا روايات، ولم أجد أيّاً منهم أقلّ كفاءة من النقاد المحترفين.. إنني لا أفترض -بالطبع- أن كلّ فنان ذي كفاءة عالية هو ناقد ذو كفاءة معتدلة)، ولكنّ هنالك مبدعين مارسوا النقد بكفاءة عالية، ولو ذكرت أسماء أمثال (دانتي، أو جونسون درايدن، أو غوته، أو كولرج، فعندئذٍ لن نجد نقداً أكثر نفوذاً من نقد الشعراء).
وفي تراثنا شعراء متميّزون كان لهم -إلى جانب إبداعهم- إسهامات نقدية بارزة، كابن المعتز، والقاضي الجرجاني، وأبي العلاء المعري.. وكثير غيرهم.
وإذن، فإنّ النّقد شيء والإبداع شيء، وقد يجتمعان في واحد وقد لا يجتمعان. وقد أشار الجاحظ ذات مرّة إلى هذه المسألة، فذكر أن صنعة النّثر وصنعة الشّعر لا تجتمعان إلا للقليل من العلماء، وأنّ من يجيد إحداهما قد لا يجيد الأخرى.