لا تَعْذِلِيْهِ فإِنَّ العَذْلَ يُوْلِعُهُ
قد قُلْتِ حَقاً ولكِن ليسَ يَسْمعُهُ
هذا مطلع قصيدة مشهورة سائرة، لا نُبالغ إن نَعْتنَاها باليَتِيمَةِ، فهي من القصائد التي اشْتُهرت قديماً وحديثاً، وعارضها الشعراءُ، فممَّن عارضها ابنُ حَزْم الأندلسي (ت 456هـ)، وأحمد بن جعفر الدُّبَيْثيّ (ت 558هـ)، ومحمد بن أحمد المَالِقيّ الأندلسي (توفي نحو سنة 450هـ)، ولعل من آخر من عارضها الشاعر المغربي أحمو الحسن الأحمدي، في قصيدته (كاترين).
إن أول ما يشد الانتباه أنّ شُهرة هذه القصيدة البديعة أكثر من شُهرة قائِلِها، فمَنْ هذا الشاعر الذي اكتَفت المصادر بذِكْره مَنْسوباً لزُرَيْقٍ؟ ولم تُعْن بأن تُورِدَ اسمه، فهي تقول (ابن زريق)، فمَن هو ابن زريق؟ هذا السؤالُ المُلحُّ هو الذي نحاول الإجابة عنه في هذه الأسطر.
لأول وهلة لا نَجِد إجابةً شافية عنه، بل نَجِد إجابات متناقضة، تدلُّ كلها على أنه شاعر مَغْمور، جُهِلتْ أخباره وتفاصيل حياته. وإذا حاولنا تتبُّعَه بواسطة هذه القصيدة التي كانت سبب ظُهور اسمِهِ وذيوع ذِكْره على ألسنة محبي الشعر؛ نجدها وردت مُسْندةً من طريقين:
الأول: الطريق الذي أورده السراج القارئ البغدادي (ت 500هـ)، وهو: أخبرنا أبو الحسين محمد بن علي بن الجاز القرشي الأديب بالكوفة، وأنا مُتوجِّه إلى مكة، سنة إحدى وأربعين وأربعمئة، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن حاتم بن بكير البزَّاز التِّكْريْتِيّ بتَكْريت، قال: حدثني بعضُ أصدقائي: (أنّ رجلاً من أهل بغداد، قصد أبا عبدالرحمن الأندلسي.. وشُغِل عنه الأندلسيُّ أياماً، ثم سألَ عنه، فخرجوا يطلبونه، فانتهوا إلى الخان الذي كان فيه، وسألوا الخانِيَّةَ عنه، فقالت: إنه كان في هذا البيت، ومذ أمس لم أره، فصعدوا فدفعوا الباب، فإذا بالرجل ميتاً، وعند رأسه رقعة فيها مكتوب). ثم أورد القصيدة.
إنّ أول ما يوهن هذه الحكاية أن سندها ينتهي إلى مجهول: (حدثني بعض أصدقائي)، ولم يُسَمَّ الشاعرُ فيها، أما الرجل المقصود فهو مجهول: (أبو عبدالرحمن الأندلسي)! وما أكثر هذه الكنية في رجال الأندلس. وقد وصف الأستاذ المبرز عبدالله الطيب هذه الرواية بأنها أسطورة أندلسية، وهي أسطورة كما قال أستاذنا الطيب رحمه الله.
وعلى الضد من ذلك وردت القصيدة في رواية تاج الدين عبدالوهاب بن تقي الدين السُّبْكِيّ (ت 771هـ) موصولةً إلى محمدِ بن عِمْرَان بن شَاهِين، أنه قال: (أنشدني عليُّ بن زُرَيْقٍ أَبُو الْحَسَن الكاتبُ البغداديُّ لنَفسِهِ) ثم أورد القصيدة كاملة. فهي إذن لم تُقَل في الأندلس، وإنما كان الشاعر يُنشدُها على الملأ، واسمه علي بن زُريق، ويكنى بأبي الحسن. وإذا بحثنا في مصادرنا الأدبية نجد أبا منصور الثعالبي ترجم لشاعر يسمى أبا محمد بن زُريق الكوفيّ الكاتب، فهو يتفق في ذلك مع رواية محمد بن عِمْران بن شاهين في عدّة أمور، هي:
الأول: أنه ابنُ زُريق.
الثاني: أنه كاتب.
فيما تختلفُ الكُنية والبَلْدةُ، أمّا الكنية فقد يكون له كُنْيتان، وصلت إحداهما للثعالبي فأثبتها في ترجمته، فقد تكون (أبو الحسن) كنيته في أول عمره، قبل أن يكون له وَلَدٌ بَعْدُ، فكان يُكنَّى بالمُشْتَهِر، وهو أنّ مَن اسمه عليٌّ يُكنى أبا الحسن، تيمناً بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأما نِسْبَتُه إلى الكوفة فلعل ذلك راجع لأنه كوفي الأصل نشأ بها، ثم انتقل إلى بغداد فسكَنَها، واتَّخذها مُسْتقراً له فنُسبَ إليها، وهذا وارد في كثير من الأعلام، ومن ذلك أن الحسين بن علي العِجْليّ (ت 254هـ) يُنْسبُ في كثير من الكتب كُوفياً، ولمَّا لقيه النسائي ورَوى عنه الحديث نسَبَهُ بغدادياً، حيث لقيَهُ بها بعد أن استقرّ بها. بل نجد أن ابن ماكولا نسبَهُ شامياً، فقال: وأمَّا الزُّريقي بتقديم الزاي وضَمِّها وفتح الراء، فهو شاعر شامي، يُعرف بالزُّريقي مشهور بأبيات منها:
وكمْ تَشَفَّعَ لي أنْ لا أُفَارِقَهُ
وللضَّرُورةِ حَالٌ لا تُشَفِّعُهُ
فهذه نِسْبةٌ ثالثة، تدلّ على الاضطراب في تحديد مسقط رأسه.
بعد أن استطعنا أن نصل إلى اسمه ومصادر ترجمته وخبر قصيدته، وهذا يمكننا أن نَصُوغ له تَرجمَةً تُنيرُ جوانب حياته، وتُعْطي القارئ صورةً عنه، تجعله أكثر إحاطة بحياة هذا الشاعر المبدع المجهول.
اسْمُهُ
هو: أبو محمد عليُّ بن زُرَيْق البَغْدادِيُّ الكَاتِبُ. وقد يكون ابن زريق عربي النجار والمحتد، حيثُ يقول مفتخراً بالعرب:
فِينَا الشجَاعَة طبع والسخاء كَمَا
فِينَا الدهاء وَفينَا الظّرْف وَالْأَدب
وأَحْمَد الْمُصْطَفى الْهَادِي النَّبِيّ وَذَا
هُوَ الفخار الَّذِي سادت بِهِ الْعَرَب
مَوْلِدُهُ
ليس مُتوقعاً أن نعثر على تاريخ مَوْلدِ شاعرٍ مُختلفٍ في اسمه وبلَدِه، وأقصى ما نركنُ إليه هو الاحتمال والرَّجم بالظَّن، الذي تدعمه الأدلة التاريخية.
جاء في الخبر أنّ ابن زُريق قَصدَ أبا عبدالله الكوفي، بعد أن وَلَّاه بَجْكَم التُّركيّ الكتابة له، مهنئاً ومادحاً، فصدَّهُ الحاجبُ عن الدخول، ولم يُمكِّنه من ذلك، فأنشد أبياتاً سمعها الحاجبُ فأوْصَلها إلى الكوفي، الذي غَضِب من حَاجِبه، وأمرَهُ بردِّه إليه وإدخالِهِ واعتذر إليهِ. كان أبو عبدالله الكوفي قد وَلَّاه بجكمُ الكتابَةَ لهُ سنة (326هـ) فابن زريق في هذه السنة شاعرٌ معروف، يُخشى لسانه، ويَبْلغُ شعرُه الخاصة والعامة، ويتصَدَّى للمدح والهجاء، حتى يعلم ذلك الكوفي، وذلك لن يتحقق لمن كان في أول شبابه، فقد يكون في هذا التاريخ قد تجاوز سنة العشرين، فلعل مولده كان أوائل القرن الرابع الهجري، نحو سنة (300هـ)، ويعزّز ذلك أنه هجا أبا بكر الصُّولِيَّ بقوله:
دَارِي بلا خَيْشٍ ولكِنَّنِي
عَقَدتُ مِن خَيْشتِي طَاقَينْ
دَارٌ متَى ما اشْتَدَّ بِي حَرُّها
أنْشَدتُ للصُّوِليِّ بَيْتَينْ
والصوليُّ كانت وفاته سنة (335هـ) وقيل (336هـ)، أي أنه قبل هذا التاريخ كان ابن زريق شاعراً له علاقةٌ بواحدٍ من كبار الكتَّاب في زمنِهِ.
أما مكانُ مَوْلده فمن المُحْتملِ أن يكون وُلِدَ بالكوفة، ولهذا نسبَهُ بعضُهم إليها، ثم انتقل في حقبةٍ من حياته إلى بغدادَ، فعاشَ فيها جُلَّ حياتِه، فأصبحَ بغدادياً، وقد يكون أبوه كوفياً فلحقت هذه النسبة ابنه.
حَيَاتُهُ
الأخبارُ عن حياته نَزْرة قليلة، لا تكاد تجد خبراً ذا بالٍ، وزاد الأمر ضغثاً على إبالةٍ أن أشعاره القليلة لا تدل على مَسيرة حياته، إلَّا إشارات قليلة لا تفي بالغرض.
لكن المؤكد أن ابن زُريق تعلم القرآن الكريم والقراءة والكتابة في صغره، وأخذ في شبابه طرفاً من العلوم أهلته ليكون كاتباً مجيداً ينعت بذلك، والكتابة تحتاج إلى علوم كثيرة لا بد أن يتقنها الكاتب، كاللغة والنحو والشعر، فهو قد أتقن هذه العلوم في أوان الطلب، وكان في أثناء ذلك يحضر مجالس أهل العلم، فقد ساق حكايةً كان حاضراً لها في مجلس القُتَبِي صاحب بيت الحِكْمة، ومن كان يحضر مثل هذه المجالس لا شك أنه كان من أهل العلم وطَلَبته.
لقد عاش ابن زريق في مجتمع مُضْطرب سياسياً، تكثرُ فيه الفتن، وشَغب الجُند، والمُصادَرة للأُمراء والوزراء، وخَلْع الخلفاء، لكنه مجتمعٌ على نَقِيض ذلك ثقافياً، حيث كان في حِرَاك ثقافي مستمر، وتطوّر في جميع مجالات العلوم، وكانت بغدادُ في زمنِهِ عامرةً بالعلماء في مختلف العلوم، وبالشعراء والأدباء من أضْرابِهِ، لكن السُّخف والمُجُون كان غالباً على شعراء بغداد في تلك الحقبة، وعلى رأسهم أبو الحسن بن الحجَّاج البغدادي (ت 391هـ)، فشاعَ التَّهاتُر بينهم، والسُّخف في أشعارهم، ويظهر أن ابن زُريق كان بعيداً عن هذا المَسْلك، فقصيدتُه العَيْنية شاهدٌ على هذا، وكذلك قصيدته في القَيْنةِ المُسمَّاة دُبَيْسَيَّة.
ويظهرُ أن ابن زريق اعْتَاش بقلمه الذي كان له حضور في ذلك الزمان، فعمل كاتباً، حتى شهر بذلك، وأصبحت صفة الكاتب ملازمة له، وكان بين ذلك وذاك يعتاشُ بما يُفِيضُ عليه الوزراءُ وكبار رجال الدولة حين يمدحهم، فقد قَصدَ أبا عبدالله الكُوفي وقد وَلِيَ كتابة بَجْكم التركي ليَمْدحهُ، فحَجبَه الحاجبُ، فقال وهو مُغضبٌ:
إنّا لَقِينَا حِجَاباً مِنكَ أرْمَضَنا
فلا يكُن ذُلُّنا فيْهِ لكَ الغَرَضا
ولا شك أن هذا الصَّنيع كان دأبه مع كثير من الوزراء والكُتَّاب حين يُولون، وما أكثر تَوْليتَهم وعزلهم في زمنه.
كان طموحُ ابن زريق لرِزْقٍ كثير، وحَالَةٍ أحسن، فدعاهُ ذلك للخروج من بغداد، حيث يقول عن نفسِهِ:
مَا آبَ من سَفَرٍ إِلَّا وأزْعَجَهُ
رَأىٌ إِلى سَفرٍ بالعَزمِ يَجْمعُهُ
تَأبَى المطَامِعُ إِلَّا أَن تُجشِّمَهُ
للرِزِّقِ كدًّا وكم مِمَّن يُودِّعُهُ
وما مُجاهَدَةُ الإِنسَانِ وَاصِلَةٌ
رِزْقاً وَلَا دَعَةُ الإِنْسَانِ تَقْطَعُهُ
فلمَّا سافر مرَّةً بعد مرَّة لم يجد بُغْيتَهُ في كل أسفارِهِ، فعاد إلى بغداد عَوْدةً لا رَجْعةَ فيها، وقال:
سَافَرتُ أبغي لبغدادٍ وسَاكِنِها
مثلاً قد اختَرتُ شيئاً دُونَهُ اليَأسُ
هيهَاتَ بَغدادٌ الدنيا بأجمعها
عندي وسُكانُ بغدادٍ هُمُ النَّاسُ
لكن عَودتَهُ اقترنَت بمَأسَاتِه التي سَكَب أَلَامَهُ التي عَصفت به في عَيْنيتِه الرائعة، فقد فارقَتْهُ حَبِيبتُه، ولا نعلم كُنْه هذا الفراق على اليقين، إنما يُظنُّ أنها قد تَزوَّجت، وأصْبحَت في عِصْمةِ رجلٍ آخرَ، حيثُ يقول:
في ذمَّةِ الله مَن أصْبَحتَ مَنْزلَهُ
وجادَ غَيثٌ على مَغْناكِ يُمْرِعُهُ
عَسَى اللَّيَالِي الَّتِي أضْنَتْ بفُرْقتِنَا
جِسْمِي تُجَمِّعُنِي يَوماً وتَجْمعُهُ
وإنْ يَنْلْ أحَدٌ مِنَّا مَنِيَّتُهُ
فمَا الذي في قَضَاءِ اللَّه يَصْنعُهُ
لقد جعلت هذه المأساة ابنَ زريق يقنعُ بالبقاء والاستقرار في بغداد، فأقام فيها بقية عُمره، حتى توفي على ما أظن.
وَفَاتُهُ
هناكَ أمران قد يُعِيْنا على تقريبِ وفَاةِ ابنِ زُريق، هما:
1 - أن الثعالبي لم يُدْركه ليَرْوي عنه أو يُكاتِبه وهو يترجم لهُ في كتابه (يتيمة الدهر)، بل رَوى شعره بواسطة، والثعالبي ولد سنة (350هـ) وبدأ في تصنيف كتابه (يتيمة الدهر) سنة (384هـ) أي: أنه عندما بدأ في العملِ أو قَطعَ فيه شَوطاً كبيراً كان ابن زريق قد مات، فلم يَلْقه ولم تمكنه وفاته من أن يُرَاسِله.
2 - لقِيَ أبو الهَيْجَاء محمد بن عِمْران بن شاهين ابنَ زريق، ورَوى عنه قصيدتَهُ العَيْنية، وكان أبو الهيجاء قد خرجَ من البَطِيْحَة بعدَ موت والدِهِ سنة (369هـ) وساح في البلاد، فكان بين مصر وإمارة بدر بن حَسْنَوَيْه في بلاد الكُرد، ثم استقر ببغداد في ظل وَالِيها البُويْهِيّ فخر الملك أبي غالب، الذي وَلِيَها سنة (401هـ) فقصدَهُ أبو الهيجاء، وأقام عنده حتى خرجَ منها سنة (412هـ)، حيث جاءه رسول من أهل البطيحة يطلبون قدومه ليتولى إمارتها، لكنه قتل دون ذلك بعد أن انفلّ جمعه سنة (412هـ). واحتمال أنه لقي ابن زريق في العقد الأول من القرن الخامس بعيدٌ كل البُعْد، لأن ابن زريق في هذه السنة قد ناهز عمره المئة سنة أو جاوزها بقليل، وهذا احتمال مقبول منطقياً، لكنه بَعِيدٌ وَاقِعياً، لذلك أرى أن أبا الهيجاء لقيَهُ خلال سياحته في البلاد، وقد يكون قَدِمَ بغداد وهو في طريقه خارجاً من البَطِيحة بعد مقتل والده، لأن البطيحة قريبة من بغداد، فأقام بها مُدَّة لَقِيَ ابنَ زريق فيها، نحو سنة (370هـ) وكان ابن زريق حينئذٍ شيخاً كبيراً، لم يلبث أن مات بعد عقد من الزمن أو نحوه.
يؤيد هذا أن الثعالبي لم يُدركه، وكان قد بدأ في تصنيف كتابه اليتيمة كما ذكرنا سنة (384هـ)، وقد يكون قد جمع مادته قبل ذلك، فالذي أرجحه أن وفاة ابن زُريق كانت بين سنتي (370هـ - 380هـ) حيث جاوزَ عُمْرُه عند وفاته السبعين سنة. كما يؤكِّدُ ذلك أن السِّراج القارئ رَوى القصيدة العينية سنة (441هـ) بالكوفة، وكان سَندُهُ إليها رجلان، أي نحو نصف قرن، فتكون القصيدة قد وصلت إلى الرَّاوي الأول سنة (390هـ)
شِعْرهُ
لم يبق من شعرِ ابن زُريقٍ إلَّا قصيدتُهُ العَيْنيةِ وقِطَعٌ أُخرى حفظها المصنفون، بعضها قد يكون مُجْتزأ من قصائد طويلة، لذلك لن يكون الحكم على شعره صادقاً.
إن شعره الباقي بين أيدينا ينم عن جَوْدة الطبع، وصَفاء القَرِيحَة، وصِدْق العاطفة، وخير ما يُمثل ذلك قصيدته العينية، فهي تجري كجَدْولٍ رَقْرَاقٍ، أجاد ابن زريق اختيار الرَّوي، ثم وصله بالهاء وجعل الروي والهاء مضمومتان فجاء كل ذلك معبراً عن الألم، فالهاء المضمومة قريبة من الآهات والتوجع والحسرة، وأحسن أيما إحسان في صياغة مطلع القصيدة (حسن الابتداء)، فكان عتاباً شفاً أبان عن عمق المأساة التي حلت به، وانسابت أبيات القصيدة مؤتلفة تعبر عن مأساته بألفاظ سهلة بعيدة عن الغموض، ومعانٍ واضحة تبين مقدار حزنه ولوعته. إن هذا الإبداع في هذه القصيدة لا نجد مثيله في شعره القليل الذي وصل إلينا، وهو بدون شك لا يمثل شعره كله، لكنه شعر جيد، ففي قوله:
أُسْقَى على شَدْوِ دِبْسَيَّةٍ
فتُنْفَى هُمُومِي
فكُنْتُ حِيْنَ تُغنِّي
لدَى جِنَانِ النَّعِيمِ
وإنْ نَظَرتُ إلَيْها
ففِي العَذابِ الألِيْمِ
وإنْ شَرِبْتُ بصَوْتٍ
فالرَّاحُ بالتَّسْنِيْمِ
وإنْ شَرِبْتُ بلَحْظٍ
فالمُهْلُ بالزَّقُّوْمِ
نجده اتَّكأ على المعجم القرآني، فاستمد من الكتاب الكريم ألفاظاً تعبر عن صور قرآنية أدخلها في نصه، ليُبيِّن حالَهُ بين السَّماع والنظر لهذه المغنية، فقد كانت دُبيسية حَسَنة الصوت، قَبِيحةَ المَنْظر، لقد استطاع أن يُوْصِل للقارئ تفاصيل هذا المجلس، وما يُعَانِيه بين الحالتين. أما عتابه فهو يجنح للحكمة، كقوله لأبي عبدالله الكوفي:
اسْمعْ لنُصْحِي ولا تَغْضبْ عليَّ فما
أبْغِي بقَوْليَ لا مالاً ولا عَرَضا
الشُّكرُ يَبْقى ويَفْنَى ما سِوَاهُ وكَمْ
سِوَاكَ قد نَالَ مُلْكاً فانْقَضى ومَضَى
في هذِهِ الدَّارِ في هذا الرِّوَاقِ على
هذا السَّريرِ رَأيْنا المُلْك فانْقَرضا
إن ابن زريق يَكْفِيه أن لهُ قصيدة أحْيَت ذكره وإن مَاتَ خبرُهُ، فهي خليقة بالخُلودِ، ليس لجودتها وحسب، وإنما بما سكب فيها من لواعجه وأحزانه فكأنها تتكلم بلسان كل عاشق، ولا يَضِيره هذا، فعمرُو بن كُلْثوم والحارث بن حِلِّزَة أصحابُ وَاحِدةٍ لا ثاني لها من شعرهما.