يبدأ فيلم (آنيت) بإعلان صوتي ذي طابع رسمي، يُطلب فيه من المشاهدين التركيز التام والالتزام بالصمت المطلق، وعدم الضحك، ولا التثاؤب، ولا حتى التنفس طيلة مدة عرض الفيلم، ليظهر لنا بعد ذلك وفي أول إطار مخرج الفيلم ليوس كاراكس بنفسه داخل الأستديو، يقوم بإشعال سيجارة، يقترب من الميكرفون، ليعطي إشارة البدء، فتبدأ فرقة (سباركس) بعدها بغناء أغنية (هلّا بدأنا)، وأثناء غنائهم وفي التقاطه واحدة ومتحركة، يتحرك كل من الأخوين رون ميل، ورسل ميل -عضوي الفرقة- بالخروج من الأستديو، وخلفهما أربع مغنيات مساعدات، ومن جهة أخرى ينضم كل من بطلي العمل آدم درايفر وماريون كوتيارد إلى المسيرة، فيتحول المشهد من داخلي إلى خارجي ليلي في أحد شوارع سانتا مونيكا، ليأتي بعد ذلك ممثل الفيلم المساعد سيمون هيلبيرغ، ومن الخلف نرى كل من كاراكس وابنته ناستيا، فيتوقف الجميع وسط الطريق، مصطفين جنباً إلى جنب، لتنتهي الأغنية هنا. يذهب الممثلون بعدها للمواقع التي سيبدأ من عندها أول مشاهدهم، معلناً طاقم الفيلم عبر هذا المشهد وبطريقة أيقونية عن بداية الفيلم.
إن ما يجعل ليوس كاراكس واحداً من أهم صناع السينما في عصرنا الحالي هو وفاؤه الملحوظ للوسيلة السينمائية، حيث نرى الأدوات في أعماله تعمل جاهدة لكي تحقق الكمال البصري والسمعي، فقد لا يبالي كاراكس بالوصول إلى نتائج منطقية من الحياة الواقعية، ولا في تقصي أي شكل من أشكال الحقيقية في أفلامه، بل في أن يشد رحاله دوماً لعالم يشبه الأحلام، مستخدماً كاراكس بذلك أكثر الخصائص الخيالية للسينما، لتلتقي النجوم بالأشخاص، ولتنبعث الموسيقى من السماء لتخلق توازناً في الخطوط السردية، كما لو كانت أعمال كاراكس تأكيداً لكون السينما هي الوسيلة الفنية الأقرب إلى الحلم.
فبعد رائعة كاراكس الغرائبية وأكثر أعماله تفرداً في الرؤية (هولي موترز)، يعود بعد تسع سنوات بالفيلم الموسيقي (آنيت) من تأليف وكتابة عضوي فرقة سباركس (الأخوين رون ميل، ورسل ميل)، والذي يحكي حكاية حب بين الكوميديان هنري (آدم درايفر)، ومغنية الأوبرا آن (ماريون كوتيارد)، ومثل أي حكاية حب في الأفلام الموسيقية، تُحكى تقلباتها ومنعطفاتها من خلال الأغاني المقدمة، إلا أننا لا نشهد الخطوات الأولى من العلاقة هنا، لكن بتصريح مباشر في أحد عروض هنري ماكهنري الكوميدية، والتي يكشف بها عن ارتباطه بمغنية الأوبرا الشهيرة، ليصبح (آنيت) فيلماً ليس عن العلاقة بقدر ما يلي ذلك.
يلعب آدم درايفر في آنيت دور الكوميديان (هنري ماكهنري)، كتجسيد للفنان إلسي، فهو هنري الحاد، ليس بطباعه فحسب، بل في كل شيء تقريباً، فبعنف يدخل عروضه الكوميدية، بالطريقة التي يدخل بها الملاكم حلبته، يقوم بعمليات الإحماء ويتصاعد الدخان عند دخوله، مرتدياً الروب الأخضر، ولا أبالغ إن قلت بأنه يدخل ليتصارع مع كل ما هو أمامه، حتى مع وجوده، وبعرض يتسم بالمسرحية والغنائية في بعضه، يذكرنا كثيراً بالكوميديان بو بورنهام حتى في نكاته، وسوداوية ما يطلقه لسانه، والتي لا أراها نكتاً مضحكة على الإطلاق، بل وجدت لتعبر عن حالة من القلق، (يسأل هنري الجمهور (لماذا أصبحت كوميديان؟) ليجيب (بغرض قول الحقيقة دون أن تتسبب بمقتلي). وفي عرضه نرى الكثير من الخطابات الانتحارية أو العنيفة سواء في الكلام أو في ما يقدمه من أداء مسرحي، فهو يقوم بتلويح سلك الميكرفون كما لو أوشك على اصطياد فريسة ما، ويلفه على عنقه كما لو أراد شنق نفسه، ففي التفاصيل هذه نرى جانباً من شخص هنري. وكما تُقدم أفلام الحب الموسيقية علاقاتها عبر الأغنية؛ يقدم هنري جزءاً مهماً من أعماق شخصيته من خلال عروضه. أما عن ماريون كوتيارد فهي تقوم بدور مغنية الأوبرا (آن)، وبنفس الطريقة التي عرض كاراكس بها هنري، ها هي (آن) تقدم جزءاً من شخصيتها من خلال أوبراها، كما تظهر كمثال معاكس لهنري، فهي الشخصية الناعمة في الحكاية، حيث يقارنها كاراكس بهنري في مشهدين، كان الأول بحدثين متداخلين في المونتاج قبيل عرضيهما، ينظر هنري إلى (المرآة)، ويستعد كما لو كان يحاول تخيل خصمه أمامه؛ وفي الجانب الآخر والذي صور كاراكس من خلاله (المرآة) لتعكس صورة (آن) وهي تحاول قتل قلقها، بعدها من 1 إلى 10 بشكل مستمر قبيل العرض، وفي مشهد آخر بعد العرض، عندما يلتقيان ويخبر كل واحد منهما الآخر كيف كان عرضه، فيقول هنري بأنه: (قد دمرهم وقتلهم) أما عن آن فتقول بأنها (قد أنقذتهم)، فأوبراها هنا مثال على ما يقدمه الفنان من حب تجاه فنه وجمهوره، إلا أن الفيلم لا يتعمق كثيراً في (آن) سوى في عروضها، وفي أن يُظهرها ضحية لهنري بقدر ابنتها (آنيت)، والتي تظهر لنا بشكل صادم على هيئة دمية، أو أداة، ولربما هي كذلك بمخيلة هنري لا أكثر، ولهذا يمكن القول بأن فيلم (آنيت) هو حكاية هنري ماكهنري، عن سقوط الفنان الذي خسر معركته مع نفسه، ومع طبيعته التي استمرت بالتشبث بحبال الشهرة، ليؤدي صراعه المستمر إلى مشاهد من الخسائر المتتالية، بداية من كونه زوجاً وفناناً، وصولاً إلى كونه إنساناً وأباً لابنته في النهاية.
فيلم (آنيت) هو أول عمل يقوم كاراكس بإخراجه دون كتابته، وأول أفلامه الموسيقية في التصنيف، لكن هذا لا يعني بأن سينما كاراكس حديثة على هذا النوع من السينما، فدائماً ما احتملت شكلاً موسيقياً لما تحتويه من سحرية في الأسلوب، ومن التبني المستمر لشكل المشهد الموسيقي، كما رأينا في (محبوبين تحت الجسر 1991) عندما رقص كلٌ من جوليت بينوش ودينيس لافانت فوق جسر (نُف) على أغنيتي فيروز وإيغي بوب، بينما كانت الألعاب النارية تغطي سماء باريس، وأيضاً في مشهد كايلي مينوغ الغنائي في (هولي موترز 2012) وفي فاصل الأكورديون الشهير من نفس العمل.
وقبل بياننا لعمل كاراكس في (آنيت)، لننظر سريعاً على أشكال السينما الموسيقية المتعارف عليها، حيث يمكن القول بأن اعتبار جودة العمل الموسيقي المتداولة عند محبيها ارتبطت كثيراً بالكوريوغراف، والمقصود بذلك (تصاميم الرقصات وحركة الممثلين في المشهد الواحد)، وأيضاً في الجانب الشكلي للمشاهد من ديكور وأزياء وتناغم في الألوان، فهناك أعمال قدمت ذلك بطابع (مسرحي) كأعمال فنسنت منيللي وبوب فوسيه، وهناك أعمال أخرى قدمتها باعتبار أن العالم باذخ في سحريته وجماليته ليصبح العالم بأسره كوريوغراف، وألا ينحسر تقديم المشاهد الموسيقية والرقصات على المسرح فحسب، بل حتى في الشوارع والبيوت، وأبرز الأمثلة على ذلك هي أفلام المخرج جاك ديمي، لكن في (آنيت) فلا نرى كوريوغراف، ولا أي محاولة من كاراكس في تقديم رقصات، بل في قيامه بخرق عالم الأحداث لئلا يصبح أكثر جمالاً، بل أكثر ظلمة وسواداً، ولهذا يمكن القول بأن (آنيت) هو عمل موسيقي (يقف في موقف الضد للصفات الداخلية للأفلام الموسيقية Anti-Musical)، وكل ذلك جاء بعمد من كاراكس، فإذا قلنا بأن أعمال كاراكس لديها خصائص الشكل الموسيقي، فهذا باعتبارنا للاحتمالات الفانتازية التي تقدمها السينما الموسيقية.
كما يقدم كاراكس هنا إبداعاً فنياً في أسلوب التقديم، ربما أكثر حسماً حتى من الأغاني نفسها، والذي اعتبره قد أنقذ بذلك من مستوى الأغاني المتدني في أكثر من مناسبة، عبر خلق إيقاع مشهدي بارع، ساعده ذلك أيضاً في التخلص من ضيق حبكة الفيلم في عدة مرات، ويتضح أسلوب كاراكس في التقديم باتباعه لشكل سريالي متحرر نلتمسه في كل مشهد، وفي محاولة لجعل كل عنصر تظهره كاميرا (كارولين شامبتييه) فعالاً في خلق معنى من وجوده، كالجمهور على سبيل المثال، ففي الأفلام الموسيقية الأخرى التي قدم أبطالها عروضاً أمام المسرح، قام جمهورها بدور يشبه الذي نقوم به كمشاهدين، يشاهدون فحسب، ولكي يقوموا بالتصفيق عند نهاية العرض أيضاً، وقد يتم عزلهم من الشاشة تماماً عندما ينغمس أبطالها في العروض، كما حدث في فيلم شيزيل (لا لا لاند)، إلا أن كاراكس لا يسمح هنا بإظهار أي عنصر في شريط الفيلم دون أن يساهم في التعبير بالقدر الذي يساهم به أبطاله، فعندما كان هنري على المسرح، كنا نشاهد الجمهور يقوم بدور مشابه للدور الذي قامت به الأوركسترا في موسيقى (آن)، نشاهده يتفاعل ليخلق توازناً للعرض كما لو كان جزءاً أساسياً لما يقدمه هنري، وفي سريالية التقديم أيضاً، كان أروعها في تخلص (آن) المستمر من المسرح في عروضها الأوبريالية، مثلما حدث في مشهد الغابة، عندما التفّت فيه إلى الخلف، لتقطع صورة الغابة الخضراء في المسرح، ولتصبح جزءاً منها، غارقة داخل أعماقها، دون اعتبار لوجود المسرح، مكملةً بقية عرضها بين الأشجار المخيفة.
ومع مرور أحداث (آنيت)، تبدأ الحكاية بأخذ مسار أكثر جدية، وهي جدية قد لا تتجانس بعض الشيء مع ثيمة كاراكس السريالية الهزلية في النصف الثاني من الفيلم خصوصاً، وهي الهزلية نفسها التي شكلت عامل القوة في فيلم كاراكس السابق (هولي موتورز)، لكن نجاحها في (هولي موتورز) كان لرؤية هزلية تشكلت من جذور الفيلم الأساسية والتي قام كاراكس بصياغتها، إلا أن موضوعات مثل العنف الذكوري واستغلال الأطفال وغيره مما تطرق إليه فيلم (آنيت) لم يكن المزيج المناسب لهذا النوع من الهزل، كما هو حال بعض أغاني السباركس، والتي كُتبت بطريقة تفتقد إلى العمق بعض الشيء، ليشكل ذلك عائقاً على انفتاح أسلوب التقديم هنا، ففيلم (آنيت) مذهل بصرياً ويذهلنا أكثر عندما نتمعن في التحرير الصوتي للفيلم، لكن الإذهال اللحظي هذا ينطفئ عندما يحاول الفيلم وضع تأكيدات غنائية ترتبط بالحكاية، فإذا كان الفيلم حكاية ما بعد الحب، فهناك عدة أسئلة ستطرح عندما تتكرر أغنية (لقد أحببنا بعضنا كثيراً) في أكثر من ثلاثة مناسبات لاحقة، إلا أن براعة كاراكس في (آنيت) نجحت بجعل تجربة العمل مميزة بعيداً عن الحكاية نفسها، وأكثر ما أبعد كاراكس عن ذلك هو مدة المشهد الواحد الطويلة لصالح التقديم المشهدي -في النصف الأول من الفيلم، لكن مع تقدم أحداث الفيلم يبدأ هذا الخط في البروز، وذلك لكثرة المشاهد والاتجاه لتقصير مدة المشهد الواحد بهدف دفع الحكاية، ولهذا يمكن القول بأن (آنيت) يشبه شخصية هنري تماماً، فهو يبدأ في القمة عبر مشهد افتتاحي متكامل، ويبدأ بالنزول في مستواه بشكل تدريجي وصولاً إلى أجزائه الأخيرة، فيبدأ بالانهيار في مشهد السوبربول (عرض آنيت الأخير)، بالطريقة التي تسبب بها المشهد بانهيار كل شيء لهنري.
لكن التعبير الأروع في حكاية آنيت بنظري، جاء في ولادة الابنة (آنيت)، حيث يمكن القول بأنها كانت تجسيداً للنتيجة المحتملة التي تجمع الكوميديا بالتراجيديا، إنها الصورة الواحدة الناتجة عن امتزاج الفن الرفيع بالهابط، كتعبير للنقاء المشوه، ويزداد هذا التشوه عندما تدخل الفلاشات أبواب حياة (آنيت)، إلا أن الفيلم حافظ على جعل التشوه شكلياً فحسب، ليظهر كما لو كان هزيمة مؤقتة للنقاء، إلى أن تُحقق (آن) انتقامها، وتتخلص (آنيت) من السطوة الأبوية الاستغلالية، لتنهي (آنيت) أيضاً كونها أداة ودمية بين يدي هنري.
كما يزور كاراكس في هذا العمل العديد من أعماله، بداية من دراجة (موفي سون 1986) النارية وصولاً إلى الثيمة الخضراء في (هولي موتورز 2012)، ويحتفي أيضاً بالكثير من العوامل التي أحدثت أثرها في التاريخ البشري من أساطير وأحداث تاريخية، ولا يسع لسينمائي حقيقي مثل كاراكس أن يقوم بذلك دون زيارة حفوية إلى السينما، والتي زارها في عدة مناسبات، أبرزها كانت في الميتتين اللتين شهدناهما في أحداث الفيلم، إذ تتشابهان بشكل رمزي في كونهما كانتا غرقاً، وبحفاوة لكلاسيكيات من السينما الفرنسية كانت الأولى لتحفة جان فيغو (الأطلنطي 1934)، عندما سقطت (آن) من السفينة، من خلال طريقة التصوير السحرية للسقوط في أعماق البحر، وكانت الأخرى في ميتة قائد الأوركسترا، والتي زار من خلالها كاراكس فيلم (المسبح 1967) لجاك ديري، حيث نشهد في كِلا الفيلمين رجلين قد أحبا امرأة واحدة، وأغرق أحدهما الآخر لأجلها، حيث قام (هنري) بإغراق قائد الأوركسترا لأجل (آن)، كما فعل ألن ديلون بإغراق موريس رونيت لأجل رومي شنايدر.