مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

عبدالرحمن الشرقاوي.. الفلاح المستنير

شَكَّلَ عبدالرحمن الشرقاوي طوال حياته (1920 - 1987) مثال الكاتب حامل شعلة النار، كما حملها من قبل الدكتور طه حسين الذي جذب الشرقاوي لمحاضراته في كلية الآداب، كما يجذب المغناطيس الحديد، حتى أن عبدالرحمن الشرقاوي كان يترك محاضراته بكلية الحقوق ويذهب لحضور محاضرات الدكتور طه حسين في مدرجات كلية الآداب، وكما حملها معهما الدكتور لويس عوض، حتى شَكَّلَ فكر الثلاثة: طه حسين، عبدالرحمن الشرقاوي، لويس عوض؛ قدرة الأديب على حمل شعلة النار/ شعلة التنوير، كما حملها بحسب الأسطورة من قبل بروميثيوس الذي آمن بقدرة الكاتب على الإبداع والفكر ورؤية المستقبل، فقط يحتاج البسطاء حامل شعلة النار، لينيرَ الدرب حتى يكتشفوا الطريق.
إن مَنْ يتابع سيرة الشرقاوي الأدبية، ويقرأ كتبه ويدرسها، ويفهم رسالتها؛ سيعرف بالتأكيد كيف حمل الشرقاوي شعلة النار في مواجهة المزيفين الذين ناصبوه العداء، وواجههم بنشر المزيد من كتاباته الطليعية التنويرية في القصة القصيرة والرواية والشعر والمسرحية والتراجم الإسلامية بفكرٍ واعٍ، حتى بات في طليعة الأدباء والمفكرين الطليعيين المستنيرين.
بؤس القرية والشمس الحارقة
ولد عبدالرحمن الشرقاوي يوم 11 نوفمبر 1920 في قرية الدلالتون مركز شبين الكوم محافظة المنوفية شمال القاهرة، وتوفي يوم 11 نوفمبر 1987، وبين اليومين كانت رحلته الشاقة مع الحياة، حيث بدأ تعليمه بكُتَّاب القرية، ثم مدرسة القرية الابتدائية، وعندما عمل والده وسكن القاهرة، انتقل للدراسة في المدرسة المحمدية الابتدائية، ثم للمدرسة الخديوية الثانوية عام 1935، وحصل على ليسانس الحقوق من جامعة فؤاد الأول عام 1943، يقول الشرقاوي: جئت للحياة والحرب العالمية الأولى تضع حمل أوزارها، وسجل الشرقاوي يوم مولده شعراً في بطاقة التعريف به، يقول فيها:
أنا، من أنا؟!
ولدت لعشرين عاماً مضت على مطلع القرن يا سيدي
وقد فرغ العالم المستجير من الحرب آمناً
يهزأ بالموت والتضحيات وبالذكريات
وقامت شعوب تهزُّ الظلام بمشرق أحلامها الهائلة
وتُعلي على خربات الفساد بناء مدينتنا الفاضلة
فلما بدأت أعي ما يقال رأيتهم يملأون الطريق
تهزُّ الفؤوس ركود الحقول وتغلي بما تحتويه العروق
وكانوا يقولون: يحيا الوطن
حفاةٌ يهزُّون ريح الحياة
ويستدفعون شراع الزمن
وساءلت أمّي عمّا هناك
وماذا دهى القرية الساكنة؟
فقالت: بُنيّ هم الإنجليز
يثيرون أيامنا الآمنة
وقد أخذوا كل غَلاّتنا
وقد نضب الماء في الساقية
ولم يبقَ شيء على حاله
سوى حسرة مُرّة باقية
هذه صورة القرية التي ولد وعاش فيها الشرقاوي، وشاهد كيف ظلم أهلها من الفلاحين الحفاة الذين يهزُّون الفؤوس فتغلي رؤوسهم تحت وهج الشمس الحارقة وتصبّ جباههم عرقاً، صورة نقشت في ذاكرته مرارة شديدة، صورة فقد فيها الفلاح حريته وكرامته، لذلك دخل كلية الحقوق ليحيي قيمتيّ العدل والحرية، تلك القيم التي آمن بها منذ طفولته. وعندما لم يعمل بالمحاماة سوى عامين فقط وتفرغ للصحافة والكتابة الأدبية؛ حاول أن يكتب بصدق عن معاناة الفلاح الحقيقية، في روايته الفاتنة: الأرض، وليست صورة الفلاح الوردية التي كتب عنها الدكتور محمد حسن هيكل في رواية زينب.
في كتاب (اعترافات عبدالرحمن الشرقاوي) للدكتور مصطفى عبدالغني، صدر عن المجلس الأعلى للثقافة عام 1996؛ يقول الشرقاوي عن طفولته: كنتُ وأنا علی الساقية أسترجعُ ما قرأتُ في الصيف، كنتُ أسترجعُ دائماً كتاب الأيام للدكتور طه حسين وإبراهيم الكاتب للمازني ورواية زينب للدكتور هيكل، وكنتُ أری في قريتي أطفالاً عديدين أكل الذباب عيونهم كالقرية التي عاش فيها صاحب الأيام، وتمنيتُ لو أنّ قريتي كانت هي الأخرى بلا متاعب، كالقرية التي عاشت فيها زينب، الفلاحون فيها لا يتشاجرون علی الماء، والحكومة لا تحرمهم من الرّي ولا تحاول أن تنتزع بالكرابيج، والأطفال فيها لا يأكلون الطين، ولا يحطّ الذباب علی عيونهم الحلوة، كانت قريتي هي الأخرى، جميلة كقرية زينب وأشجار الجميزة والتوت تمتدُّ علی جسرها وتلقي ظلالها المتشابكة على ماء النهر، وفي حوض الترعة في قريتي، حيث تنتزع الحكومة الأرض، كانت الحقول مُجللّة بمساحات رائعة من القطن وعلی حوض الجسر تمتد أسماء بلا نهاية فوق خضرة متموّجة، علی أنّ قرية زينب لم تعرفْ طعم الكرابيج، كما عرفت قريتي، ولم تذق قرية زينب اضطراب مواعيد الري، ولم تجرّب بول الخيل يصيب الأفواه، ولم تعرف قرية زينب زهو النصر وهي تتحدی القضاء والإنجليز والعمدة وتنتصر لبعض الوقت، وزينب التي لم تكن أبداً علی الرغم من كل شيء جميلة كوصيفة.
رواية الأرض صرخة احتجاج
كتب الشرقاوي رواية الأرض كصرخة احتجاج على أوضاع الفلاحين البسطاء المقهورين الذين معظم طعامهم الجبن القديم والمش وكسرات الخبز الناشف، ومع ذلك تجد الفلاح صامتاً قهراً وساكتاً ظلماً، في زمن الأسياد الذي يعيش فيه، وخوفاً من الكرابيج التي تلهب ظهره. أحداث الرواية تدور عام 1933 في قرية الشرقاوي التي رآها وسجلها بكاميرا عينه، وعندما حولها المخرج يوسف شاهين إلى فيلم الأرض بطولة محمود المليجي وعزت العلايلي ونجوى إبراهيم؛ سجلت ظلم الرأسمالية في أبشع صورها، وفضحت الأجهزة التي تصم آذانها وتغلق عيونها عن ظلم وقهر الفلاح، ووضعت القضية التي آمن بها الشرقاوي، تحت أبصارنا جميعاً، قضية العدل الاجتماعي، بين الفلاح الأجير الفقير المعدم وصاحب الأرض الثري المستبد، دافع عن قضية المياه، ورأى ضرورة أن يكون توزيع حصص المياه توزيعاً عادلاً، لكن عمدة القرية ممثل الحكومة يبلغ الفلاحين بأنه تم تقليل نوبة الري إلى 5 أيام بدلاً من 10 أيام، وأنه سيتم تقسيمها مناصفة بينهم وبين محمود بك الإقطاعي، فيجتمع رجال القرية للتشاور ويتفقون على تقديم عريضة للحكومة من خلال محمد أفندي ومحمود بك، لكن الأخير يستغل الموقف ويستفيد من توقيعاتهم، لينشئ طريقاً لقصره يشق أرضهم الزراعية، وتقوم ثورة الفلاحين - وعلى رأسهم محمد أبو سويلم - دفاعاً عن أرضهم، ويلقون بالحديد في مياه الترعة، فترسل الحكومة قوات الهجانة، لتسيطرَ على الأمن في القرية بإعلان حظر التجوال، ويتم انتزاع الأراضي منهم بالقوة، ويتصدى محمد أبو سويلم لقوات الأمن فيتم سحله على الأرض، ونراه في الفيلم يُحاول التشبث بجذور أشجار القطن، والدم يسيل منه، لكنه يتشبث بالأرض التي ولد فيها ويعيش عليها، ويرفض أن تسرق منه، كانت حادثة شق الطريق، هي التي أشعلت ثورة الفلاحين، وهكذا جسدت الأرض الرواية والفيلم معاناة الفلاحين الحقيقية ضد ظلم وفساد الإقطاعيين واعتبرها العديد من النقاد النموذج الأبرز للواقعية، إذ قدم فيها الشرقاوي القرية المصرية ولأول مرة بعيداً عن النظرة الرومانسية وصورة الجنة الزاهية كما قدمها دكتور محمد حسين هيكل في رواية وفيلم زينب.
لكن الدكتور لويس عوض هاجم الشرقاوي واتهمه بأنه يكتب عن فلاحين يتخليهم لا كما هم في الواقع، فردَّ الشرقاوي:
إن الفلاحين الذين أكتبُ عنهم هم أهلي، فأنا فلاح من المنوفية مركز شبين الكوم، وأنا على صلة بأهل قريتي ووالدي يعيشُ في القرية، وأهلي كلهم يعيشون في القرية، الموتى والأحياء، وأنا أكتبُ عمّن أعرفهم وعمّا أعرفه في حقولنا وفي قرانا، وأعتقد أن الدكتور لويس عوض لم يعرفْ الفلاحين كما ينبغي، وربما لم يعرفهم على الإطلاق، ولن يعرفهم وهو معذور طبعاً بحكم عمله، فلعله لم تتح له فرصة أن يُعايش الفلاحين، لأنه يعيش في المدينة على الدوام، وأنا مستعد على أية حال لاستضافته في قريتي أية مدة يشاؤها شهوراً أو أعواماً، ليتعرفَ على الفلاحين الذين أكتبُ عنهم.
الشعور بالوحدة والاغتراب
كتب عبدالرحمن الشرقاوي أيضاً قصائد الشعر وهو لا يزال شاباً يافعاً أثناء دراسته بالجامعة، مُتأثراً بالملامح الشعرية عند المدرسة الرومانسية مثل جبران خليل جبران وخليل مطران وإيليا أبو ماضي الذين عشقوا جمال الطبيعة، وبخاصة منظر الغروب عند شاطئ البحر كل مساء، ويفعل الشّرقاوي ما فعلوه، فيقف وحده علی الشاطئ في القصيدة التي كتبها عام 1948م، وهو في مستهل شبابه يُناجي البحر قائلاً:
دَبَّتِ الفرحةُ مِن حَولي في كلِ مكانٍ
العَذاری يتهادينَ بأَحلامِ الزمانِ
والْربيعُ الأَزرقُ الضّاحكُ يشدو والأَماني
غيَر أَنيّ ذاهلٌ أنظرُ في كُلَّ مكانٍ
ثم يشعر بالوحدة والغربة فيبحث عن مرفأ يرسو عليه، فلا يجده ويتمنى الموت راحةً وخلاصاً من متاعب الحياة، فيقول:
فإذا ماتَ في غدٍ فدَعوه
آمنَ الصمتُ تحتَ جنحِ ضَبَابِه
شيّعوا نعشَه الوضيء بلحنِ
ضاحكُ المجتلي كلحنِ شبابِه
وَضعوا فوقَ قبرِه من جَني الْحقلِ
ومِن زهرِه وأعشابِه
إنَّه عاشَ عمرَه يعشقُ الْحقلَ
ويسلو بالخمرِ مِن أعنابِه
التجديد في الشعر العربي
بعد القصائد الرومانسية الكثيرة التي كتبها عبدالرحمن الشرقاوي وضمنها ديوانه الأول، كتب قصيدته الرائعة الشهيرة (من أب مصري إلى الرئيس ترومان) عام 1950، والتي عدّها كبار النقاد والشعراء تجديداً في الشعر الحديث، وبداية التحرر من الشعر العمودي، حتى أصبح الشرقاوي واحداً من أهم رواد التجديد في الشعر العربي، حيث كان من أوائل من كتبوا شعر التفعيلة في نهاية الأربعينات، شهد بذلك الدكتور عبدالقادر القط، والدكتور محمد مندور، والشاعر أمل دنقل الذي كتب قائلاً: إن عبدالرحمن الشرقاوي هو رائد الشعر الحر الأول في مصر، حيث أن قصيدته الشهيرة: من أب مصري إلى الرئيس ترومان، هي الوثيقة الشعرية الأولى التي أعلنت ميلاد هذا الاتجاه.
هذه لمحات يسيرة من سيرة الكاتب المُستنير عبدالرحمن الشرقاوي الذي حمل شعلة النار وسار بها على الطريق حتى يهتدي به كل الشعراء والأدباء الذين يريدون تسجيل ما يكتبون بأحرف من نور في سبيل ترسيخ قيم العدل الاجتماعي حتى تسود وتنتشر بين الناس جميعاً، نتذكرها ونحن نحتفل بمرور مئة عام على مولده.

ذو صلة