في الماضي كان مجتمع الباحة (300 كلم جنوب مكة) يتركب من شريحتين، الحضر الذين يحترفون الزراعة وعلى هامشها تربية الحيوان وحرف خدمية أخرى مثل الحياكة والنجارة والتجارة وتصنيع الحلي وصيانة الأدوات المنزلية أو الزراعية، مستقرون متشبثون بالأرض أكثر ميلاً للمسالمة، لهم مجموعة من آليات التعامل مع الآخرين كالتحالف الجماعي والتحالف الفردي، والتحالف يرتفع بالعلاقة بين المتحالفين إلى مرتبة شفيفة من الإخاء والتعاون واحترام الآخر حتى بات التسمي بأسماء القبائل النابهة في حينه عادة مستحبة عند الناس فتجد من الأبناء من يكون اسمه: عتيبي، نسبة إلى عتيبة وهو ليس منها، وحربي نسبة إلى حرب، وتركي نسبة إلى الأتراك، وخبتي نسبة إلى الخبوت بين نجود تهامة وسيف البحر، وحبشي، ومصري، وشامي، ويماني، ومغربي، وعصبي، وغيرها.
ومن تلك الآليات سن القوانين التي تقيم موازين العدل في الداخل والخارج، ولقد اطلعت على مخطوط العوائد العاركة الداركة بين قبائل غامد وزهران، حوى تنظيمات منها الداخلي ومنها الخارجي، والفردي والجماعي، وفيها المكافأة والعقوبة. وعولوا كثيراً على الشعر في تبسيط تلك القوانين وإشاعتها كما كرسوا له ليصبح حكماً يفصل في كثير من منازعاتهم وكم نزع الشعر من فتائل كانت قاب قوسين أو أدنى من الاشتعال.
ولأن العمل الزراعي شاق ومتشعب فقد ارتفعت قيمة الواحد، لا فرق بين صغير وكبير ولا بين ذكر وأنثى، ولذلك كانت المرأة موجودة في الحقل جنباً إلى جنب مع الرجل، مثلها مثل كل النساء في المجتمعات الزراعية، مكرمة معززة، ترتاد الأسواق وتعمل في الحقل وتشارك في الألعاب التي تجمعها بالرجل، تقول الشعر وترويه وتبدي الرأي، وقد جاء في أمثالهم: خذ الشور من تحت الضفائر.
ومثلما احتاج المجتمع الزراعي لكل أفراده فإن الضرورة قادت لشيوع الرق، وهو وإن لم يكن بالتوسع الذي ظهر في أقاليم أخرى إلا أنه قد أوجد طبقة عرفت باسم العبيد، وكانوا من الرقيق الأسود الذين يواجهون صعوبات في النطق وفي البديهة بسبب البيئة الجديدة التي وجدوا أنفسهم فيها، مما أولد حالة من التفكه والتندر على أولئك العبيد دون إلحاق أدنى ضرر جسدي بهم، بل كانوا - للحق - يشاركون القبيلة أفراحهم وأتراحهم وكان لبعض الأرقاء من الفطنة ما يؤهله لإبداء الرأي في قضايا كبيرة.
أما الشريحة الثانية فهم البدو الذين يحترفون الرعي وعلى هامشه نمط من الزراعة البدوية تقوم على بذر الأرض والرحيل عنها خلف القطيع إلى أن يحين موعد الحصاد فيأتيها ليحصد ما يجده فيها، أما الخدمات فإن البدو يحصلون على حاجتهم منها بالوفود إلى أسواق الريف التي تعارفوا على تسميتها بالمَهَجَر.
ارتباطهم بالأرض يخضع لمواطن الكلأ التي تأخذهم إلى ديار أخرى تخضع لسيادة قبائل أخرى، هذا الحال قد وطن النفوس على تقبل الجار ذي الجنب أولاً، ثم الجيران الأباعد، ثم كل الناس وتطور الحال إلى أن قال مثلهم البدوي: رد السلام على الخشب القيام. والمرأة كانت حاضرة في المجتمع البدوي، فهي ربة بيت وهي مشاركة في العناية بالحيوان، تقول الشعر وتطلب الرأي وتعطيه، وقد تشارك في القيادة وما أكثر الأمثلة على ذلك.
ولاحقاً اجتاح التمدن تلك الجهات، فتضاءلت الحرف التقليدية تحت وطأة الوظائف الحكومية (الأفضل دخلاً وراحة) وانتشر العمران الحديث الأكثر رفاهية وتوسعت طرق المواصلات حتى قضمت أجزاء واسعة من الأراضي الزراعية فتغير المشهد العام في الريف، وتغير المشهد العام في البادية وترك ذلك أثره على العلاقات بين أفراد المجتمع الذين تباعدوا كثيراً وأغلقوا أبواب منازلهم التي كان إغلاقها من أكبر العيوب بالأمس.
أما المرأة فقد وجدت نفسها أمام رجال شرعوا في مراجعة موقعها داخل المجتمع على ضوء عدم الحاجة إليها بعد تعطيل البيادر وازدحام الطرقات بالأغراب، فوجدوا في مراجعهم ما يؤيد تغييبها عن المشهد الذي طالما ملأته باقتدار خلال العصور الماضية ووجدت نفسها لا تكاد تستبين مواضع أقدامها وإن كانت خطط الدولة قد ضمنت لها الوظائف الحكومية التي تناسبها والمدارس الخاصة بها ودخلت مجلس الشورى محجبة وتخوض انتخابات المجالس البلدية وتقود السيارة بالحجاب نفسه.
أما الأرقاء فلم يعد هناك من عبيد في المنطقة بعد تحرير الأرقاء، تلك المبادرة الإنسانية التي اكتملت مراحلها منذ ما يزيد على نصف قرن من الآن وأصبح الرق بعدها أثراً بعد عين، وحتى العبيد الذين تحرروا تم دمجهم بسهولة في المجتمع، ومع نباهتهم وارتفاع المستوى التعليمي لدى عامة الناس لم تعد النظرة لهم كما كانت، بل لم يعد يفرق بينهم وبين عامة الناس أية فوارق على الإطلاق.
الآخرون في الحكي الشعبي
في أسطورة جبل قاف هناك بشر وكائنات أخرى ورب واحد، البشر والكائنات الأخرى يعيشون في الجبل وعلى سفوحه وفي البحر المحيط بالجبل، والماء يصل للجميع ما دام الحب بينهم فلما سيطر دعاة الشر وشاعت الكراهية انقلبوا على الحب فغارت مياه الجبل ثم انهدم.
وفي حكاية ديرة بني كلب تأمن المرأة وابنتها على نفسيهما بصحبة غرباء ذاهبين للحج، لكنهما ولسبب ما ضلتا الطريق فدخلتا ديار بني كلب (الحيوان المعروف) وحدث الزواج بين ابنة تلك المرأة وبين كلب من بني كلب، فذبحوا أمها لإطعام الضيوف، وعندما اكتشفت ذلك قررت الهرب، لكنها تأخرت كثيراً حتى حملت وأنجبت، ولما تيسر لها الهرب ابتعدت عن ديار بني كلب ودخلت في ديار بني آدم فأكرموا نزلها ونامت مع صاحبة الدار وأطفالها، لكنها استيقظت على مشهد ابنها (ابن الكلب) وهو يفترس طفلاً من أطفال مضيفيها.
وفي حكاية بسيس عمار كان تنقل عمّار من قرية الخليف إلى مكة المكرمة ثم إلى بلاد الكجرات بالهند تنقلاً ميسوراً، وكان يحظى باهتمام الآخرين، وحتى في بلاد الكجرات (الآخر الدولي) كان يجد من يجاوب على أسئلته، ووجد فرصته كاملة في الاستباق للفوز بالزواج من ابنة السلطان، ففاز وتزوج بابنة السلطان الهندي، بل وورث مملكته أيضاً.
في هذه الحكايات الثلاث، كان الإنسان حاضراً، تتساوى أكتاف البشر أمام بعضهم. وفي أسطورة جبل قاف كان التذكير بأن الحياة تقوم على خالق وكائنات وحب، وعندما انهار الحب انهار الجبل معه، أما في حكاية ديرة بني كلب فإن الحسرة تأتي مع الانتقال من عوالم الناس إلى عوالم اللاناس وستبقى، حتى لو نفذ المنتقل بجلده. وفي حكاية بسيس عمار تأكيد على تساوي الناس أمام بعضهم وتمرر ذلك الوضع دون تكلف لأن التآخي من طبائع الحياة.
الأنثى والرجل في الحكي الشعبي
في حكاية (أبو قطنة) تظهر المرأة بمظهر المتدينة شديدة التدين التي ينهزم تدينها تحت وطأة إغراء بضائع بائع حاجيات النساء، لقد نسيت زهدها وامتدت يدها لتسرق مشطاً ومكحلة، لكن تطور الأحداث يقودنا إلى رجل بنفس مواصفات تلك الأنثى ويرتكب سرقة أيضاً! رجل زاهد لكنه سرق نعامة حاكم المدينة!
وفي حكاية حوتان تبدو الأنثى شريكة لزوجها المحتال فقد أعطته عنزتها ليذبحها ويستخدم أمعاءها في تنفيذ ألاعيبه، كانت تدرك ما يفعل زوجها بالناس ومع ذلك تقاسمت معه الجرم وكان أقصى همها أن تأخذ ثمن عنزتها وليذهب الضحايا إلى حيث ألقت.
وفي حكاية بني كلب كانت الأم ضحية جهلها بالطريق إلى مكة، لقد تخلفت عن عصبة الحجاج انتظاراً لابنتها التي توقفت لقضاء الحاجة، لكن الركب ابتعد فنقلتهما أقدامهما إلى ديار غير آدمية فقدت الأم فيه حياتها وحملت البنت المسكينة بذرة شر في أحشائها.
أما حكاية شعرة الجعير فقد قدمت الأنثى الغيورة على زوجها الباحثة عن أسباب السيطرة عليه، ومن حسن حظها فقد وقعت في يد رجل أمين حكيم، لم يشأ أن يستغل حاجتها ولم يشأ أن يتركها تذهب دون أن تأخذ درساً في الحياة الزوجية.
وفي حكاية (يا خالي المخلخلة) نجد المرأة في صورتين مختلفتين، زوجة الأخ الشريرة التي توقع بأخت زوجها اليتيمة، والأخت اليتيمة الصابرة التي تخالط بعض الحيوانات وقد حملت حملاً تفترضه القصة ولا يقوم على قوانين الحمل المعروفة.
وفي حكاية البنت السعلية تظهر الأم التي تتمسك بابنتها رغم خطورتها، وتظهر البنت السعلية وهي تهرب نحو الغابة لما أدركت انكشاف أمرها، وفي الغابة تجتمع إلى سعلي هرم وفر لها الحماية ووفرت له الخدمة وعندما مات حزنت عليه كثيراً وبكت على قبره حتى أنبتت دموعها شجرة أركوض، فلما أثمرت تلك الشجرة ظهر في كل زهرة من زهورها سعلي صغير.
وفي حكاية الأخوات الثلاث نجد الحسد يشتعل في قلب اثنتين منهن فيتآمرن على الثالثة، وعندما تقع المسكينة في يد سعلية الغابة تواجه قدرها بالصبر ثم بالحيلة حتى استطاعت أن تطيح بالسعلية وزوجها السعلي قبل أن يفترساها في يوم العيد.
وفي حكاية جلاجل تبدو الأنثى عملية نشيطة لكنها وقعت في حبائل السعلية بسبب ثرثرتها، غير أنها قد واجهت السعلية بالذكاء، مستغلة فارق السن بينهما متظاهرة بأنها لم تتعرف عليها، وقد كان لها ما أرادت فنفذت بجلدها.
في هذه الحكايات جميعاً كانت المرأة كائناً مثلها مثل الرجل، تضعف وتحتال وتضيع وتغفل وتَظْلِم وتُظْلم وتحب وتكره وتتورط وتستخدم عقلها أيضاً، وهذا من طبائع المجتمعات الزراعية التي تربي الأنثى لتكون عضواً فاعلاً في مجتمعها، ولذلك كانت المرأة حاضرة في كل الحكايات الشعبية ضمن مسار آدمي طبيعي لا خلل فيه.
طبقات الناس في الحكاية الشعبية
ظهر الغني في حكاية وادي شباعة عصامي النشأة بنى ثروته فداناً فداناً، كما تظهره محسوداً (هناك من يتمنى زوال نعمته) ويظهر أبناؤه في الحكاية أقل حنكة وأقل دراية بحقائق الأمور. أما الرقيق فقد ظهرت لهم صور متباينة، ففي حكاية البئر ظهر غباؤهم لدرجة أن انعكاس صورة القمر في أسفل البئر قد أغراهم بالنزول لالتقاطه من هناك فماتوا غرقاً واحداً بعد الآخر، بينما نجدهم في حكاية مسعود ومسعودة أكثر شيطنة وأكثر احتيالاً، وفي حكاية عبد الشيخ ظهر أحدهما لبقاً بينما ظهر الآخر عديم اللباقة.
شيخ القبيلة يظهر في حكاية (القِراعة) حاكماً منحازاً لأقاربه، يجلب لهم النفع على حساب البسطاء، وتظهر الناس أيضاً وهم يعلقون آمالهم على صلة القربى مع الشيخ ليكون مفتاحاً لخير يخصهم دون غيرهم.
أما الصناع فقد ظهر عدم إلمامهم بالعمل الزراعي وبالعمل الرعوي، ويبدو أن قصة (ولد الصانع) قد كتبها مزارعون ليظهر ولد الصانع متورطاً في مواقف صعبة متخذاً تجاهها بعض الحلول التي تدعو للضحك والتندر على فئة الصناع، فهو عندما (مرّست) بكرة البئر بادر إلى قطع الرشاء فسقط الغرب من علٍ وانبتّ المقاط فتردت الثيران والسائق الذي يسوقها.