مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

قـربان الديك الأسود

القمر ليلتها كان بدراً، أخذت العشاء لجدك في الغيط مثل كل يوم، أذهب إليه بالعيش الطري المخبوز في فرن البيت، والجبنة والبيض والبصل، أجمع القشدة يوماً بعد يوم وأصنع منها السمن البلدي والعجوزة، كنت أحب أن أراه وهو يشرب لأسمع زغردة الماء من شفاه القلة الفخار وجريان الماء البارد على رقبته وصدره بعد لقمة هنيئة، وحينما يعيد القلة مكانها على شجرة النبق أحس أبي أطول رجل في البلد.
(وقيد الطابونة) و(الكوانين) أصنعه بيدي من الأقراص التي أجمعها من روث الجواميس، و(قلاويح) الذرة الشامية بعد أكلها، نخزنها كالفحم.
كنت أغني (يا أمه القمر على الباب) وأنا أسير على حرف الأرض، شعرت بخطوات تتبعني، توقفت، التفت فلم أر أحداً، عيدان الذرة عالية ولها هيبة، انقبض قلبي لكن أبي على مرمى بصري فأحسست بالأمان، أمام شجرة الجميز العامرة بالشهد، رأيتها بعيني!
- ماذا رأيت يا أمي؟
- أرانب! أرانب كثيرة تلعب، قلت: (رزق أرسله الله)، وضعت الصينية على الأرض، شمرت جلبابي الواسع وجعلت له حجراً مثل إناء، حاولت الإمساك بأرنب أو أكثر، أرانب بيضاء وسوداء، ظللت أقبض على أرنب بعد الآخر وأضعه في حجر جلبابي العميق، أمسكت أربعة أو خمسة لم تحاول الهرب مني، كاد قلبي الصغير ينفجر من الفرحة، أغلقت حجر الجلباب، أقعيت وحملت صينية الأكل بيد واحدة ووضعتها على رأسي ومضيت إلى البيت، كنت أمشي خفيفة كفراشة دون أي شعور بثقل الأرانب في حجري.
عندما وصلت طرقت الباب بعجيزتي، سألتني جدتك: ماذا تحملين في حجرك يا زينب؟
قلت لها: أرانب يا أمه.. أرانب!
أمي لطمت خديها وصرخت يااا مصيبتي. ظللت طريحة الفراش عدة أسابيع، حلاق الصحة عجز عن معالجتي من الحمى الغريبة التي ظلت في جسدي، الشيخ مروان الكفيف جارنا قرأ سور قرآن كثيرة.
الحاجة مريم أعدت لي حجاباً وأمرت أمي بعمل (تبييتة بعد تبييتة) وقدمنا قرابين، ذبحت أمي ديكاً أسود وطلت وجهي وبطني بدمه الساخن، أشعلت شموعاً، وضعتها مع حلوى ولبن وعسل وورد أسفل السرير، رأيت الموت بعيني أياماً طويلة ولكن الله أنجاني.
- هل حدث لك شيء غريب بعدها يا أمي؟
- نعم. ذات ليلة بعد زواجنا أنا وأبيك بثلاثة أعوام، رأيت امرأة بلا ثياب تمشي في صالة البيت باتجاه الحمام.
ضوء لمبة الجاز الوحيدة لم تجعلني أشك أنني أنظر بعيني إلى امرأة فائقة الجمال، شعرها الذهبي يغطي ظهرها كله ويستر عجيزتها تماماً.
كنت أرضع أخاك ضياء، لم أنطق بحرف تجمدت عيناي عليها وصوت أنفاسي يتسارع ونبضات قلبي تنتفض ورعشة تهز جسمي كله، قالت لي بلهجة واضحة: لا تنظري لي! كنت متيبّسة كـ(كوز ذرة) تحمص في الشمس، كنت مشلولة لا أستطيع تحريك أصبع أو رمش، فوهة (لمبة الجاز) أخذت تفيض (بالهباب) كمدخنة فرن كبيرة، الدخان الأسود ظل يتعاظم حتى أظلم البيت، عندما أفقت لم أجد ضياء على صدري، أخذت أفتش في أركان البيت كالمجنونة وأنا أبكي: (يارب).
ظللت أبكي وأتوسل، طلبت السماح، نحيبي الهادر هز (حيطان الشقة) دون أن يسمعني أحد، فتشت تحت السرير، بحثت عن أخيك في الحمام، فتحت الدولاب ضلفة.. ضلفة وأخرجت ثيابي وثياب أبيك، ولم أجد لأخيك أثراً، قعدت على الأرض وأخذتك في حجري وأنا أبكي وأملي في ربنا لم ينقطع. بعد ساعة أو ساعتين، الدخان تلاشى، وذابت العتمة، سمعت صوت بكاء أخيك باهتاً وضعيفاً، تتبعت الصوت، وجدت ضياء محشوراً بين كتف الدولاب والحائط، أخرجته برفق ضممته في صدري وظللت (أبوسه) وأبكي وأنا آخذ أنفاسه في أنفاسي قبل أن أهوي على الأرض ساجدة لله.

ذو صلة