مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

أطفالنا والابتعاث

تسعى المملكة من خلال العديد من مسارات الابتعاث الخارجي، التي تهدف إلى تحقيق متطلبات التنمية الشاملة وفق رؤية (2030) بتأهيل الطلاب والطالبات في مؤسسات تعليمية عالمية في العديد من التخصصات. ونلاحظ تأثير ذلك على ازدياد نسب الكوادر السعودية المؤهلة على أعلى المستويات لسوق العمل في الوقت الحالي.
ونظراً للإقبال على برامج الابتعاث، فهناك العديد من البرامج التي تساعد على تأهيل المبتعثين سواء من ناحية اللغة أو الاندماج في بلد الابتعاث. كما نجد الكثير من الجهات التي تعمل على تثقيف ومساعدة المقبلين على الابتعاث، في الإجابة عن أسئلتهم أو تقديم محاضرات عن بُعد أو عبر مساحات على تويتر، لتوضيح كل ما يخص الابتعاث، وتأهيل المبتعثين وتزويدهم بالمهارات التي يحتاجونها خلال رحلتهم الدراسية.
لكن على الرغم من كل هذه الجهود المقدمة إلا أنه من خبرتي، كوني مبتعثة ومتطوعة في استقبال الطالبات المبتعثات في مدينة شيفيلد بالمملكة المتحدة، فقد لمست القصور في تأهيل الأطفال لمرحلة الابتعاث على الرغم من أنهم جزء مهم من رحلة الابتعاث. من جانب آخر، فقد يكون التحدي بالنسبة لهم أكثر صعوبة، سواء من حيث حاجز اللغة أو المجتمع وغيرها من الصعوبات. بالإضافة إلى صغر سنهم وقلة تجاربهم.
من خلال تجربتي وتواصلي مع الأمهات في بلد الابتعاث، فهناك عدد من الأسباب خلف القصور في تأهيل الأطفال، السبب الأول هو انشغال العائلة في التجهيز لرحلة الانتقال إلى بلد الابتعاث، والضغوطات التي تصاحبها. ثانياً: غالباً ما يكون نقل الخبرات بين الأمهات عند السؤال عن تجارب السابقين جملة اعتدت على سماعها قبل بدء رحلة الابتعاث، وهي (الأطفال يتكيفون بسرعة ويكتسبون اللغة بطريقة أسرع)، على الرغم من أن نتائج دراسة الباحثة السعودية جيهان ترنقانو بجامعة يورك في تخصص اللغويات، أشارت إلى الصعوبات اللّغوية الكبيرة التي يواجها الأطفال، وما يترتب عليها من آثار نفسية وتحديات قد تؤثر على الأطفال بشكل سلبي. ولما لتأهيل الأطفال من أثر إيجابي ينعكس على سرعة تكيفهم وزيادة دافعيتهم للتعلم، وخفض القلق والتوتر الذي قد ينجم عنه تغيير البيئة الاجتماعية والمادية، لذا أصبح هناك الآن بعض المبادرات التي تناولت هذا الموضوع، لتعويض قصور المنصات الإعلامية، ولتسليط الضوء على هذا الجانب، ولما لمسته من الحاجة إلى تأهيل الأطفال والأمهات عند الوصول لبلد الابتعاث، مثل مبادرة (طفلي) والابتعاث في نادي (نيوكاسل) ونادي (لندن). لكن على الرغم من هذه الجهود أجد أنه من الواجب أن يكون هناك برامج لتأهيل العائلة قبل وصولها لبلد الابتعاث، لتوضيح الصورة للعائلة والأطفال، فقد لاحظت أن معظم العائلات تصل وتكون الصور بالنسبة لهم ضبابية فيما يخص نظام التعليم، وبالتالي يكون فهم كل الإجراءات التي تواجه المبتعثين مع أطفالهم من حيث آلية التسجيل ونظام التعليم، طريقاً يحقق لهم الطرق الصحيحة لدعم أطفالهم أكاديمياً واجتماعياً ونفسياً، بالإضافة لما يعود على الأطفال وأسرهم من سرعة التكيف، ولذلك فإن تكاتف القنوات المختصة في سد القصور بهذا الجانب تسهم في جعل رحلة الابتعاث ذات فائدة أكبر تعود على مستوى العائلة، وليس المبتعث وحده.
يمكن تقسيم مراحل دعم الطفل في بلد الابتعاث إلى أربع مراحل:
1 - مرحلة ما قبل الابتعاث: في هذه المرحلة تكون الصورة غير واضحة للطفل، لذلك قد يراوده الخوف من المجهول، وللعائلة دور مهم في هذه المرحلة يمكن توضيحه في النقاط التالية:
- توضيح الصورة للأطفال بنقاش واع بحيث لا تصور لهم أن الحياة ستكون سهلة، فيصدم الطفل بما قد يواجهه من صعوبات، ورسم صورة ذهنية دون المبالغة في عرض التحديات، وشرحها للطفل بكل موضوعية.
- الإجابة عن كل تساؤلات الطفل سواء من ناحية الدراسة أو المجتمع الذي سينتقل إليه وعاداته، ومعلومات عن المدينة التي سيعيش فيها.
- قد يجد الطفل صعوبة في التأقلم مع اللغة أو مع اختلاف الطقس أو صعوبة إيجاد أصدقاء، ضع كل الاحتمالات أمامهم وحاول مناقشتهم في الحلول المقترحة، لتفادي هذه الصعوبات، وكن على ثقة أن أطفالك سيبهرونك بما يقترحونه من حلول إن أعطيتهم الثقة.
- جرِّب أن تشاهد مع أطفالك مقاطع على اليوتيوب عن المدينة، وتحدَّث عن طبيعتها، شاركهم الصور التي تشاهدها على الإنترنت عن تلك المدينة.
- قم بقراءة كتب متخصصة لتعرف كيف تهيئ أطفالك من حيث اللغة، وما هو الدعم الذي يجب أن تقدِّمه حسب مستوى لغة أطفالك.
- أخبرهم أن كونكم عائلة فأنتم قادرون على دعم بعضكم البعض، لتحقيق هذا الهدف، وأن هذه الصعوبات ستضيف لشخصياتهم الكثير من الاستقلالية والنضج.
- بثّ فيهم الأمل وأخبرهم أن الله سهَّل لهم هذه التجربة، لأنه يعلم أنهم قادرون على الاستفادة منها، وتجاوزها، وأن صبرهم ومثابرتهم لها ثمار جميلة على مستقبلهم.
- لا تنس أن الدعم النفسي هو الأفضل للمحافظة على ثقة أطفالك بك في المرحلة القادمة، ولعل من أهمها الحوار.
- أنت مصدر الأمان الوحيد لهم في الغربة، ولعلها فرصة لتصبح أقرب من أبنائك، فحاول أن تستفيد من التجربة بكل الطرق، وكن إيجابياً.
- شرح الظروف لعائلتك يجعل العائلة أكثر تفهماً لبعضهم البعض في حال وجود أي ضغط.
2 - مرحلة الوصول لبلد الابتعاث: في هذه المرحلة يعتبر التأكيد على الاستقرار النفسي أولى من الاهتمام بمستوى الطفل الأكاديمي:
- تذكَّر أنها ليس تحد سهل على الأطفال، فضع نفسك مكانهم، وحاول أن تشعر بما قد يشعروا به، وتخيَّل ما يمكن أن يجعلك تشعر بالأمان لو كنت مكانهم، وقدِّمه إليهم.
- اقرأ تجارب الآخرين واحذر السلبية منها، ودوماً حاول أن تجعلهم يشعرون بالثقة بأنهم يستطيعون تجاوز ذلك.
- ذكِّر أطفالك أنهم سفراء لوطنهم ودينهم، لذلك عليهم أن ينقلوا صورة جيدة عن وطنهم بسلوكياتهم وتعاملهم مع الآخرين.
- يجب أن يستمر الحوار والدعم من العائلة بشكل دائم، حتى يشعر الطفل بالاستقرار النفسي خصوصاً في المرحلة الأولى عند الوصول لبلد الابتعاث، فقد يعاني الطفل ولكنه يفضل الصمت، ولكن بتشجيعه على الحوار يكون في ذلك مساعدة ودعماً له حتى يستطيع التكيف بشكل أسرع مع المجتمع.
- حاول مشاركة الأطفال في الأنشطة الخارجية التي تدعم اندماجهم مع البيئة حسب هوايات الطفل، مثل لعب الكرة أو منطقة الألعاب في الحدائق، بالإضافة إلى الالتحاق ببعض الأنشطة، كتعليم الرسم أو البرمجة حسب ميول الطفل، ليكون تعلّم اللغة والتعود عليها في بيئة يشعر الطفل فيها بالراحة والترفيه.
- التواصل مع العائلة في السعودية بشكل دائم، والذي أصبح -بسبب التكنولوجيا- أمراً في غاية السهولة، فالتواصل مع العائلة يقلِّل من شعور الغربة لدى الطفل.
- حضور اجتماعات النادي السعودي في مدينتك، أو تكوين مجتمع سعودي تتواصل معه بشكل دائم، يُشكِّل حماية تُبعِد شعور الغربة عن الطفل.
3 - مرحلة الاستقرار: في هذه المرحلة يكون الطفل قد وصل إلى مرحلة الاندماج في المجتمع، والتكيف في البيئة المدرسية وتكوين الأصدقاء:
- تحتاج إلى دعم أكاديمي للطفل بتقديم المساعدات التي يحتاجها بمتابعة مستواه الدراسي بشكل شخصي، أو بالاستعانة بمراكز للدروس الإضافية أو مدرسين في المنزل أو المواقع التي تقدِّم مدرِّسين بالساعة، لمساعدة الطفل على تجاوز أي صعوبات أكاديمية.
- دعم الطفل في تكوين الصداقات، مثل استضافة الأطفال وزيارتهم تحت إشراف الوالدين، مما يعطي الطفل ثقة أكبر بذاته، ويساعد على تبادل الثقافات، وتفعيل دور الطفل كسفير لوطنه بكل قيمه ومبادئه وكرمه، لذلك شجِّع طفلك أن يترك بصمته المشرِّفة عن وطنه ودينه.
4 - مرحلة التهيئة للرجوع للوطن: في نهاية هذه المرحلة يصبح وقت عودة الطفل للوطن محملاً بكل الخبرات والتجارب المعرفية والاجتماعية والنفسية، وهي مرحلة انتقالية تحتاج إلى:
- دعم طفلك وتفهُّم مشاعره عند توديع أصدقائه الذين ارتبط بهم لسنوات، وهو الآن مجبر على مفارقتهم، ورغم أنه سيعود لوطنه وأهله، ولكن يجب احترام مشاعر الوداع التي قد يشعر بها الطفل في هذه المرحلة.
- توضيح الاختلافات التي سيواجهها في المرحلة القادمة خصوصاً من اختلاف نظام التعليم ولغته.
- الحذر في اتخاذ قرار اختيار المدرسة حسب نظام التعليم المتَّبع فيها (عام، دولي، عالمي) بحيث لا يؤثر على مستقبل الطفل، وتوضيح القرار للطفل، وشرح أسباب الاختيار.
- الاستماع لآراء الطفل للمرحلة القادمة، بحيث لا يكون هناك تأثير سلبي على مستقبل الطفل أو استقراره النفسي الذي قد يكون أسهل في هذه المرحلة، كون الطفل سيعود إلى وطنه وعائلته.
أخيراً، أتمنى أن يكون هذا المقال قد قدم صورة واضحة للمقبلين على الابتعاث، في تهيئة أطفالهم لهذه الرحلة المهمة في حياة العائلة، بإعطاء طرق عملية سهلة التطبيق قبل وأثناء وبعد العودة. وأدعو المنصات الإعلامية للقيام بدور أكبر في هذا المجال، لما له من أهمية بالغة وحاجة ماسَّة، ويعود على أطفالنا ووطننا بالخير والنفع والفائدة.

ذو صلة