مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

عالم الأفكار وجدلية العالم الثقافي

واجه العالم وما يزال يواجه مشكلة عالم الأفكار، هذا المشكلة التي تعد الركيزة الأساس في النهضة والتقدم، ولعل ما أحدثه الوحي من تغيرات جذرية في العالم الإسلامي خير دليل، فمجيء الوحي هو مجيء فكرة أصيلة مصدر الله عز وجل والمتمثلة في القرآن دستور الأمة الإسلامية، فلماذا إذن قد أصابنا التراجع الحضاري؟ وما السبيل للخروج من النفق المظلم؟ نتوقف مع المفكر مالك بني وقراءته الخاصة لمشكلة عالمنا الإسلامي انطلاقاً من نقطة جوهرية هي (عالم الأفكار وجدلية العالم الثقافي).
عالم الأفكار
إن عالم الأفكار في نظر مالك بن نبي أسطوانة يحملها الفرد في نفسه عند ولادته، وتختلف هذه الأسطوانة من مجتمع إلى آخر، فالمجتمع الإسلامي تلقى رسالته المطبوعة على هيئة وحي، فانطبعت في ذاتية الجيل المعاصر لغار حراء. فالأفكار المطبوعة على تلك الأسطوانة قد أثارت العواصف في التاريخ الإنساني، فهي في البداية قلبت رأساً على عقب وسطاً بدائياً فوضعت طاقته الحيوية في حدود حضارة، وجعلتها تستجيب لقواعدها وأصولها، لنظامها الصارم.
ففي الإطار المادي (رسمت الرسالة آثاراً جديدة، نتائج اجتماعية جديدة، إنما بالوسائل الحاضرة نفسها، لأن عالم الأشياء لم يكن بعد قد استطاع تغيير وسائله، وهكذا بدت تلك اللحظة فيما فعل المهاجرون والأنصار، إذ وضعوا مواردهم على سواء بينهم ليواجهوا المرحلة الجديدة. وفي الإطار الفكري، لقد أوجدت تلك اللحظة عدداً من المقاييس جديداً في أسلوب التفكير ليلائم أوامر تنظيم جديد وتوجيه لنشاطات مجتمع وليد. وأخيراً في الإطار النفسي أنشأت للطاقة الحيوية مراكز استقطاب جديد). لقد كانت إذن مراكز استقطاب الطاقة الحيوية تتركز حول مفاهيم جديدة، وأفكار جديدة، نماذج مثالية لعالم ثقافي جديد، كانت تتركز حتى درجة الانفجار، وكانت تنفجر في مواقف مأساوية من نوع جديد.
يعطي لنا ابن نبي بعض الأمثلة، رجل يسأل النبي: يا رسول إلي هذا؟ (يعني الآية) فيجيب الرسول صلى الله عليه وسلم (إنها لجميع أمتي)، وفي أخرى تأتي امرأة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لتعترف له بأنها اقترفت خطيئة الزنا، ولم تكن لفة الزنا آنذاك مجرد كلمة بسيطة على الشفاه، كما كانت من قبل. بل كان يتركز فيها كل ما يؤرق الضمير من فظاعة وقباحة، وكانت الشريعة قد وضعت العقوبة لمن يرتكب تلك الخطيئة. يقول ابن نبي معلقاً: (لقد كانت تلك المرأة تدرك إذن ما تُعرِّض نفسها له باعترافها بذلك. لكن فعل العقوبة في جسدها بدا لها أخف من فعل الخطيئة في ضميرها، فتتجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ساعية ثلاث مرات، ويؤجل الرسول صلى الله عليه وسلم الحكم ثلاث مرات كذلك. أجّله في المرة الأولى ليعطي المرأة فرصة التفكير، وفي الثانية كي تضع مولودها، وفي الثالثة حتى تنتهي من إرضاع طفلها. وأخيراً طبق العقوبة التي ما فتئت تطالب بها منذ أن ارتكبت خطيئتها. إن الأحداث المأساوية التي كانت تدور حول مراكز الاستقطاب الجديدة، وحول نماذج المثالية للعالم الجديد لم تكن تعني أصحاب تلك الأحداث فحسب، بل كانت تشمل في توترها جميع أفراد المجتمع). السؤال إذن هل المجتمع الإسلامي يعيش فترة الصمت، صمت الأفكار الميتة؟ أم ما يزال على عهده المجيد؟ سؤال صعب في ظل ما نعرفه في عالمنا الإسلامي من تحديات كبرى خصوصاً من قبل الأجندات التي تريد تشويهنا وتشويه ديننا. لكن ما المطلوب منا؟
إن الوضع المر حسب ابن نبي هو عندما نبدأ إحياء عالم الثقافة المحشو بالأفكار الميتة بأفكار قاتلة مستوردة من حضارة أخرى. هذه الأفكار التي أضحت قاتلة في محيطها، تصبح أكثر فتكاً حينما نستأصلها من ذلك المحيط، لأنها تترك بصفة عامة مع جذورها التي لا يمكن نقلها ترياقاً يتأقلم به ضررها في وسطها الأصلي. يقول ابن نبي: (وفي هذه الشروط كهذه يقتبس المجتمع الإسلامي المعاصر أفكاره الحديثة (التقدمية) من الحضارة الغربية. هذه هي النتيجة الطبيعية لاطراد تَحَدَّدَ في لب المجتمع الإسلامي بجدلية الأشياء والأشخاص والأفكار التي صنعت تاريخه. غير أن الذي لم يكن طبيعياً هو جمود المجتمع الإسلامي وخموله في هذه المرحلة من التطور، وكأنه يريد أن يبقى فيها أبد الدهر. في حين أن مجتمعات أخرى، كاليابان، والصين، بدأت من النقطة نفسها، لكن نزعت عنها ثوب الجمود وهي تفرض على نفسها ظروفاً ديناميكية جديدة، ونظرية تاريخية جديدة). فالمجتمع الإسلامي اليوم يدفع ضريبة خيانته لنماذجه الأساسية. فالأفكار -حتى التي نستوردها- ترتد على من يخونها وتنتقم منه. إنها اللحظة المؤلمة حسب ابن نبي، حيث المسلم منشطر إلى شخصين: المسلم الذي يتمم واجباته الدينية ويصلي في المسجد، ثم المسلم العملي الذي يخرج من المسجد ليغرق في عالم آخر.
إن العالم الإسلامي أضحى عمله التاريخي خارج مقاييس الفعالية، وأضحى تنفيذه في ظل فوضى الأفكار. وإذا وجد هذا العمل نفسه مصطدماً بصعوبات، وإهدار الوقت، وتبديد للوسائل وانحرافات، فذلك ناتج عن عدم التماسك في الأفكار، وطغيان الأشياء أو طغيان الأشخاص. ويرى ابن نبي أن هذا العالم الإسلامي يواجه طغيان الأشياء على أصعدة مختلفة نذكر منها:
أ- على الصعيد النفسي والأخلاقي:
يقول عندما يتمحور عالم الثقافة حول الأشياء تحتل الأشياء القمة في السلم، وتتحول -خلسة- الأحكام النوعية إلى أحكام كمية دون أن يشعر أصحاب تلك الأحكام بانزلاقاتهم نحو الشيئية، أي نحو تقويم الأمور بسلم الأشياء. فالاعتماد على الأشياء من الأكيد أن يجلب الويلات بل يجر إلى أمور قد تكون كارثية.
ب- على الفكري:
هناك أعراض مميزة لطغيان الأشياء، يقول ابن نبي فلا يُسأل الكاتب الذي أنهى كتاباً أي بحث قد عالج وكيف عالجه. إنه يُسأل عن عدد الصفحات، وأحياناً يقع المؤلف نفسُه فريسة الشيئية.
ج- على الصعيد الأخلاقي:
عندما يتجسد المثل الأعلى في شخص ما، هناك خطر مزدوج (فسائر أخطاء الشخص ينعكس ضررها على المجتمع الذي جسّد في شخصه مثله الأعلى. وسائر انحرافات ذلك الشخص تترصد كذلك في خسائر، وتكون هذه الخسارة إما في رفض للمثال الأعلى الذي سقط، وإما في ردّة حقيقية يعتقد عبرها بإمكانية التعويض عن الإحباط باعتناق مثل أعلى آخر. وفي كلا الحالتين فنحن نستبدل دون أن ندري مشكلة الأشخاص بمشكلة الأفكار).
وهنا يرى ابن نبي أن هذا الاستبدال قد سبب كثيراً من الضرر بالأفكار الإسلامية المتجسدة بأشخاص ليسوا أهلاً لحملها. فمن ذا الذي يستطيع أن يجسد الأفكار دون أن يعرض المجتمع للخطر؟ إن خطر التجسيد قد وضعه القرآن صراحة في الوعي الإسلامي بقوله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) سورة آل عمران 144. يعلق ابن نبي قائلاً: (هذا التحذير ليس موجهاً هنا لتفادي خطأ أو انحراف مستحيل من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه من أجل الإشارة إلى خطر تجسيد الأفكار بحد ذاته).
أخيراً وليس آخراً، نؤكد على أنه للخروج من وضعيتنا الحرجة اليوم قبل الغد هو إيجاد حل جذري انطلاقاً من حل مشكلة الأفكار، وذلك بالقطع مع الأفكار الهدامة والأفكار المتطرفة التي تقف في طريق البناء الحضاري، فعالمنا اليوم بحاجة إلى فكر التعايش والتسامح والتعارف والاحترام كي يكون الكون الذي يجمعنا كون السلام والأمن والأمان.

ذو صلة