رفاعة رافع الطهطاوي (1801 - 1873م) هو رائد التنوير في مصر الحديثة، وصاحب مدرسة فكرية أصيلة، بما ترجمه وأنتجه من مؤلفات، حملت الكثير من الرؤى العصرية والأفكار المستنيرة التي ساهمت في نهضة المجتمع المصري وتطوره.
ساعدت الكثير من أفكار رفاعة على نمو مبدأ القومية، والوطنية، إذ عمل الطهطاوي على تنمية حب الوطن والانتماء إليه، ومن الأفكار المهمة التي اهتم بترسيخها بين تلاميذه ومريديه أن (حب الوطن من الإيمان).
آمن رفاعة بضرورة ترقية المرأة، لأنها عماد البيت وتمثل حجر الزاوية في الأسرة، لأنها مسؤولة عن تربية الأطفال وتنشئتهم، يتأثرون بها ويتعلمون منها، لذا فقد نادى الطهطاوي بحق الفتيات في التعليم مثلهن مثل الفتيان، وله كتاب مهم عنوانه (المرشد الأمين للبنات والبنين)، ألفه للتعليم في المدارس، وهو كتاب في التربية والآداب والتعلم والتعليم والتمدن، لتعليم البنات والبنين على السواء، أوضح فيه أهمية تعليم المرأة وتهذيبها، بما يُمثل دعوة مبكرة لتحرير المرأة وترقيتها في مصر الحديثة.
كما آمن بالوحدة الوطنية بين المواطنين المصريين، وضرورة تعاونهم معاً من أجل خير الوطن وصالح جميع أبنائه، ومن الأقوال الشائعة التي تُنسب له: (ليكن الوطن محلاً للسعادة المشتركة بيننا نبنيه معاً بالحرية والفكر والمصنع).
كان الطهطاوي يكتب الشعر، ومن أشعاره قصيدة شعر بديعة يتغنى فيها بحب الوطن، يقول فيها:
يا صاح حب الوطن
حلية كل فطن
محبة الأوطان
من شعب الإيمان
في أفخر الأديان
آية كل مؤمن
ويضيف في موضع آخر:
كل فتى جليل
يعشق وادي النيل
كم فيه من نزيل
يقول مصر وطني
ينتمي رفاعة الطهطاوي، نسبة إلى مدينته طهطا بصعيد مصر، إلى عائلة ضمت العديد من الشيوخ والعلماء الأفاضل، حيث تعلم مبادئ القراءة والحساب والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، ووفد على القاهرة سنة 1817م، والتحق بالأزهر الشريف، وتتلمذ على يد مجموعة من علماء الأزهر في مقدمتهم الشيخ الجليل حسن العطار، وكان رفاعة متفوقاً بين أقرانه.
شارك رفاعة في التدريس بالأزهر الشريف، وفي عام 1824م تعين واعظاً وإماماً بالجيش. ولما أرسل محمد علي باشا، والي مصر ومؤسس مصر الحديثة (1805 - 1848م)، بعثة علمية إلى فرنسا سنة 1826م، وقع الاختيار على رفاعة ليكون إماماً لتلك البعثة للوعظ والصلاة، فتعلم الفرنسية وأتقن الترجمة عنها، وظل هناك لمدة خمس سنوات.
في باريس (1826 - 1831م) كان رفاعة الطهطاوي يقرأ كثيراً ويترجم بعض ما يقرأ، ويُقال إنه ترجم هناك اثني عشر كتاباً، من الفرنسية إلى العربية، منها: نبذة في تاريخ الإسكندر الأكبر، كتاب أصول المعادن، كتاب دائرة العلوم في أخلاق الأمم وعوائدهم، مقدمة جغرافية طبيعية، ثلاثة مقالات من كتاب (لجندر) في علم الهندسة، نبذة في علم هيئة الدنيا، أصول الحقوق الطبيعية، نبذة في الميثولوجيا، نبذة في علم سياسات الصحة، كما ترجم الدستور الفرنسي، وترجم نصيحة لطبيب.
عاد رفاعة إلى مصر سنة 1831م، وعمل مترجماً في مدرسة الطب، كما أشرف على المدرسة التجهيزية للطب (مدرسة المارستان)، ثم انتقل إلى مدرسة الطوبجية (المدفعية) بمنطقة طرة لترجمة الهندسة والفنون الحربية، ثم تولى الإشراف على مكتبة المدرسة التجهيزية وتعليم الجغرافية، وكان مقر المدرسة بقصر العيني قبل أن تُنقل إليه مدرسة الطب.
آمن رفاعة أن الترجمة هي النواة الأولى في بناء النهضة العلمية الحديثة، ومن ثم تولى الطهطاوي الإشراف على مدرسة الألسن، التي تأسست أولاً تحت اسم مدرسة المترجمين، سنة 1835م، ومدة الدراسة بها خمس سنوات قد تزداد إلى ست، فكانت هذه المدرسة مركزاً للثقافة والإشعاع الفكري والتواصل الحضاري والثقافي. وتعد مدرسة الألسن نواة كلية الألسن بجامعة عين شمس، وحين تأسس المشروع (ثم المركز) القومي للترجمة التابع لوزارة الثقافة، في نهايات القرن العشرين، فإن مؤسسيه اعتبروا رفاعة الطهطاوي رائداً للترجمة في مصر الحديثة.
في سنة 1841م تأسس قلم الترجمة تحت إشراف رفاعة الطهطاوي، وتكون في بداية إنشائه من أربعة أقسام: الرياضيات- العلوم الطبية والطبيعية- العلوم الاجتماعية- الترجمة التركية، وفي سنة 1847م أُعيد تنظيمه إلى قسمين: أحدهما للترجمة العربية تحت إشراف رفاعة، والثاني للتركية تحت إشراف كياني بك.
كان الطهطاوي بمثابة المعلم الأول في جيله وبين أقرانه، فقد أضيف إليه تفتيش عموم مكاتب الأقاليم وتفتيش مدارس الخانقاه وأبي زعبل، وكان يرأس كل عام لجنة امتحان تلاميذ مكاتب المبتديان بالأقاليم، يمتحن تلاميذها ويختار المتفوقين منها للمدرسة التجهيزية.
تولى رفاعة الإشراف على صحيفة (الوقائع المصرية)، والتي تعد أول صحيفة مصرية تصدر باللغة العربية، وكان قد صدر عددها الأول في يوم الثلاثاء الموافق 3 ديسمبر سنة 1828م، باللغتين التركية والعربية، حيث تولى رفاعة الإشراف عليها في أربعينات القرن التاسع عشر، وارتقى بها شكلاً ومضموناً، ومن ذلك أنه جعل اللغة العربية على اليمين بدلاً من اللغة التركية، إضافة إلى عنايته بنشر الأدب والموضوعات المتنوعة.
جاء عباس باشا (عباس حلمي الأول) والياً على مصر (1848 - 1854م)، وألغى مدرسة الألسن وكذلك قلم الترجمة، ونقل الطهطاوي إلى السودان بحجة تولي نظارة المدرسة المصرية في الخرطوم، ربما بسبب وشاية تعرض لها الطهطاوي.
عاد رفاعة إلى مصر في عهد سعيد باشا، والي مصر (1854 - 1863م)، وتنقل بين عدة مواقع منها: وكالة مدرسة الحربية ونظارة مدرسة الحربية بالقلعة ونظارة قلم الترجمة.
تولى رفاعة الإشراف على تحرير صحيفة (روضة المدارس المصرية) التي صدرت بالقاهرة سنة 1870م، في عصر الخديوي إسماعيل (1863 - 1879م) المؤسس الثاني لمصر الحديثة بعد جده محمد علي باشا، وكان الطهطاوي آنذاك ناظراً لقلم الترجمة بديوان المدارس، وتولى ابنه علي فهمي بك رفاعة- مُدرّس الإنشاء بمدرسة الإدارة والألسن- مباشرة تحريرها، وكانت مجلة نصف شهرية، معنية بالثقافة والأدب، صدر عددها الأول في يوم السبت الموافق 15 محرم 1287هـ - 9 برمودة 1586ش/ق.
ضمت مجلة (روضة المدارس المصرية) بين صفحاتها مجموعة من أبرز الكُتّاب والمتخصصين في مجالات العلم والثقافة والأدب آنذاك، شعارها يقول:
تعلم العلم واقرأ
تحز فخار النبوة
فالله قال ليحيى:
خذ الكتاب بقوة
كان لرفاعة الطهطاوي تلاميذ كثيرون، برعوا في مجالات شتى مثل: التأليف والترجمة والعمل الأدبي والاشتغال بالصحافة والطب والتشريع، وقد وضع الطهطاوي العديد من الكتب، تأليفاً وترجمة، لتعليم تلاميذ المدارس خاصة ورفع ثقافة القراء عامة، منها: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل، التعريبات الشافية لمريد الجغرافية، الجغرافيا العمومية، قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر، القول السديد في الاجتهاد والتقليد، مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، مواقع الأفلاك في وقائع تليماك، نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز.
رحل رفاعة الطهطاوي عن دنيانا في يوم الثلاثاء غرة ربيع الآخر 1290هـ، الموافق 27 مايو 1873م، عن عمر ناهز نحو 72 سنة قضاها في خدمة التحديث والتنوير.
يقول جولد شميت (الابن) في كتابه (قاموس تراجم مصر الحديثة) عن رفاعة الطهطاوي: (إنه كاتب ومصلح تعليمي.. ركز على التطوير الزراعي، وتعليم البنات فضلاً عن الصبية، وتنمية المجتمع الوطني (الوطن)).