مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

الأمثال الشعبية في السينما المصرية

منذ فجر السينما، تحديداً عام 1895م، عندما وضع الأخوان لوميير كاميراتهما المخترعة أمام أحد مصنعهما، ليصورا خروج العمال، وهو أول فيلم سينمائي في التاريخ؛ لم تفقد السينما علاقتها بالواقع والثقافة الخاصة بالمجتمع الذي تعمل بداخله، فظلت السينما حتى وإن لم يقصد صناعها ذلك قادرة على الإمساك بتلابيب العادات والمعتقدات والعمارة والأزياء والأقوال المأثورة والأمثال الشعبية، بوصفها مفردات ومكونات لثقافة مجتمعها، كيف لا وهي منتج من منتجات هذه الثقافة، ووعاء لها، حتى أقصى الأفلام الخيالية تظل محافظة على علائق ما بهذا الواقع حتى وإن خفت.
المهتم يستطيع بسهولة الاعتماد على السينما وأفلامها للتعرف، بل حتى الدراسة العميقة لواقع المجتمع وماضيه، عبر هذا التفاصيل والمفردات الثقافية الموجودة هنا وهناك في ثنايا الأفلام.
ومن أهم مفردات الثقافة وأدلتها التي احتوتها الأفلام طوال تاريخها الأمثال الشعبية والأقوال السائرة. والأمثال الشعبية تعرف اختصاراً بأنها تعبير لغوي إبداعي موجز عن حكمة أمة من الأمم ورؤيتها لنفسها وللعالم، كما أنها رسالة من الجماعة البشرية لأعضائها حتى تختصر عليهم الطريق وتعفيهم من التجربة وما تحمله من كلفة قد تحدث، ووسيلة تربوية ونمط من الإعلان عما ترتضيه الجماعة وتحتقره.
تعاطت السينما مع الأمثال الشعبية عبر مسارين: المسار الأول هو تضمين الأمثال الشعبية داخل حوار الفيلم؛ أو ما يتعدى ذلك ليكون المثل الشعبي اسم الفيلم، وملخصاً موجزاً لقصته وحبكته السينمائية.
المثل الشعبي على لسان أبطال الأفلام
هنا تكون الأمثال الشعبية جمل حوارية على لسان أحد الأبطال، تعبر عما يجيش بالشخصية أو ردة فعل على ما تتفاعل معه. وربما من أكثر الأفلام تعبيراً عن هذا المسار من تعاطي السينما المصرية مع الأمثال الشعبية فيلم (قمر 14)، وهو فيلم كوميدي بالأبيض والأسود، تم عرضه 3 أبريل 1950، من إخراج نيازي مصطفى وبطولة محمود ذو الفقار وكاميليا، ويحكي عن زواج ابن أحد الباشاوات سراً من ابنة صاحبة بنسيون، التي تعرف بقرار -الباشا- والد زوجها بمصاهرة ابنه بأحد الأثرياء فتدعي العمل خادمة في قصر والده، فيقع الجميع في حبها.
وهنا تظهر شخصية الحماة فردوس محمد التي لا تتحدث سوى بالمثل الشعبي ولا ترد بسواه، في رسم حاذق لنمط ثقافي تقليدي متمسك بثقافة السلف الشفاهية ومنابع حكمته المبثوثة داخل هذه الأمثال، والذي يبدو كان سائداً وقتها، حيثما كان الصراع بين الثقافة التقليدية والثقافة الحداثية المستمر داخل المجتمع المصري منذ الأربعينات.
وهكذا ظل المثل الشعبي مستمراً، ليجد طريقه داخل نسيج الأفلام السينمائية المصرية، ولم ينقطع في تعبيره عن قطاعات تتضاءل مع مرور الوقت، تعتمد على الثقافة الشعبية الشفاهية المتوارثة من جيل لجيل، وفي الحقيقة لن تجد فيلماً أنتجته السينما المصرية يخلو من استخدام المثل الشعبي أو الأقوال السيارة، مثلما لن تجد حواراً مع أحد المصريين يخلو تقريباً من نفس الشيء.
المثل أكثر من مجرد عنوان
وهنا يأتي المسار المهم في اعتماد السينما المصرية على المثل الشعبي، وهو اعتماد المثل الشعبي ليس فقط عنواناً للفيلم، بل يتعدى ذلك لنجد أن الحبكة السينمائية نفسها مبنية على هذا المثل أو معناه أو المناسبة التي طالما ضرب فيها.
بداية السينما المصرية مع هذا المسار كانت مبكرة في تاريخ السينما المصرية منذ الأربعينات، ففيلم (أصحاب العقول) 1940م الذي قام ببطولته بشارة واكيم وبهيجة حافظ وسليمان نجيب، ومن إخراج ألفيزي اورفانيللي؛ يعتمد على المثل الشعبي (أصحاب العقول في راحة)، والمثل يضرب سخرية من الشخص الذي يعطل نعمة العقل ويؤمن أو ينخرط فيما هو غير عقلاني، وهو ما يظهر في قصة الفيلم التي تحكي عن خطاب من أحد المستكشفين الأوروبيين إلى صديقه حمدي بك أنه توجد قبور لمومياء في ضواحي الإسكندرية لم تكتشف بعد، يدعوه حمدي للحضور، ومعه زوجته وبعض من أصحابه، رأى أحد أصدقاء حمدي بأن الضيوف عددهم 13 وهو رقم يتشاءم منه الأوروبيون، فطلب من أحد خدم المنزل أن يقوم بتمثيل دور سلطان بلد خيالي، ولم تكد تمضي 24 ساعة حتى تذهب أحلام الجميع أدراج الرياح، فالمكتشف لم يكتشف إلا غرام زوجته بهذا السلطان، فيغضب لذلك ويترك كل شيء.
إذا كان المثل الشعبي هنا لطبيعته الساخرة قد استخدم بشكل كوميدي داخل حبكة فيلم كوميدي، ففي الأربعينات أيضاً تم استخدام الأمثال الشعبية استخداماً اجتماعياً وتربوياً، كما يجب للأمثال أن توظف، نرى ذلك جلياً في فيلم (من فات قديمه) 1943م، إذ يعتمد عل مثل تربوي معروف في الثقافة الشعبية المصرية (من فات قديمه تاه)، ويضرب في التحذير من التنكر لماضي وتراث الفرد ومحاولة الانخراط في الحديث لمجرد أنه جديد، دون أن يكون لائقاً أو مناسباً. الفيلم يصور عزم عقل باشا على الزواج بعد وفاة زوجته، يحاول ابنه الشاب إثناءه عن هذه الفكرة، لكنه يفشل، فيعقد الأب قرانه على فتاة شابة جميلة، كما هو متخيل تبدأ الفتاة الشابة استغلال زوجها الكبير في السن محاولة إقناعه أن يعين أباها في وظيفة مهندس، في الوقت الذي لا يعرف أبوها القراءة والكتابة، ومع إصرار الفتاة يخضع لها عقل باشا ويعرض الطلب الغريب على مجلس الإدارة الذي يسخر منه ويتهكم من الطلب، مما يدفع بـ(عقل) باشا إلى الاكتئاب والاعتزال في العزبة.
وفي الأربعينات أيضاً تم تنفيذ أفلام: (الصيت ولا الغنى) و(سكة السلامة) 1948م و(على قد لحافك) و(كل بيت له راجل) في عام 1949م.
مع مجيء عقد الخمسينات، وفي العام الأول منه؛ أنتجت السينما المصرية فيلم (كيد النسا)، وهو من تأليف وإخراج كامل التلمساني، ويعتمد في عنوانه وحبكته الرئيسة على المثل، حيث (كيد النسا غلب كيد الرجال)، والفيلم بطولة كمال الشناوي ومديحة يسري وحسن كامل، وتدور أحداثه حول الثري منير الذي يرعى طفلة يتيمة ويعهد بتربيتها إلى امرأة ساذجة في الريف، تكبر الفتاة وتصبح شابة جميلة يحبها منير ولكنها تحب شاباً من سنها، وتبدأ في تلقين منير دروساً في الحياة.
في نفس العام تتحقق الواقعية المصرية، من خلال فيلم صلاح أبو سيف (لك يوم يا ظالم)، وقد كتب السيناريو الكاتب الكبير نجيب محفوظ، بتمصير رواية إيميل زولا الشهيرة تريز راكون، حيث تدور أحداثه في إطار اجتماعي، حول امرأة تنقلب حياتها رأساً على عقب بسبب صديق زوجها المنحرف. حين يطمع الصديق المنحرف بزوجة صديقه وبماله، فيحاول إغراءها وابتزازها، ثم يقتل صديقه حتى يخلو له الجو، ويتزوج الصديق من الأرملة الشابة، ويسرق أموالها وحليها، ومع الأيام يكتشف أمره ويدخل السجن.
بعدها في عام 1952م تنتج السينما المصرية من (القلب للقلب) و(الهوا ملوش دوا) و(اديني عقلك).
عام 1953 العام الأغزر من عقد الخمسينات في إنتاج أفلام تسمى وتصنع وفق المثل الشعبي الذي يعتمد بشكل أساسي الوظيفة التربوية والاجتماعية للمثل الشعبي، حيث يتم إنتاج أفلام (لسانك حصانك) و(مكتوب على الجبين) و(الدنيا لما تضحك)، وكذلك فيلم (قلبي على ولدي)، ثم تنتج (العمر واحد) و(ما حدش واخد منها حاجة) و(من رضى بقليله).
غروب وشروق
حينما تأتي الستينات، يبدو أن الظرف التاريخي والحضاري المهموم بالحداثة والتقدم ومحاولة التطلع للأمام والمستقبل التي أنتجتها الخطابات الرسمية والمشروعات القومية الكبرى؛ قد ألقى بظلاله على السينما المصرية، فبدا ربما على الأقل فيما هو سائد من إنتاج سينمائي هزيمة الماضي وتجاهل التراث قليلاً، فبدت الستينات متحفظة وخالية من إنتاج الأفلام التي تعتمد على الأمثال الشعبية والمأثورات الشفاهية القديمة أو التقليدية، وهكذا ظل الحال في عقد السبعينات حتى عام 1977م، ليحقق صلاح أبو سيف فيلم (السقا مات) من بطولة عزت العلايلي، وأصل العنوان مثل شعبي من حكاية شعبية خرافية وهو (أبوك السقا مات). وفي العامين التاليين (ومن الحب ما قتل) و(أيام العمر محدودة) و(العمر لحظة) و(يمهل ولا يهمل).
لم تعد الأفلام المبنية على مثل شعبي للصدارة مرة أخرى إلا مع إنتاج فيلم (جري الوحوش) سنة 1987م من إخراج علي عبدالخالق وتأليف محمود أبو زيد، ومن بطولة نور الشريف، ومحمود عبدالعزيز، وحسين فهمي، ونورا.
الفيلم المبني على المثل الشهير الذي يضرب في مطاردة الرضا والتعلق بالحمد (يا ابن ادم اجري جري الوحوش غير رزقك لن تحوش)، الفيلم هو الأشهر على الإطلاق في فترة الثمانينات، بل ربما في تاريخ السينما المصرية بأسره، ويدور حول سعيد، و(نبيل) صديقان، يعاني (سعيد) من عدم الإنجاب، فيقرر (نبيل) الطبيب مساعدته بطريقة مبتكرة، وذلك عن طريق زرع جزء من مخ رجل فقير له، يعاني (عبدالقوي) -الذي تبرع بالجزء المطلوب- بعد العملية من حالة إعياء شديدة، أما (سعيد) فزوجته لا تستطيع الإنجاب رغم نجاح العملية، وتتأزم الأمور. الفيلم يعتمد على رأي شهير للشيخ محمد متولي الشعراوي، ويتمثل في المحامي عبدالحكيم (حسين الشربيني) في أحد المشاهد المهمة بالفيلم، قائلًا: (إن الله سبحانه وتعالى وزع الأرزاق على البشر، ولكن بطريقة لا يعلمها إلا هو، ولكن الأكيد هو أن كل إنسان وهبه الله رزقه كاملًا (24 قيراط)، ولكن تم توزيعه بشكل مختلف إما في المال أو البنون أو الصحة أو العمل، أو الزوجة الصالحة).
التسعينات
يبدو أن التسعينات كذلك قد حملت مساحة كافية للأفلام المعتمدة على المثل الشعبي عنواناً وحبكة، ففي عامها الثاني يحقق المخرج محمد راضي فيلمه (الحجر الداير) من بطولة حسين فهمي وليلى علوي وإلهام شاهين، ويعتمد على المثل الشعبي (الحجر الداير لابد من لطه)، ويضرب في أن الممارسات غير الأخلاقية ستظهر لا محالة، ربما يطول الزمن قبل أن تنجلي للأنظار، لكنها ستنكشف يوماً ما، عبر حكاية (عادل) الموظف البسيط المتزوج من (عزيزة) التي تعمل مدرسة، وله ثلاثة أطفال، ويعجز عن الوفاء بالتزاماته المادية تجاه أسرته. يتعرف إلى (إجلال) سيدة الأعمال، ذات النشاطات المشبوهة وتبهرها وسامته فيتزوجان، ويعمل معها ويحقق أرباحاً كبيرة، وفي إحدى الحفلات يتعرف على المليونير (الحمزاوي) وابنته (شيرين) وتعجب به ويتزوجها لتحقيق أحلامه على الرغم من علمه بأنها تدمن المخدرات، يعجز على التوفيق بين زوجاته الثلاث، فتلفظه الأولى من عالمها، وتثور عليه الثانية، وتموت الثالثة بجرعة مخدرة، يشعر بالضياع ويحاول العودة إلى حياته الأولى.
وقد أنتجت التسعينات أفلام أخرى مثل: (مولد وصاحبه غايب) و(عنتر زمانه) و(أبوزيد زمانه) و(اللي رقصوا على السلم).
الألفية وما بعدها
بداية من الألفية، ومع عودة السينما المصرية من مواتها الذي دام معظم فترة التسعينات حتى أوقظت السينما المصرية من سباتها بالنجاح الجماهيري الكبير لفيلم (إسماعيلية رايح جاي) 1997؛ بدا أن جمهور السينما قد تغير وأصبح الجيل الصغير هو الشريحة المستهدفة لصناع الأفلام، في نفس الوقت تقريباً كانت الأجيال الجديدة قد تكونت وتشكل عندها ثقافة مغايرة بفضل عوامل عديدة لا مكان لذكرها هنا، فانقطعت بشكل شبه كامل عن تراثها التقليدي والشعبي، ولم تعتمد الثقافة الشفاهية مصدراً للمعرفة، ولم ترضَ بها مصدراً للتعلم واكتساب الخبرات، لذا كونت مصادر تعلمها وثقافتها الخاصة، وصاغت لغتها المشفرة التي كونتها من تعريب لكلمات أجنبية واختراع كلمات وإعادة صياغة مفاهيم لكلمات أخرى، وبالتالي أعادت صياغة الذائقة السينمائية لها، لذا لن تجد تقريباً فيلماً اعتمد في اسمه أو حبكته على المثل الشعبي، ربما باستثناء فيلم (الحكاية فيها منة) عام 2009م العنوان هو محاكاة ساخرة (بارودي) للمثل الشعبي (الحكاية فيها إن) والذي يضرب في الشك في الأسباب والدوافع وراء شيء ما.
غير ذلك هجرت الأمثال عنواناً ومصدراً لصياغة الحبكة تقريباً كلية، وهجرت الأمثال في جمل الحوار على لسان شخصيات الأفلام، إلا من رحم ربي إلى حين.

ذو صلة