ناصر الناعبي: الموسيقى فلسفة
حوار/ عبدالرحمن الخضيري: عمان
هل تساءلت بينك وبين نفسك، ما الفرق بين الموسيقى التقليدية والموسيقى الشعبية، وما الذي يجمع بينهما، وأيهما أقرب صلة بتاريخ الإنسان وثقافته؟
كلها تزاحمت علي وأنا أقف أمام مركز عمان للموسيقى التقليدية، محاولاً البحث عن إجابة لتساؤلاتي لدى مديره الباحث ناصر بن محمد بن حامد الناعبي، ومدير تحرير مجلة الموسيقى العمانية، الذي أخذ بيدي وتجولنا بين الفنون والموسيقى وعلاقتها بالعادات وثقافات وممارسات البشرية وانعكاس ذلك على فنونها وموسيقاها.
ما الفرق بين الموسيقى التقليدية والشعبية؟
- الموسيقى التقليدية هي تلك الموسيقى المحلية التي تمارس في حدود جغرافية معينة لبلد ما، وهي غالباً ما تكون مرتبطة بالتقاليد، والقيم، والعادات الاجتماعية، وتعد انعكاساً لسلوكيات أهل البلد، وبعض الأنماط الموسيقية التقليدية ترتبط ببعض المعتقدات والرواسب الثقافية الاجتماعية للقاطنين بذلك البلد، ومن الأنماط ما هي مرتبطة بالمناسبات الاجتماعية كالأفراح والأتراح، وكذلك بالمناسبات الدينية والوطنية، وهناك أنواع أخرى من الأنماط الموسيقية التقليدية مصاحبة أو مرتبطة بالحرف والأعمال اليومية التقليدية الخاصة بذلك المجتمع، وأيضاً هناك أنماط مرتبطة بالتسلية والألعاب التقليدية التي يُمارسها الناشئة في ذلك المجتمع. من هنا أستطيع القول إن الموسيقى التقليدية مرتبطة بالحياة التقليدية اليومية لمجتمع بعينه، معبرة عن تفاعلاته ونشاطاته الحياتية.
أما الموسيقى الشعبية؛ هنا سأختلف! الاختلاف الحميد قليلاً عن بعض الآراء لبعض المهتمين بتاريخ الموسيقى والدراسات البحثية في الحقل الموسيقي.
أرى أن الموسيقى الشعبية هي في الأساس تقليدية لمجتمع ما في محيط جغرافي معين، أما لماذا سميت شعبية؟ لأنها انتقلت بانتقال الشعوب من مكان إلى آخر، وعندما أقول الشعوب، أعني بها الحضارات الإنسانية القديمة.
في هذه الحالة تكون الثقافة الموسيقية، بوجه الخصوص، أو الثقافة غير المادية عموماً معرضة لأمرين لا محالة، وهما: البقاء مع من بقيَ من السكان، أو التنقل مع من تنقل من السكان، وتنقل السكان ليس بالضرورة أن يكون في وجهة واحدة معينة، قد تكون إلى عدة وجهات، وبقع جغرافية متنوعة الطبيعة، وذلك مرتبط بحركة السكان حيث تتواجد وتتوافر سبل العيش، ومتطلبات الحياة.
الموسيقى الشعبية أكثر ثراءً بالثقافة التاريخية الاجتماعية الفلسفية، وأسهمت كثيراً في عملية التثاقف بين الشعوب، وذلك عندما نمعن النظر أو التعمق عن كثب للفضاء الداخلي، والتعابير الموسيقية للموسيقى الشعبية، سنستنتج أن هناك مجموعة من الثقافات تصاهرت ثم انصبت في قالب نمط موسيقي واحد.
كما أنها أكثر ملحمية، وهذا لأنها، سقطت خواصها الموسيقية في أكثر من مجموعة إنسانية، أو بالأحرى سكانية مختلفة الطبائع الجغرافية، وانعكست الأخيرة على التنوع الخصب في العادات، والتقاليد، والقيم، ومع مرور الزمن انسلخت عن المسرح الأدائي لها، أو المناسبات الحقيقية المرتبطة بها. وفي الفترات المتقدمة تبناها الكثير من (المُحَدِّثين) حتى صنعوا منها أعمالاً أوبرالية وأوكسترالية، فأصبحت خشبة المسرح ملاذ عرضها على الجمهور كوقائع ملحمية. وفي الأخير أقول: إن الموسيقى التقليدية والشعبية من حيث التسمية، ما هي إلا تصنيف اجتماعي أدبي جغرافي تاريخي على حد سواء، وهذا جميعه أتى نتيجة السلوكيات البشرية، أما الموسيقى، كفرع علمي إنساني، فهي عبارة عن نغم لحني، إيقاعي، ومفردة شعرية، وأداء حركي مترجم للانفعالات النفسية، التي أوجدتها الأسباب أو الأغراض من وجود ذلك النمط الموسيقي التقليدي، سواءً كان تقليدياً أو شعبياً، وبطبيعة الحال إذا نظرنا إلى النوعين التقليدي والشعبي، حتماً سنجدهما مجموعة من التعابير الموسيقية ملامسة للحياة البشرية التي ولدا من رحمها.
مركز عُمان للموسيقى التقليدية: الفكرة، والأهداف، والرؤى؟
- جاءت فكرة إنشاء مركز عُمان للموسيقى التقليدية بتوجهات سامية من لدن جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -طيب الله ثراه- في عام 1984م، مع العلم أن عملية البحث بدأت في عام 1983م، ومازال المركز مدعوماً من لَدُن جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه-، ما أريد قوله: الحكومات المتعاقبة في سلطنة عُمان، وعلى مر الزمان، تهتم بالتراث الثقافي المادي وغير المادي في سلطنة عُمان، لأنهم باتساع رؤيتهم الثقافية يدركون مدى القيمة الثقافية المعنوية المتأصلة لدى المجتمع في سلطنة عُمان، وحبه لأصالته، وماذا يعني ذلك من الشجن والترابط الروحي بين المكونات الاجتماعية في مجتمع تعالا بثقافته الاجتماعية ووهجه الأسري، وعاداته وتقاليده، وقيمه ومبادئه النابعة من الروح الوطنية المتأصلة في الأرض العمانية. من خلال هذا الحوار الشيق أذكر أنني شاركت في طرح الكثير من الأفكار حول كيفية الاستثمار في التراث المادي وغير المادي في مجلس الشورى، وفي مجلس الدولة في سلطنة عُمان، وهذا دليل على أنَّ حكومة سلطنة عُمان تعمل على كيفية الاستثمار الثقافي والاقتصادية في هذا الجانب الحيوي، ولاسيما، سلطنة عُمان سايرة على تنفيذ إستراتيجية (2040)، التي من بنودها محاكاة الواقع الثقافي، وكيفية الاستثمار الثقافي الاقتصادي فيه وحوله. فلسفة أو فكرة مركز عُمان للموسيقى التقليدية تتغير مع الفترات الزمنية والتحولات الطبوغرافية، هي مواكبة للثورة الثقافية، العمرانية الاقتصادية في سلطنة عُمان، لأنها ليست بعيدة عن الرؤى المنهجية السياسية الاجتماعية في سلطنة عُمان.
بماذا يتفرد مركز عُمان عن غيره من المراكز العالمية؟
- هنا بإمكاني أن أُصَنِفَهُ مركزاً ثقافياً علمياً ذا ريادة، مثله مثل المراكز العالمية، وغالباً مثل هذه المراكز تكون نوعية من خلال اختصاصاتها ووظائفها. إن لمركز عُمان للموسيقى التقليدية أرشيف سمعي وبصري، حيث يحتوي على ما يقارب 55 ألف وثيقة، وله عدة عضويات منها في اليونيسكو، وكذلك جامعة الدول العربية، وحصل على شهادتين عالميتين في مجال حفظ التراث غير المادي من منظمة اليونيسكو، وجائزة أخرى من المجمع العربي للموسيقى التابع لجامعة الدول العربية، وأقام عدة ندوات علمية، كان أولها في عام 1985م، وكذلك أقام الكثير من الملتقيات العربية في مجال الثقافة الموسيقية، وله الكثير من الإصدارات العلمية والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، وفي الآونة الأخيرة ومن عام 2019م، عمل على إصدار المجلة الإلكترونية العمانية للموسيقى التقليدية.
كيف يساهم المركز في نشر الوعي الموسيقي؟
- سأذكر بعضها على سبيل المثال وليس الحصر؛ بإقامة الملتقيات والندوات والمحاضرات وورش العمل، وقام بإصدار العديد من الإصدارات المقروءة والمسموعة، والمشاركة في إعداد وتنفيذ البرامج الإذاعية والتلفزيونية، والتواصل والتعاون مع الجامعات والجمعيات، وكذلك الوزارات والدوائر المعنية بالتراث والثقافة، وتوفير ما يمكن توفيره للدارسين والباحثين والأكاديميين من معلومات ووثائق موسيقية، وعلى وجه العموم المركز قائم على دراسة الموسيقى التقليدية العمانية من حيث مظاهرها الثقافية والاجتماعية والفلسفية.
كما هو شائع أن الفنون التقليدية، ومنها الموسيقى، تم تناقلها عبر الروايات الشفاهية، فما هي الأسس التي عملت عليها في هذا المجال للتأكد من سلامة الروايات؟
- الأنماط الموسيقية التقليدية متوارثة من حيث الأداء والمناسبات والمظهر العام لها، فإذا وجدت هناك روايات فستكون منحصرة في النص الشعري أو المفردة الشعرية القديمة حول من يكون صاحبها، وهنا نرجح الرواية الأكثر إشاعة أو تداولاً مع التطرق إلى بعض الروايات المخالفة لذلك، لنترك للباحثين التمحيص والبحث والتأكد حولها، وكذلك المناسبة التي قيل لأجلها ذلك النص الشعري، أمّا عن الرواسب الثقافية الاجتماعية حول الأنماط الموسيقية، فهناك الكثير من القصص والروايات حولها، وهذه حتماً تحتاج إلى الكثير من الدراسات الفلسفية والتاريخية لنتمكن من مدى صحتها من عدمها، وهذا ما سنعمل عليه في المنهجية الحديثة.
هل الموسيقى فلسفة؟
- العلماء المتقدمون، قسموا العلوم إلى سبعة أقسام ومنها: الفلك، والفلسفة، والحساب، والموسيقى وعلوم أخرى. من ثم أتى التقسيم الحديث فقسموها إلى: العلوم الطبيعية، والعلوم الاجتماعية، والعلوم الشكلية، والعلوم التطبيقية.
بمقدوري القول إنّ الموسيقى برمتها فلسفة، وهي روح تترجم التفاعلات النفسية لدى الإنسان، وتصل إلى الكثير من الكائنات، وهناك الكثير من الدراسات العلمية حول ذلك، والتي أبرزت الدور الكبير التي تلعبه الموسيقى في نفسية الكائنات الحية بخلاف الإنسان مثل الحيوانات والنباتات. الموسيقى ليست شيئاً تقنياً فقط، مثل ما هي تحتوي على خصائص فلسفية جمالية تُعَبِّر وبصورة تلقائية وعفوية للواقع الخارجي عن الواقع الداخلي للنفسية البشرية، الموسيقى أحد الأدوية العلاجية للكثير من الأمراض بجميع صورها المباشرة وغير المباشرة، ونحن للأسف العرب الذين أوجدوا هذه الخاصية في الموسيقى، ونحن، في العصر الحديث لم نعطها أي أهمية، وهي موجودة حية في العالم الغربي كما غيرها من العلوم في الكثير من المجالات.