علي المقري: الأيديولوجية كممارسة سياسية أضرت كثيراً في حركة الأدب
حوار/ محيي الدين جرمة: اليمن
خاض الروائي اليمني المقيم في فرنسا علي المقري مواجهات بين صامتة، ومشتبكة، في سياق مشروع الكتابة الوجودي الممتد لديه لما يقرب من أربعة عقود، لتنال أعماله نصيباً من الترجمة والدراسات الجمة، على نطاق واسع عربياً، احتفت بأعماله عدد من لغات وآداب الشعوب الحية، قبل حتى أن تطأ قدماه باريس، (حيث يعيش اليوم) لتحظى تجربته مؤخراً بالاهتمام والتكريم الرفيع بتقليده وسام الفارس من دولة فرنسا ممثلة بوزارة الثقافة في باريس.
ويقدم المقري جملته السردية، محاذراً الوقوع في أي خلل فني أو صوغ شعري مسهب في بنية رواياته ما قد يخل بالمتن في علاقة اللغة بالحكاية، وكثيراً ما يبقى على شراكة القارئ شغف التوقع والتساؤلات، و(احتمال المطابقة) على حد فكر تزفيتان تودوروف، في تشخيصه لهوية الخطاب داخل المعنى السردي، والشعري معاً، في السياق يؤكد المقري أن (المنجز الكتابي،) بكل اللغات، أكبر من إمكانية استيعاب خبراته السردية كاملة. وعن نضال الكلمة وتجربة الكتابة المغامرة لديه، وخبراته في السرد، والتحكيم، وكتابة اللحظة الروائية كمتن شاسع بشخصياته ووجوداتها القلقة، وعن رأيه حول مخاوف (تأثير الذكاء الاصطناعي) على مستقبل الرواية؛ كان هذا الحوار:
تنطوي عناوين رواياتك على محمولات ثقافية دالة وحافزة بكثافة، كما لو كانت مقولات جرسية قريبة من قارئ محلي وعربي؟
- عادة تأتي عناوين رواياتي تابعة لوجهة الكتابة أو سياقاتها الفنية، قد تأتي في البداية وتكون حافزاً على مواصلة الكتابة والتي تبدو أحياناً لي غير مكتملة البناء من دونها، وأحياناً تتغير أثناء الكتابة أو الختام.
تحيل رواية (حرمة) قارئها إلى عوالم من تقويلات اليومي، وتطرح اصطلاحاً شعبياً ثقافياً وقيمياً صادماً في تناقض سيكولوجية وطبيعة الشخصية، كما تحيل إلى إرث متراكم في صورة علاقته بالنظر إلى المرأة؟
- صفة (حرمة) التي أصبحت عنواناً للرواية، أردتها أن تلامس كل غياب للمرأة من عدم ظهور اسمها إلى عدم تحقق وجودها في الحياة، وذلك ضمن امتحان تحقق وجودي إنساني عام، يظن كثيرون فيه أنهم يعيشون، فيما هم لم يستطيعوا حتى طرح أسئلتهم الخاصة برغباتهم، وهي أسئلة تضيق في الجسد فيفور أخيراً، إذ يصير هو من يسيِّر نفسه دون تحكم من وعي أو مفاهيم أو قوانين مكبلة لحركته.
ثمة أثر تفاعلي تتركه رواياتك وقد لا يشعر معه القارئ غالباً بغموض الأسلوب، هل للسهل الممتنع لديك مفهوم خاص ومختلف، لتصل روايتك إلى هذا الاهتمام الذي نلحظه قراءة ونقداً؟
- أظن أن الأمر له علاقة بلغة الرواية، والتي من المهم أن تبقى متلاصقة مع كل ما هو يومي ومعاش وحميمي، ولكن بسرد ينطلق من زاوية شعرية، والشعرية التي أعنيها ليست تلك البلاغية الانزياحية في الشعر وإنما هي المتعلقة بإيقاع السرد من خلال بناء الجملة والفقرة والنص كاملاً.
تتصدى منذ روايتك الأولى (طعم أسود رائحة سوداء) للمسكوت والمهمش في قاع المجتمع وبرؤى سردية كاشفة، ما سر استخدامك لطرائق متعددة في السرد من رواية لأخرى؟
- بعض المحن الإنسانية التي أختبرها في رواياتي تستدعي أشكالها البنائية الخاصة، ففي رواية (طعم أسود رائحة سوداء)، مثلاً، يظهر الشخوص ويختفون، كحال فئة السود في اليمن غير المستقرة، إذ من غير الممكن مراعاة تنامي الأحداث وتطوّر الشخوص في السرد ونحن في فضاء مضطرب ومتنقل وغير متحقق في سكن دائم أو متحوّل في سياقات محدّدة. والبناء في رواية (اليهودي الحالي) يذهب إلى التراث السردي العربي، حيث أحاول إيجاد توافق بين اللغة الروائية الحديثة وطريقة سرد الحوليات التي يبدو فيها الزمن التتابعي محور السرد ومحرّكه المعتمد على إبراز أهم الأحداث مع إغفال التفاصيل الأخرى.
في العقد الثاني من عمرك، دلفت إلى عالم الأدب، في ظل مناخات لم تكن حينها بعيداً عن تأثيرات الأيديولوجيا بحكم يساريتك المبكرة، ما تأثير الأيديولوجية على الأدب برأيك؟
هناك أفكار كبيرة أثّرت كثيراً في التجربة الإنسانية، وبالتالي في النظرة للأدب ومكانته الجمالية والفنية، لكن الأيديولوجية كممارسة سياسية أضرّت كثيراً في حركة الأدب؛ إذ اُعتبر كتابع تعبيري لأيديولوجية حزبية، يمضي ضمن شروط أهدافها وتصوّراتها للكون والحياة والمجتمع، وبالتالي أعيق تحقق الأدب كتجربة فنية لا يمكن لها أن تكون في أفضل إبداعاتها وتشكّلها دون وجود فضاء حرّ تستطيع عبره اختبار أو تناول كلّ شيء بما في ذلك الإشكالية السياسية.
تُرجمت رواياتك إلى لغات عدة من بينها الفرنسية والإنجليزية، والإيطالية والكردية والفارسية، ما هي نظرتك تجاه الترجمة، وما مدى تأثير إقامتك الاختيارية في باريس، ما الذي تركته من أثر على إبداعك الروائي؟
- الكثير من الترجمات لكتبي أنجزت قبل مجيئي إلى فرنسا، حيث صرت أعيش، وهي بالتأكيد تساهم في الحوار الجمالي الإنساني مهما كانت مستوياتها وتقنياتها، أما تأثير إقامتي الجديدة فهي كبيرة جداً خصوصاً أنني جئت بعد عمر أمضيته في اليمن، تشبعت فيه بكل تفاصيل المكان، وصارت هناك عادات يومية في المأكل والمشرب والصحو والنوم والكتابة.
عملت محرراً ثقافياً ناشطاً لعدد من الصحف المحلية والعربية، هل يمكن القول إن زمن الصحافة الثقافية اليوم قد انقضى، وانحسرت معه نجومية الفن كمعطى ثقافي وازن الحضور؟
- لا أظن ذلك، فمازالت الملاحق الثقافية تصدر من كبريات الصحف العالمية، وهناك برامج تلفزيونية وإذاعية شهيرة خاصة بالكتب والكتّاب.
الروائي الروبوت، قد يصدر حديثاً رواية، بتقنية (الذكاء الصناعي)، ألا يشكل مثل هذا التداعي السريع لأجيال التكنولوجيا، قلقاً للكاتب الروائي؟
- هناك روايات فعلاً صدرت عبر استخدام هذه التقنية، ولا أظن بوجود أي خطر يهدد الكتابة الأدبية من تقليعة ما يسمى بـ(الذكاء الاصطناعي)، إذ لا يمكن لهذه التجارب أن تصبح بديلاً للكاتب الفنّان، فهي تعتمد على قوالب منجزة مخزونة من قبل، وإن قامت بالتحوير واللعب في السياقات.
وكيف تنظر إذن، إلى تأثير الرقمنة، على كتابة الرواية، ونشرها، هل يجعل ذلك من الرواية البصرية والمسموعة أقرب إلى متناول القارئ أو المشاهد عن بعد؟
- يبدو لي أن الرواية في شكل الكتاب الورقي ما زالت تقرأ بشكل كبير وإن صار للكتاب الإلكتروني مكانته في القراءة، إلا أن ليس هناك تحولات كبيرة فيما يتعلق بالسمعي والبصري، على الأقل حتى الآن.
كتقنية وأسلوب في الكتابة، تواكب بعض التجارب الروائية معيارية سرد (ما بعد الحداثة)، هل يوافق ذلك موضة بعينها في الكتابة، أم رغبة في التجريب، أم ماذا، برأيك؟
- أهم ملمح في الكتابة الروائية هو أن ليس هناك أي تنميط أو إطار لتشكيل مفاهيم نهائية ومحدَّدة، ولهذا هناك كتّاب عادة ما يكتبون متكئين على حساسيتهم الفنية الخاصة التي يرون من خلالها هذا العالم، دون أن ينطلقوا من محدّدات أسلوبية أو فكرية مسبقة، مع أن المحدّدات تكون في متناول قراءتهم وتفحصهم بالتأكيد.
كيف ينظر علي المقري كروائي يمني حاضر بأعماله وتجربته اللافتة عربياً من معتزله حيث يقيم في باريس، إلى أفق الرواية العربية، اليوم، ومستقبلا؟
- أظن أن الرواية العربية تمر بمنعطف مهم وكبير، وهو في طور التشكل والإنجاز، ساهم في إظهار ذلك المناشط الثقافية التي صارت تحتفي بفن الرواية وأبرزها الجوائز الأدبية.
الرواية اليمنية، ما موقعها اليوم، مدى تأثير الحرب، وانعكاساتها على تجاربها، مدى تعلق كتابها، بفن السرد وكتابة الرواية؟
- لا تختلف الرواية اليمنية في منجزها عن الرواية العربية، فهناك الكثير من التجارب المهمة، وعادة المنجز الروائي لأي بلد أو ثقافة أو لغة لا يقاس بالكم بل بأصوات متميزة، فنحن مثلاً حين نتحدث عن روائيي أمريكا اللاتينية نتحدث عن خمسة أو سبعة أسماء، فيما هناك المئات من الكتّاب، والحال نفسه حين نتحدث عن الرواية العربية، ومنها اليمنية. وبالتأكيد الحرب في اليمن أثرت كثيراً على الأدباء ولكنهم مع كل المنغصات الحياتية قدموا أعمالاً لافتة ومتميزة.
عملت كمحكِّم في عدد من الجوائز العربية، لعل أبرزها الجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة بـ(البوكر)، ما الحصيلة التي خرجت بها، كمعطى معرفي عن خفايا وأسرار تستكنه موهبة الساردين والساردات العرب، وتحيط برؤاهم وطموحاتهم في الكتابة، أساليبهم، تفوقهم، إخفاقاتهم، تجاربهم، بما لها، وما عليها؟
- طبعاً، أهم ما يمكن الاستفادة منه في عمل التحكيم للجوائز هو معرفة حجم وتوجهات الفن الروائي في اللغة العربية، وهي توجهات متعددة تبرز فيها أنماط السرد الحديث مع السرد التقليدي، فتجد رواية هي أقل في مستواها الفني من رواية القرن الثامن عشر، حسب منجزها الأوروبي، فلا تصل، مثلاً، إلى فنية رواية آلام فرتر لجوته أو روايات ديدرو وفولتير، أو روايات القرن التاسع عشر حيث ديستوفيسكي وبلزاك وستندال وفلوبير وتشارلز ديكنز فما بالك برواية القرن العشرين، وأحياناً تجدها مجمّعة من بين أنماط وفنّيات كثيرة، لكن هناك بالتأكيد روايات متميّزة ويمضي أصحابها نحو إنجازات لافتة.