عبدالإله بن عرفة: الأندلس ليست ماضينا بل هي كذلك مستقبلنا
حوار/ سعيد الفلاق: المغرب
يعد الروائي المغربي عبدالإله بن عرفة رائد الرواية العرفانية في العالم العربي، فقد أصدر اثنتي عشرة رواية، وسيصدر الرواية الثالثة عشرة قريباً. يرى ابن عرفة أن كتابة الرواية مشروع حضاري ينبّه إلى أن التاريخ ليس مجرد أحداث مضت، ولا مجرد زمن ولى، بل إن ما نعيشه الآن لا ينفصل أبداً عما عاشه أسلافنا، وهنا يستفيد من الزمن العرفاني المستمر في الحال، أو ما يسمى عن أهل الصوفية بـ(الوقت).
من رواياته نذكر: جبل قاف، طواسين الغزالي، ياسين قلب الخلافة، الجنيد ألم المعرفة، أختام المدينة الفضيلة. وسوف نحاول في هذا الحوار الاقتراب من منجزه الروائي المهم.
تحضر الأندلس في أعمالك بشكل بارز سواء من خلال اتخاذها مركزاً للأحداث كما في رواية (الحواميم)، أو عبر تناول شخصيات أندلسية من قبيل الششتري وابن العربي، وابن الخطيب. ما دلالة هذا الاستحضار القوي؟ هل بصفته حنيناً إلى فردوس مفقود أم يصدر عن وعي خاص؟
- اهتمامي بالأندلس في عدد من الروايات ليس مجرد حنين للفردوس المفقود كما قد يتوهم البعض ممن يركن للتفسيرات الجاهزة، بل يصدر عن رؤية أعمق مَردُّها إلى أني لا أعتبر الأندلس مجرد بقعة جغرافية عرفت تاريخاً متميزاً، بل هي نقطة ارتكاز حضارية ما زالت مستمرة. وينبغي أن نكون على وعي تام بهذا الأمر لأن النهضة التي تدوم وتنجح هي النهضة التي ترتكز على نقطة ارتكاز حضارية قوية.
انظر إلى النهضة الأوروبية، ما هي نقطة ارتكازها؟ إنها نقطة الارتكاز اليونانية القديمة التي استلهمت منها أوروبا التراث اليوناني في مختلف المجالات ولاسيما في الفلسفة وعلوم التعاليم والفنون في بناء نهضتها. إن ذروة النموذج اليوناني كان مع الفلسفة اليونانية التي يمثلها أرسطو وأفلاطون، وعلى المستوى السياسي الإسكندر المقدوني. أما فيما يخص الأندلس باعتبارها نقطة ارتكاز حضارية واسعة بما فيها عُدْوَةُ الأندلس وعُدوة شمال أفريقيا الجغرافيتين، بمراكش عاصمة لهذه الإمبراطورية، فإن ذروة هذا النموذج كان مع الفلسفة التي يمثلها ابن طفيل وابن رشد، والحكمة الموهوبة التي يمثلها ابن العربي الحاتمي. أما على المستوى السياسي فذروة الأمر كانت مع الخليفة الفيلسوف أبي يعقوب يوسف بن عبدالمؤمن الموحدي الذي عاش هؤلاء الأعلام في زمنه وتحت سلطانه. من هنا ينبغي أن ننطلق في نهضتنا، لجعل الوصل يكون في أرفع نقطة وصلتها الحضارة العربية الإسلامية. أما الارتكاز على مراحل الإخفاق فلن يؤدي إلا إلى استمرار الإخفاق.
انظر إلى النماذج التي اشتغلت بها، فعلى المستوى السياسي اشتغلت على الخلافة الأموية وملوك الطوائف، ثم اشتغلت على دولة المرابطين وخلافة الموحدين، وبعد ذلك اشتغلت بما سمي مرحلة (الاسترداد) في الأدبيات الغربية، ثم بسقوط الأندلس ومحنة الموريسكيين. واخترت في كل هذا المراحل منذ بداية الأندلس إلى سقوطها شخصيات وعينات تمثيلية في الفلسفة والعرفان والأدب والسياسة والتاريخ والفقه وغير ذلك. اخترت ابن حزم والششتري وابن العربي وابن الخطيب وعدد آخر من الشخصيات ضمن اشتغالي بهؤلاء ممَّن جَايَلُوهُم. هذه منارات مضيئة أجدر أن نستلهمها لأنها محطات تفسِّر ما قبلها وما بعدها.
ولعل هذا يجيب عن سؤالك حول الأندلس التي أشتغل بها. إن الأندلس بالنسبة لي تطرح علينا سؤال النهضة في عمقه. الأندلس بالنسبة لي ليست ماضينا بل هي كذلك مستقبلنا.
تُصدّر رواياتك ببيانات أدبية تتحدث عن بعض المفاهيم العرفانية، وعن أسباب اختيار شخصيات الروايات والسياق الحضاري المصاحب. ما دلالة هذا الاستعمال؟ وكيف ترد على من يرفض هذه البيانات باعتبارها مهمة الناقد لا المؤلف؟
- هذا نقاش يدل على مشكلة نفسية بالأساس. هناك من يرفض البيانات، فليتركها ولا يهتم بها، وَلْيُعْرِضْ عن قراءتها إن كان يخشى على نفسه من التأثر بها، فلا أحد يفرض عليه ذلك، لكن هناك الكثير من الباحثين والنقاد يهتمون بهذه البيانات، وهي أضحت مادة خصبة لا غنى عنها لكثير من الأبحاث الجامعية في شهادات (الماستر والدكتوراه) بلغات مختلفة في عدد من الجامعات حول العالم. ولم أعد أملك الحق في التخلي عنها لأن هؤلاء الباحثين في كل مكان من العالم الإسلامي وغيره من الهند، مروراً بتركيا وإيران وانتهاء بعدد من الجامعات المرموقة في العالم العربي تنتظر بفارغ الصبر هذه البيانات، وتستند إليها في تعزيز فهمها لمشروع الرواية العرفانية، وتقديم دراسات نقدية مهمة للغاية.
دعني أقول إن أي أدب يقدم نفسه (أدباً جديداً)، ويندرج ضمن مشروع متكامل مثل مشروع (الرواية العرفانية) لا يمكن اليوم تصوره دون هذه البيانات لأهميتها التي وضَّحْتُ بعضها فيما قدَّمْتُ من مفاهيم تساعد على فهمها. إن أصحاب المشاريع بشكل خاص، والمبدعين بشكل عام لابد أن يَصْدُرُوا عن رؤية نقدية لما يكتبون، والعكس قليل جداً، فلا تكاد تجد مبدعاً ليست له رؤى نقدية حول أعماله على الأقل. ولك أن تستقرئ تاريخ الأدب والشعر والرواية لترى أن هذا التاريخ مليء بمثل هذه البيانات التي أسست لمدارس وحركات أدبية كبيرة في الشعر والرواية والمسرح والقصة والتشكيل والموسيقى وما سوى ذلك. أحد أساتذتي الذين درست عليهم هو السيميائي العالمي أمبرتو إيكو كتب روايات عالمة عالمية، ولم يكتف بكتابة بيانات حولها، بل أصدر كتباً نقدية عن تجربته الإبداعية الكبيرة التي حققت نجاحاً عالمياً. لهذا، ينبغي التوقف عن مثل هذا اللغط الذي يثيره البعض في الكواليس مِمَّن يعتقد أن المبدع يزاحم النقاد في عملهم. المبدع هو المسؤول الأول عمَّا يبدع لأنه يكتب ذلك بمداد روحه، فكيف يريد البعض تجريده من ذلك؟ ومن حق كل مبدع أن يدلي برؤاه النقدية حول ما يكتب.
ولك أن تدرك الخصاص الحاصل في متابعة ما ينشر ويكتب من إبداعات لتعلم بأن هذا الأمر أضحى ضرورة قصوى حين تتأمل كم الأعمال الإبداعية التي تصدر اليوم دون مواكبة نقدية موازية ومسايرة لها، فهذا النقص والهوة بين الإبداع والنقد يدفع أحياناً بالكثير من المبدعين إلى ملء هذا الفراغ. إن النقد عادة يكون حذراً في تناول الأعمال الإبداعية الجديدة، وترى كثيراً من الدراسات النقدية التي تتكرر عن أسماء وأعمال مضت منذ زمن غير يسير، وهذا ينبغي أن نقوله بكل صراحة، بأن اختيار هذه الوضعية المريحة لاستنساخ الآراء والنتائج التي انتهى إليها النقاد الأوائل وتكرارها أسهل بكثير من الاشتغال بنصوص إبداعية جديدة تتطلب جهداً نقدياً مضاعفاً واجتهاداً متواصلاً لاستنطاق جِدَّتها. البيانات التي أُقَدِّمُها مع رواياتي هي جزء من هذا المشروع الذي قدم رؤية جديدة، ولكنها لا تلغي أبداً عمل النقاد ولا تزاحمه، بل على العكس هي مكملة له، وهي مفيدة لأنها تقلِّصُ مسافة الوقت والجهد في فهم بعض الأشياء في هذا المشروع.
ألا ترى أن تصنيف أعمالك ضمن الرواية العرفانية قد سيّج مشروعك، وحدّ من إقبال القراء والنقاد عليه خصوصاً في الوسط الجامعي كما يرى البعض؟
- إن هذا المشروع مستمر منذ ربع قرن تقريباً، ونحن نعرف شهادة ميلاده ومحطاته ومساره العام. ولا شك أن الذي أعطى له قوته وانتشاره هو ما طرحه من رؤى وأفكار وتجديد في السرد العربي، ولا أدري من أين يمكن استنتاج أن تسمية هذا المشروع بالعرفاني قد كان سبباً في الحد من انتشاره بين القراء والنقاد في الوسط الجامعي.
العكس هو الحاصل تماماً، فهذا المشروع قد نجح بشكل كبير وانتشر في كل مكان اليوم، وعدد الدراسات الجامعية التي أنجزت حوله كبير. ويمكن للمرء أن يبحث على الشابكة ليرى عدد الأبحاث المسجلة في السجلات الوطنية للأطاريح وشهادات الماستر ليعرف عما نتحدث عنه بدل التعميمات المنفصلة والمفارقة للواقع. فأحيانا نتوهَّم أشياء لا حقيقة لها على أرض الواقع. أغلب ما نشرته من أعمال كان مع (دار الآداب)، وهي من أبرز دور النشر في العالم العربي، والنشر فيها مرتبط كما لا يخفى على أحد بمعيار ما يسمى (التكريس الأدبي)، بل إن المشروع العرفاني هو أحد أوجه سياسة النشر البارزة في هذه الدار. هذا فقط مؤشر على نجاح هذا المشروع.
طبعاً كل كاتب ومبدع يطمح للمزيد من النجاح والانتشار والمقروئية، وأرى أننا في العالم العربي لا نقرأ كفاية بالمقارنة مع ما تمثله السوق العربية من اتساع وموارد حيث تصل إلى نحو أربعمئة مليون ناطق ومتحدث بالعربية. فهناك أسواق صغيرة في العالم تطبع أكثر مما تطبع وتنشر كل هذه الكتلة الحضارية. لهذا نحتاج إلى تعزيز سوق النشر العربية بالتشريعات الملائمة عبر احترام الملكية الفكرية وحقوق المؤلف وتجنب الثغراث التشريعية وتضاربها من دولة عربية إلى أخرى بما يفسح المجال أمام قرصنة الكتب والاعتداء على حقوق المؤلف وباقي سلسلة صناعة الكتاب، ويجعلها في مهب الريح، وذلك عبر سنِّ تدابير قانونية صارمة تكفل حقوق جميع المتدخلين في صناعة ونشر الكتاب. الكتاب العربي هو كتاب لمجمل السوق العربية وليس لبلد بعينه، مثله في ذلك مثل الأغنية والفيلم وما سوى ذلك من المنتجات الثقافية. أما الكتاب الذي يوجَّه للأسواق الوطنية المحدودة فهو كتاب وظيفي أو موجه لفئة خاصة، ولا يعنينا هنا.