صالحة غابش: الإنسان مجموعة أمواج والكلمة نهران للقلب والعقل
حوار/ غالية خوجة:الإمارات
تعتبر الكاتبة صالحة غابش من الجيل المؤسس للمشهد الثقافي الإماراتي، ولها حضورها في مجال التربية والتعليم، ولن ينساها طلابها من أجيال مختلفة، ولا قراؤها من الأطفال والفتيات واليافعين أيضاً. بدأت مع مجموعتها الشعرية الأولى (1992)، وواصلت مع أشعة الكلمة الشعرية والسردية والحكائية والمسرحية والأوبرالية والإعلامية، وأصدرت: 30 كتاباً للأطفال، 6 مجموعات شعرية، روايتين، كتاباً توثيقياً، و(مكان تحت الشمس) مجموعة مقالات. بعض أعمالها ترجم للغات أخرى، ومنها روايتها (رائحة الزنجبيل) إلى الفرنسية، وتم تكريمها في فرنسا أيضاً بثلاث ميداليات عام 2022. تنقّلت في عدة مناصب ومهام، وتعمل حالياً مستشاراً ثقافياً ورئيس المكتب الثقافي في المجلس الأعلى للأسرة في الشارقة، وتدير تحرير مجلة (مرامي)، كما أنها صاحبة دار نشر (صديقات) التي تصدر عنها مجلة (صديقاتي العزيزات) التي تترأس تحريرها. ولمزيد من الضوء عن سيرتها لقراء (المجلة العربية)؛ كان هذا اللقاء:
من أين نبدأ مع كاتبة مبدعة في عدة أجناس أدبية؟ من الشعر أم القصة، لأنهما بوابتها المضيئة التي تفرعت إلى الرواية والسيناريو والإعلام والأدب الموجّه للأطفال واليافعين واليافعات؛ فماذا بين هذه الشبكة من العلائق؟ وكيف تصوغ الدلالات الحياة؟
- بين هذه الشبكة من العلائق عشقي للكلمة، أحببت الكلمة منذ بداياتي، منذ أول يوم درست فيه، أحببت رسم الكلمة من معلمتي على السبورة، كلمة (حمد) مثلاً، بدأت أتهجأ الكلمات، عرفت أن الكلمة ليست عبثاً، وتركيبها بهذه الطريقة ليس عبثاً، وهو أمر قل أن يفهمه عقل طفلة صغيرة في ذلك الوقت، وكنت في تلك الفترة أراها شيئاً غير طبيعي، أقرب إلى (الفانتازيا)، وتساءلتُ إذا كان بإمكاني أن أرسمها، ومن أي منطلق؟
كانت الصحافة الثقافية مزدهرة، فقرأنا ودرسنا وقلّدنا المكتوب من السطور، كبرنا والعلاقة بيني والكلمة كبرت وصارت تأخذ مسارات أكبر، وصرت أكتب على الحائط غير مبالية بما يقال عن البيئة، أكتب على الورق، على الرمل، أكتب أي كلمة تمر عليّ، تشكّل لدي سؤال: هل بإمكاني أن أشكّل كلماتي الخاصة؟ وكان هذا بعد المرحلة الإعدادية، ولذلك برعت في مادة اللغة العربية، وكنت أفاجأ بانسيابية فهمي لقواعد الصرف والبلاغة والنحو، وكنت أُدهش ومعلمتي لأنني من شرح واحد أفهم، كما كنت أُدهش مما لا أفهم، وتوطدت العلاقة بيني والسؤال: هل بإمكاني أن أشكّل كلماتي الخاصة؟
تساءلت غابش، وأجابت: بحثت واكتشفت أن لها نهرين متوازيين، هما: القلب والعقل، وبدأت مع القصة القصيرة (وهدأت الرياح) التي نُشرت في مجلة المدرسة، وكان لها علاقة بالذكريات، وتحكي عن المشكلات العائلية والاجتماعية، وكيف تحدت الأسرة التحديات المنعكسة، أيضاً، على الأطفال، والبطلة تمثل شخصية من جيلنا. وكتبت الرواية القصيرة وأحاديثها الدارجة من البيئة المحلية، ورحلة الغوص وما يحدث فيها اجتماعياً واقتصادياً، وكيف تبدو النهايات المأساوية لبعض الغواصة، وكانت مستوحاة من حكايات الجدات والأجداد. وواصلت، ونشرت في الصحافة عام 1980 قصة (أحلام طفلة)، فتعرفت إلى الناس الذين بدورهم تعرفوا إلي، وكانت الصحافة الثقافية مزدهرة ومزهوة بالكتابات من شعر وقصة قصيرة ورواية وقراءات نقدية وإصدارات، وكان القراء المختصون في مجال الثقافة ينجذبون إليها، وتمّ التساؤل: من هذه الكاتبة الجديدة؟
واسترسلت: لا أعرف حتى اللحظة التي أكتب فيها القصيدة، لكن أعرف أن الأساس هو الكلمة، وليس الجنس الأدبي، أحببت الكلمة التي تعكس حدثاً في السرد والحكاية، والآن، مع الشعر، الكلمة تعكس الوجدان، وأكتب المسرح الموجّه للأطفال، والمسلسل التلفازي، وعشقت الصحافة لأن محورها الكلمة، وأدير مجلة (مرامي)، وأرأس تحرير مجلة (صديقاتي العزيزات) الموجهة للفتيات واليافعات.
وأكدت: كل هذه العلائق في الشبكة محورها الأساسي الكلمة التي ما زلت أبحث عن رسمها وكتابتها، لأن الكلمة هي ذاتها الحياة ونبضها، ومن السهل أن نجد فيها دلالاتها، لأننا نكتب عن الحياة، الكاتب يتنفس في هذه الحياة، يعيش يومياته، يتأمل ما حوله، أمّا الإنسان الذي في داخله ويتعامل معه فهو عبارة عن مجموعة أمواج، موجة للحياة تملأ القلب وجداناً، وموجة للعقل تضيئه فكراً، وموجة للقلم تمنحه مداداً، وهكذا، كأن كل كاتب يأخذ قلمه يغمسه في محبرة الحياة ويعيد صياغتها حسب قناعاته ورؤيته ومعتقداته.
أهداف متعددة لحياة واحدة تحلق في أفق لا يتوقعه القارئ؛ ما الأهداف المستقبلية لمجلة (صديقاتي العزيزات) المتفردة كونها موجّهة للفتيات؟
- أن نترك أثراً، ونضع مستقبلاً يحمله ذلك الكائن الذي قيل إنه يهز بيده اليمنى الأرجوحة، ويحرك العالم بيده اليسرى، أي: لتتعلم كيف تهز هذه الأرجوحة، وتكون ذات تأثير في مجتمعها العربي، الذي تنتمي لدينه وعروبته، ثم العالم.
وأضافت: هذه المجلة حوارية ما بين الكاتب والموجّهة إليها، لتكتب، ترسم، تتحدث عن أحلامها، طموحاتها، وتقول ما تستطيع أن تقوله خارج صفحات الإعلام بشكل عام، ومعروف أن التعامل مع هذه الفئة ليس سهلاً أبداً، ونواجه تحدياً كبيراً في إقناع الفتاة على القراءة، في وقت تواجه فيه القراءة حرباً ضروساً في وسائل التواصل الاجتماعي، وما تحويه من قراءات خاصة بها سواء رضيناها أم لا، وأن نعتني بلغة البصر في هذه المرحلة، هناك ارتباط وثيق بين الفتاة وما تراه، ولا بد من إعطائها الفرصة لتكتب، وخصصنا صفحات لكتابة الصديقات، كتابات متبادلة وقراءات، وأن تكون جزءاً من شخصية هذه المجلة، لأنها في النهاية تعكس طموحاتها وأحلامها، داخل الأسرة وبين الصديقات والمجتمع الذي حولها، أيضاً، ومن جهة أخرى، استقطاب الكتّاب المختصين القادرين على التعرف إلى احتياجات هذه الفتاة بلغة ليست علمية، بل تنجذب إليها من خلال قصص واقعية تسردها في المجلة، وتبويب جذاب لـ(هي وأخواتها)، نعيد تاء التأنيث ونون النسوة في باب (متميزات)، إضافة لقصص تحمل أسماء فتيات مؤنثة، ويوميات ناعمة مثل (بيدي أحلى) من عالم الطبخ، وما زالت هناك أفكار متوالدة.
السيناريو بنية مبنية على بطء الوقت مقارنة بالقصيدة التي تهطل دفعة واحدة، ما المعادلة السرية لإنجاز هذا البعد على صعيد الذات الشاعرة وأسلوب الكتابة، خصوصاً، وأنك أول كاتبة إماراتية مؤنثة تكتب سيناريو مسلسل هو (بنات شما)؟
- ليس هناك علاقة بين الشعر والسيناريو إلا الكلمة التي هي محور انطلاقي للتفرعات الأخرى، ومنها البناء الدرامي، فلربما قصيدة تساهم في هذا البناء أو المشهد. وسيناريو القصة والمسلسل الاجتماعي لا بد أن يتضمن كلمات مباشرة موجهة للمجتمع لا سيما اللهجة المحلية المحكية، لذلك، لا تحتمل الكثير من الشاعرية، ربما لو عدنا إلى الوراء، وتذكرنا بعض المسلسلات السورية واللبنانية، مثل (عازف الليل) وبطله عبدالمجيد مجذوب، واللغة العربية الفصحى، وفيه من الشعر ما يجذب كافة فئات المجتمع، وأرى أن السر هو المعالجة التي تمت لقصائد نزار قباني؛ بينما اليوم، لا نجد الأعمال الراقية، لأن الإنتاج يتحكم في هذا الموضوع، مع قياس ما يريده المجتمع، سواء أكان المجتمع يريده أم لا.
بالنسبة لتجربتي، هناك كلمة متفرعة لعدة قنوات، وجربت السيناريو، وهنالك سيناريوهات بسيطة أكتبها للعمل عن طريق الوسائل الاجتماعية، مثل إضاءة فلاشباكية مباغتة، ذات رسالة ما، تتعلق بالقيم الأسرية والاجتماعية والإنسانية، كما أكتب للمسرح الموجه للأطفال. بينما أفلام الأطفال في (سينما الطفل في الشارقة)، فهي الأفلام المعتمدة على الرسوم المتحركة، ومنه الفيلم الغنائي (موسيقى الحي الشرقي) الذي أحبّه الصغار والكبار، وكذا (وحيد في بيتي). وسينما الطفل تحمل ملامحنا وقيمنا وأخلاقياتنا وسلوكنا الحياتي ومستقبلنا وهويتنا وثقافتنا.
بين حين وآخر، تأتيني طلبات لكتابة السيناريوهات، فأتوقف طويلاً متسائلة: هل لدي الوقت لأتفرغ لكتابة سيناريو؟ أشعر أن كتابة السيناريو تزاحم الشعر لأنها بحاجة لصبر ووقت يتوقف معه كل شيء، وهذا ما حدث معي في تجربتي مع مسلسل (بنات شمّا)، الأمر الذي جعلني مقيدة بهذه الكتابة لدرجة أن يومياتي وارتباطاتي اختلفت، فاتخذت قراري بأن يكون هذا السيناريو الأول والأخير. أحببت التجربة لأن (الكلمة) هنا مشحونة بعدة انفعالات، كلمة عاشقة، حزينة، صامتة، وهذه البنية تجمع دلالاتها في عمل واحد، وقد تكون مشاعر متضاربة، لدرجة أن المشاهد يشعر بأنها علاقات طبيعية لكنها تبدأ وتنتهي حسب ما يمليه الحدث.
لك تجربة في المسرح والأوبريت؛ هل تخبرينا عنها؟ وماذا عن المسرح الشعري؟
- مسرح الطفل تجربة أعتز بها، وبدأتها منذ كنت معلمة في المدرسة الابتدائية، كتبت نصاً فاز على مستوى إمارة الشارقة في مسابقة المسرح المدرسي، ثم انتقلت للعمل الثقافي في إحدى المؤسسات الثقافية. وبلا شك، المسرح أحد برامجنا المهمة التي نعوّل عليها في التوعية الاجتماعية؛ لأن المكتب الثقافي الذي أشرف على برامجه في المجلس الأعلى لشؤون الأسرة، ومن مُسمّى المجلس، نعرف اهتماماته وقضاياه وبرامجه ومشاريعه؛ وأعني (الأسرة). ومشروع مسرح العائلة هو أحد هذه البرامج، ووظفت موهبتي في هذا المجال، واستطعت إثراء خبرتي في الكتابة المسرحية عن طريق حضور الأعمال المسرحية، والجلوس مع خبراء المسرحين العربي والعالمي. وكنا انطلقنا في وقت مبكر قبل الإعلان عن مسرح العائلة مع فريق فني مؤلف من مخرجة وموسيقية، وشكلنا فريقاً ينتمي لهذه المؤسسة، وأنتجنا أعمالاً مسرحية، وقدمنا أعمالاً في المناسبات الوطنية، الأسرية، الاجتماعية، ومن خلالها، كنا نقدم رسائل للأسرة عن طريق أغنية، أو مشهد، أو أية تقنية مناسبة، وبعدها، انتقلنا إلى العمل الحرفي المتعلق بالأسرة وشؤونها، مثل استهلاك الماء والكهرباء والمحافظة على البيئة، فنظمنا أعمالاً مسرحية غنائية استعراضية حرفية، مناسبة للجمهور المستهدف من أطفال ويافعين وعائلة، إلى أن وصلنا في النهاية إلى إنتاج مسرح موجه إلى القضايا الأسرية المعقدة، مثل علاقة الأم مع أولادها، تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على علاقات أفراد الأسرة، مثل مسرحية (الباب)، و(الليلة قبل الأخيرة).
وكمتعاملة مع الأوبريت، أرى أن المسرح الشعري الغنائي الذي كتبه أمثال أحمد شوقي وصلاح عبدالصبور، عبارة عن قصص تاريخية صيغت شعراً مسرحياً. أيضاً، مسرح فيروز والرحابنة لكنه باللهجة، ومن الممكن توظيف ديوان شعر داخل المسرح. وطموحي أن أكتب مسرحاً شعرياً يُمثَّل، وتكون قضيته الإنسان على وجه الأرض، مع وجود كل هذه الأحداث المتناقضة التي تجعل الإنسان يتساءل: أين يجد نفسه وسط هذه الأحداث، وعلى هذه الأرض؟