مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

عبدالله العرفج: لا يوجد اهتمام بعلم اجتماع الأدب

حوار/ محيي الدين جرمة: اليمن


اللقاء بأستاذ علم اجتماع الأدب، الأكاديمي والباحث السعودي عبدالله العرفج، يفتح آفاقاً من المعرفة حول ما إذا كانت نظرية علم الاجتماع متحولة في ثباتها، أم ساكنة، وعن المعوقات التي تشهدها النظرية وتجسيرها في الجامعات العربية في ظل راهنية نصوص ونظريات الحداثة وما بعدياتها مضفورة بالعلم والمنهج المتعدد في الاستدامة، وعلاقة ذلك بالأدب والثقافة وعلم الاجتماع بصورة عامة.
في السياق يثري العرفج بردوده جوانب مهمة بمنظور معرفي عميق ينزع إلى اختبار ما حوله من الظواهر الثقافية والمجتمعية من واقع تجربة وخبرة بحثية رصينة ومتأملة، نحاوره هنا باحثاً متخصصاً، وهو القاص والروائي أيضاً، لكنه هنا يحضر بحدس العالم، إذ ينظر من زاوية تحليل سوسيولوجي للثقافة وتقويلاتها في بيئة خليجية عربية تتأثر زمناً وأمكنة بما حولها من تعالقات شتى.
بحكم تخصصك في علم اجتماع الأدب، هل مازالت النظرية برأيك ثابتة منهجاً أم متحولة في ثباتها، وفقاً لما يحوطها من تحديات؟
- عندما نقول نظرية فإننا ننفي الثبات وهو الثبات المرادف للجمود، فمن خصائص النظرية قابليتها للتفنيد وبالتالي الرفض أو القبول، وقد تأتي نظرية لاحقة فتنقضها. هذا لا يعني عدم قابلية كثير من النظريات في العلوم الإنسانية والاجتماعية على تفسير كثير من الحالات المحيطة بالظاهرة سواء كانت اجتماعية أو ثقافية أو أدبية وتطبيقها في أزمنة مختلفة، ولكن ليس بدقة منهج العلوم الطبيعية نظراً لتعقد الظاهرة الإنسانية. ولذلك يظل حتى الآن أدنى مرتبة من حيث الدقة في مقاربته الظاهرة أو النص الأدبي، خصوصاً عندما ينتقل بين بيئات اجتماعية مختلفة، ولذلك يلجأ بعض الباحثين والمفكرين إلى العمل على تبيئة النظريات ذات النشأة الغربية، بل أحياناً لوي أعناقها أو التعسف في التفسير كي تناسب الحال.
أين تضع الأدب في العالم العربي اليوم والأدب الخليجي والسعودي بوجه خاص في ضوء التحليل الأنثروبولوجي والنقد الثقافي؟
- التحليل الأنثروبولوجي يتميز بالنسبية ويقوم على التنوع والاختلافات باعتبارها مصدر ثراء للمجتمع الذي تتعايش أو تتجاور فيه تلك الاختلافات. من هذا المنظور المحايد أضع الأدب العربي والخليجي والسعودي في منزلة مساوية للآداب العالمية، لأنه تعبير عن إنسان هذه المجتمعات بما تنضوي عليه من أساليب تفكير وسلوك وشعور بالضرورة تختلف عن ما لدى الإنسان الغربي، وتتباين بشكل بسيط فيما بينها، بغض النظر عن المستوى الفني وسعة الانتشار، حتى مع تقارب المجتمعات العالمية ثقافياً بفعل الثورة الرقمية أو العولمة بشكل عام. المهم أنها تعبير فني بمعنى جمالي عن واقع إنسان هذا العالم وتطلعاته، ولكن المشكلة أن الآخر يبحث عن الغرائبية في أعماله القادمة من العوالم الأخرى، والمشكلة الأكبر أن يتعمد الكاتب من هذه العوالم تناول بعض المسائل للفت انتباه للحصول على الجوائز أو الترجمة بما في ذلك اقتحام أو انتهاك بعض التابوهات. وما يلفت الانتباه بشكل كبير في السنوات الأخيرة في السعودية الدعم الحكومي الكبير للثقافة عموماً والأدب بشكل خاص مما يبشر بمستقبل زاهر ومشرق للإنتاج الأدبي في المملكة والعالم العربي عموماً على تفاوت. وما هذا الإنتاج الغزير في الرواية إلا استجابة لحاجات خلقها الواقع الجديد الذي يتزايد فيه الحوار وتتبلور فيه القيم الفردية وهي محاضن مناسبة لتفريخ الروايات.
تحيل مختبرات الكتابة كما نشهده من تأثيرات طاغية في المشهد السردي على بقية الأنواع إلى ما يشبه حالاً من الفرز في التأثير على الأدب المكتوب والشعر إجمالاً، برأيك هل يبقى الشعر فريد عزلاته؟
- صحيح أن السرد يتربع على المشهد، ويحظى بالتشجيع بمختلف أشكاله، كما يحظى بإقبال كبير من الجمهور وهذا شيء جيد ومبهج، لكن الشعر هو الأصل والجوهر، وهو الدهشة المفقودة عندما نكبر، وهو الطفولة، وهو الاستجابة الصادقة لنداءات الأعماق وهو الجمال، ولو تأملت الأجناس الأدبية الأخرى لأدركت أنها إنما تكتسب أدبيتها من الحالة الشعرية التي تتلبسها هنا وهناك وبين السطور، هذا الارتباط القوي بالإنسان والجوهر فيجعله لا يختفي وإن خبا ومضه قليلاً، الشعر موجود، وله متذوقوه وله رعاته وأمسياته.
هناك العديد من الدراسات على مدى عقود مضت، أثْرت جانب الدوريات الثقافيــــة والعلميـــــة المحكمـــة، بمباحث علم اجتماع الأدب والثقافة في العالم، لكن ما يلاحظ هو غياب الاهتمام المؤسسي بمثل هذه المجلات عربياً إلا لماماً!
- لو نظرنا إلى المجلات العربية الرصينة التي اهتمت في مرحلة من وجودها بعلم اجتماع الأدب وخصصت مقالات بل أعداداً لقضاياه في نهايات القرن الماضي، لوجدنا أنها متخصصة في النقد الأدبي مثل فصول حيث خصصت عددين متتاليين لسوسيولوجيا الأدب آتية على أغلب قضاياه، بما في ذلك بعض الدراسات التطبيقية التي قاربت هذا العلم. وكذلك مجلة الأقلام العراقية التي نشرت عدة مقالات ودراسات في علم اجتماع الأدب، وبما أن مشكلة هذا الفرع من علم الاجتماع التباسه بالنقد الأدبي، فإن كثيراً من الدراسات الأدبية التي تتعدى الشكل أو الأدبية أو الجمالية والمنحازة إلى المضمون والسياقات المختلفة تناولت وما زالت تتناول الواقع الاجتماعي متجاوزة النص، فهل يطلق عليها علم اجتماع أم دراسات أدبية نقدية؟ وهذه إشكالية صعبة يواجهها علم الاجتماع الأدبي كما يواجهها النقد الأدبي، وإن كان بدرجة أقل، بالنسبة للوقت الحاضر فهناك مجلات كثيرة للأدب لكنها لا تذكر علم اجتماع الأدب، ولا يوجد مؤسسات تهتم به وترعاه، كما أن الجامعات لا تدرسه كمادة إجبارية أو اختيارية، إنما قد يكون ذلك في الدراسات العليا على نطاق ضيق كاجتهاد من أستاذ المقرر. لا أعتقد أن هناك تجاهلاً من المؤسسات للفعل الأدبي عموماً، فهناك حراك ثقافي مؤسسي واسع، ولكن عندما يتعلق الأمر بعلم اجتماع الأدب فلا نكاد نرى شيئاً. ربما بانتظار أن يحل علم اجتماع الأدب إشكالاته النظرية والمنهجية وهذا مرهون بممارسيه بالدرجة الأولى.
في ظل التحولات الثقافية والرقمية بالاستناد إلى تأثير العقل الاصطناعي كما يروج لذلك حديثاً، ما مستقبل الأدب؟
- الاحتمالات أن يكثر المزيفون وتتراجع الحقوق الفكرية، ويبرز أنصاف المبدعين، الذكاء الاصطناعي في مجال الأدب كما أعرفه يستطيع أن يكتب لك قصة أو مقالة أدبية بمجرد تزويده ببعض الكلمات المفتاحية أو الأوامر وأنت وحظك، إما دانة أو قرش مفترس، الذكاء الاصطناعي يبحث عن النفايات في الشبكة العالمية ويرتبها بصيغة فنية وفق القواعد المعروفة فتخرج بأخطاء فادحة، والأدهى والأمر أنها جافة صلبة بلا روح، فهي باردة تفتقد المعنى والحس الإنساني، هذا لا يعني أن الذكاء الاصطناعي ليس مفيداً في مجال البحوث والدراسات والتطبيقات العملية كإنترنت الأشياء، وهو مفيد للبشرية في الأمور الأخرى بشرط مواكبة تطوره بقوانين صارمة ومحكمة، تحد من خطورته على الإنسانية أو البشرية، فلم لا يكون هناك ميثاق أخلاقي للذكاء الاصطناعي.
كيف تنظر إلى العلاقة المشتبكة بين الأدب والثقافة والمجتمع في ظرفية راهنة ومتحولة تشهد زخمها المملكة ثقافياً كمدخل لتنامي اقتصادات ثقافية مواكبة؟
- من محاسن الصدف أن تتزامن الحركة الثقافية والأدبية النشطة مع تغير اجتماعي ثقافي كبير وسريع، ليس عفوياً عشوائياً، وإنما بقرار سياسي، ومن خلال خطة مستقبلية شاملة هي رؤية 2030. وقد أولت الجانب الثقافي اهتماماً كبيراً، وعندما أقول الثقافي أقصد بمعناه العام المتمثل بأساليب الحياة، وهي تغيرات غير مسبوقة. إلا أن الثقافة بمعنى النشاط الثقافي البحت المتمثل في الآداب هو الآخر لقي عناية وتشجيعاً حكومياً كبيراً، فأنشئت وزارة الثقافة بمنظور جديد يراعي التعريف العام للثقافة، وانبثق منها عدة هيئات تمثل الأنشطة الإنسانية المختلفة المحملة بلمسات جمالية، مما انعكس على الحركة الأدبية، وأخص بالذكر هيئة الأدب والنشر والترجمة، وهيئة المسرح والفنون الأدائية وهما الأكثر التصاقاً بالأدب. الملاحظ أن المملكة مرت بتغير اجتماعي كبير في سبعينات القرن الماضي وهو ما تعارف عليه الباحثون بالطفرة الاقتصادية الأولى الناتجة عن زيادة أسعار البترول، وزيادة الإنتاج، تزامناً مع تدشين خطط خمسية طموحة أحدثت شبه هزة في المعيار الاجتماعي والسلوك، وقد يرى البعض أن ذلك أحدث ما يسمى في علم الاجتماع بالهوة الثقافية cultural lag والمقصود به تخلف العناصر المعنوية من الثقافة عن العناصر المادية منها أو عجزها عن اللحاق بها. أما التغير الحاصل الآن فبالإضافة إلى أنه مخطط، فهو موجه للثقافة المعنوية بقدر توجهه للعناصر غير المادية، أي أنه متكامل. وكلاهما من فوق، وسريع، غير متدرج، وهو تجربة اجتماعية جديدة حتماً سوف تؤثر في مضمون وشكل الأدب خصوصاً السردي منه، وسنرى أشكالاً من الحياة الجديدة منعكساً بشكل ما في الأعمال الأدبية. وقد تتأخر الرواية في التفاعل مع هذه التغيرات، بيد أن القصة القصيرة، والقصيرة جداً هما الأقدر الآن على التفاعل مع ما يعتمل في المجتمع من أفعال وعلاقات وأشياء. ومؤهلة للعودة للواجهة من جديد.

ذو صلة