صنعت الدلة بحرفية غاية في الإبداع والذوق الفني لذلك فهي ملهمة للارتقاء بالمزاج والإحساس الرفيع وتوجت كإناء ذي قيمة اجتماعية وعلى مستوى راق لتقديم القهوة العربية لعشاقها، واحتسائها لتبادل الحديث وفتح النقاش وطرح الحلول وتداول الآراء وبدع القصيد ورواية الأحداث، وكأن الدلة وهي تطوف المجالس والردهات حمامة سلام تؤدي رسالتها، وتضفي على المكان البهجة والارتياح، فأجمل الأشعار أنشدت في حضرتها، وأحسم الأمور قررت، وأفلح الآراء طرحت وأخفت البوح، همست وهي تلمع ببريقها في العيون. لا يكاد يخلو منها بيت سعودي وربما كل بيت عربي. فالضيافة لا تبدأ إلا بها ولا تكتمل من دونها. أنيقة رشيقة، مصممة بخيال فنان ومصنوعة بيد ماهر، حاضرة في وجدان إنسان الجزيرة العربية ولامعة في الفلكلور العربي، آسرة للمزاج ومقدمة الكيف بحفاوة للضيف. تحفة فنية مصنوعة من نحاس ولكنها تساوي وزنها - عند عشاقها- ذهباً، حيث تجاوزت قيمتها في أحد مزادات سوق الزل بالرياض أكثر من 200 ألف ريال، ويُعزا ذلك إلى قيمتها التاريخية. (جريدة الرياض)
ارتبطت الدلال بقصص حب ووفاء عند مقتنيها واتخذت لها مكانة عاطفية عميقة حتى كأنها أحد أفراد الأسرة، بل إنها تنتقل من جيل إلى آخر حيث يتوارثها الأبناء من الآباء والأجداد ويحافظون عليها كرمز لتقديرهم وذكرهم لأصحابها بعد رحيلهم، وكثيراً ما تكون مدار حديث المجالس من حيث تاريخ ومكان صنعها أو قصص وقائع واجتماعات بين الشخصيات، أو تخليداً للمناسبات، فهي حاوية القصص وراوية الأشعار والشاهدة على كل يوم بهيج أو ليل شديد فمنها تنطلق الحلول وتفك العقد ويتخذ القرار.
ويذكر أن أول من استقدمها للجزيرة العربية حاتم الطائي بعدما شاهدها في قصور الغساسنة وأعجب بها، ولعلها أخذت من حاتم رمزية الكرم العربي.
وتحكي الأساطير أن تصميمها مستوحى من تفاصيل قوام امرأة حسناء، فهي ذات خصر وصدر وعجز، وهامة شامخة.
وتعد صناعة الدلة محل فخر واعتزاز أهل الأقاليم التي تصنع فيها، إلى درجة أن أصبحت تنسب لبلادها؛ فهناك الدلة الحساوية، وهناك البغدادية، وأيضاً الدلة النجرانية، وكذلك القريشية، والدلة الحايلية، ودلة القصر النجدية التي تصنع أيضاً في حائل، وهي من أندر أنواع الدلال، وهناك من نحتت أسماء صانعيها على جوانبها كوسم على ناقة، مثل رسلان الذي ينحت اسمه على جانب من الدلة كعلامة للجودة، وهي دلة شامية شهيرة.
وفي لفتة ذات بعد ثقافي عمدت شركة أرامكو السعودية في حفل افتتاح سكة الحديد في الرياض إلى اختيار الدلة لكتابة لوحة تذكارية للمناسبة بتاريخ 19 محرم 1371هـ الموافق 20 أكتوبر 1951م، وتم تقديم القهوة لراعي الحفل جلالة الملك عبدالعزيز -يرحمه الله- وتوجد هذه الدلة في متحف ذكريات من الماضي لصاحبه محمد الصمعاني في القصيم، وقد صرح بحكايتها في برنامج تلفزيوني على (قناة الصحراء) وأفاد أنه لا يوجد منها إلا دلة واحدة فقط. ومازالت الدلة تحافظ على مكانتها عبر الأجيال حيث تحولت إلى مجسمات جمالية ضخمة على كثير من مداخل المدن السعودية وميادينها كرمز ذي دلالة ثقافية وتراثية، تعبر عن مدى عمقها في الوجدان وحضورها في الذاكرة، فهي نبضة حب، وتلويحة كف، وروح تسري في جسد الحياة.