مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

صانع الأُطُر

يمتلك الكائن البشريّ، بخلاف غيره من الكائنات، قدرات هائلة مكّنتْهُ من التصرّف الواعي مستقلّاً عمّا يُحيط به من المخلوقات، وجعلتْهُ قادراً على تغيير شروط حياته، وتطمين حاجته إلى التحكّم بوجوده، وإدارته لمصلحته. هذه القدرات المميّزة ضمنت له، على الدّوام، نفوذه على بسطة الحياة، ودعمت إرادته في السّيطرة على محيطه، والتّحكّم بمصيره، وإنفاذ أهوائه سيّداً على الكائنات، والأشياء، والمآلات.
إنّ مزاياه الجسديّة والعقليّة التي حظي بها، وحده، منحتْهُ تلك القدرات وأعانتْه على خلق الوسائط، والوسائل، والأدوات، وإنتاج الخبرات، والعيش في ذاكرة حيّة، داخل إطار منظومة ثقافيّة تغتني، وتتنوّع لتدعم حياته، وتُحسّن أحواله، وتجعله قادراً على تحمّل أعباء الوجود، ومتاعب الحياة مهما قستْ، واستفظعت.
لعلّ أهمّ ما أنجزه الإنسان، أوّلاً، تلك المسافة التي فصلتْه عن الطّبيعة ليعيش بين الوسائط، والبدائل، ثم بين المعاني، والتّصوّرات في ثقافةٍ استرخت، وتمدّدت على تخوم العالم الطّبيعيّ، وفي نظيرٍ موازٍ له بات، مع الأعوام، بمنتجاته المتنوّعة، شكلاً من أشكال الاستجابة المتحدية لمادة الطبيعة، وكان بين تلك المنتجات تلك الآثار التي كان وراءها قلق الإنسان الأقدم على وجوده، ونجواه، واستيهاماته.
إنّه محظوظ بحيازته جسداً ودماغاً في أعلى درجات الكمال والتطوّر، والمَكَنة في تحقيق التّفاعل الدّيناميّ الخلّاق مع مادة الطبيعة، وإنجاز الفعل الحياتي المتنوّع الذي يمكن رؤيته، بنتائجه، متحقّقاً على أرض، أو ماثلاً في فضاء. إنّ وراء هذا وذاك أعضاءَ جسدٍ ودماغٍ مزوّدة بحصيلة وافرة من الطّاقات والملكات تعمل متعاضدة، فتصنع وسائل حياة، وتُنتج معنى.
الإنسان خالق الإضافات، واللّواحق، والمعاني، والأنظمة، والتّواريخ، والأزمنة، وهو دليل العالم إلى ذاته، وبين يديْه برهانه، فضلاً عن أنّه مُقسّم الحياة والوجود على مستوييْن: ماديّ، وروحي، ومنقسم على نفسه بين وجوديْن: أحدهما واقعي عمليّ، والآخر استيهامي سحري، كانا، وما يزالان شَرْطيْ حياته. ليس هذا فحسب! فهذا الكائن العاقل هو من حوّل مادة الطّبيعة الخام إلى شعرٍ، وحرّرها في صورٍ بخياله، وهذا ما يعنينا هنا.
الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا ينفكّ عن نزعته في الاستقواء بملكاته، بآثارٍ، يصوغُها خيالُه، ويضعها في خدمة حياته بمطالبها العمليّة والمعنويّة. تلك الآثار التي يُنظَر إليها اليوم كتُحفٍ فنيّة، كانت بعض وسائله، وحِيَله للتأثير في محيطه، وإخضاعه، وحصْد منافعه.
احتفظ الإنسان بقدرته على تحريك نظرته في المدى، ومدِّها بعيداً، واستطلاع الأفق، بما يعني رحابة تلك النّظرة المستقوية بالوعي، والخيال، والاختبارات. ومع الأيّام عاش بما يُنجزُهُ في يومه، وما يتطلّع إلى إنجازه في غده، إنّه ابن وعوده، ابنُ خطابه المرسل إلى ذاته الخاصّة، وإلى الذواتات العامة، وابن شوقه إلى رؤية نفسه بمزاياها، ونزوعه إلى حصد الاعتراف بجداراته، وتطلّعه إلى نصْب مِثالِهِ على منصةٍ عالية في هواء العالم. إنّه يحتفظ بنزوعٍ لا يفتر لخلق أثرٍ، واختلاق تصوّرٍ فيه، وعنه، وهذا النزوع المكين يكاد يكون غريزة قَبْليّة كامنة في خلاياه، وأعصابه. غريزة هادرة لا يقرّ لها قرار هي بعض أسباب قلقه، وأرقه، واستطالة همّه.
يعيش الإنسان في قصْد، ويتحرّك في هدف، ويستظلّ بمعنى، ويعمل في ضوء مخطّط، وينام، ويستيقظ في مشروع، ومادة الطبيعة بالنسبة له مبذولة للتّحوير، والتّكييف، والتّحويل، والاستثمار، والإنتاج. إنّها تستوي، أو تتكتّل بانتظار فعله. وهو، إذ يفعل، ويُنجز، ويُضيف، لا يتوقّف، على الإطلاق، عند هذا الحدّ، بل اهتمّ بنصب ذاته في فضاءٍ أعلى فوق مادة الطبيعة، واحتفى بفعله وقواه في أشكالٍ من اللّغات. وهو، ليس أخيراً، صانع الأُطُر، المسؤول عن زوايا النّظر.
يتحرّك الإنسانُ في الزّمن، يختطف لحظاته الآنية، ويسبق لحظاته القادمة، ويوسّع مدياته بما يخلقه فيه، فيتمكّن من الحياة في أكثر من زمنٍ واحدٍ، محدّد. إنّ الأثر الذي تخلقه يداه، ودماغه يجعله يحيا في زمنٍ مضافٍ هو زمن الأثر، مخلوقه الذي سيعيش بعده. سواءٌ أكان هذا الأثر فأساً حجريّة، أو رسماً على جدار، أو كلمةً غامضة للاستهواء. هذا الأثر هو وسيلته لخلق ألفةٍ ضروريّة في عالمٍ متوحشٍ.
لعلّه -الإنسان- مدينٌ إلى بدائيّته الأولى التي ألجأتْه إلى السّحر ليواجه غموض العالم، واستعصاءه، ولا مبالاته. وكان ذلك السّحر رسماً على جدار كهف مرّةً، وكلمةً مستطردة بنصف همهمة، ونصف إشارةٍ مرّةً أخرى. وإذاً فما كان رسماً لاصطياد فرائس، أو كلمةً لإطفاء حرائق، استوى تعبيراً مع الزّمن، واستغراقاً في الشّعور، وتحريراً للمشاعر، والأحاسيس، واستجلاباً لأخطر ما أضافه الإنسان، وعاش في ظلّه كالمأخوذ: المعنى.
وقعت المؤاخاة هناك، ثمّ وقعت هنا، بين مادة العالم المعطاة في الخارج، وآثار الخيال. وهذه الأخيرة كانت، وماتزال سيرة حياة البشريّة، وحكايتها مع المعنى الذي لم يكن منه بدّ حتّى في احتجابه.

ذو صلة