نجد الباحثين في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية اليوم يوجهون اهتماماتهم نحو الأرشيفات الرقمية الجديدة، ويكيفون أساليب مناهجهم ويعيّنون أدوات مناهجهم من أجل الاشتغال بها على الفضاءات الرقمية. وفي هذا الصدد، ينبغي التمييز بين تلك المناهج الكلاسيكية، أو العادية، التي طالما اشتغل بها علماء الاجتماع كالمناهج الكيفية المألوفة، وعلى رأسها المنهج الإثنوغرافي، وأسلوب دراسة الحالة، وأدوات الملاحظة، والمقابلة المفتوحة أو نصف الموجهة، وتقنيات تحليل المحتوى أو المضمون، وتحليل الخطاب، علاوة على المناهج الرقمية المرتبطة بتقنيات جمع ومعالجة المعطيات الكمية والكيفية التي ولدت داخل بيئة رقمية خالصة، من قبيل تقنيات تحليل المحتوى بواسطة الحاسوب، من خلال تثبيت وتفعيل مجموعة من البرمجيات المعلوماتية، مثل برنامج أطلس تي آي = Atlas Ti وصولاً إلى النوع الثالث، وهو ما يعرف اليوم بالمناهج الافتراضية، التي يمكن تحديدها باعتبارها مناهج البحث الاجتماعي المألوفة (كالمقابلة عن بعد.. وغيرها من تقنيات البحث الكيفي المكيفة، التي جرى تكييفها بعدما نقلت نحو الفضاء الافتراضي، وهي ما يجمع تحت اسم الإثنوغرافيا الافتراضية) (قاوقو محجوبة 2019، ص.92).
إن التحولات التي عرفتها المورفولوجيا الاجتماعية بظهور ما بات يعرف اليوم بالمجتمعات الافتراضية، على ضوء تكنولوجيا المعلوميات والاتصالات الرقمية؛ أصبح يطرح (إشكالية التجديد المنهجي)، في إطار علاقة تفاعلية وتكاملية بين مناهج البحث الاجتماعي المألوفة أو العادية، كما وضعها الرواد الأوائل للنظريات السوسيولوجية والأنثروبولوجية الكلاسيكية والحديثة، والمناهج الرقمية والافتراضية المعاصرة، فيما أصبح يعرف اليوم بالسوسيولوجيا الرقمية أو الإثنوغرافيا الافتراضية. فلاشك أن التكنولوجيات الجديدة لوسائط الإعلام والاتصال، قد غيرت بنيات الأشكال الاجتماعية، انطلاقاً من تغيير هذه الوسائط لتصوراتنا وتمثلاتنا لمفهومي الزمان والمكان، حيث حلت (الزمكانية) محل المجالية، وانضافت الحركة الافتراضية إلى الحركة المجالية الفيزيقية، مما يجعل (النقاشات السوسيولوجية) اليوم، تتجه نحو التساؤل عن طبيعة المنهجية الملائمة التي يمكن توظيفها في دراسة كائنات افتراضية لها مقاييس خاصة في التحديد الهوياتي، وأضحى لها منطق خاص في الحركة، يتحدد انطلاقاً من مفهوم الإبحار (Navigation) على فضاء رقمي أثيري ولا نهائي، بدلاً من التحرك داخل فضاء مادي محدد مكانياً وزمانياً (قاوقو محجوبة، 2019، ص 94)، ولا تثريب في أن التغيرات المستحدثة على مستويات العلاقة بين الإنسان والزمكان في المجتمع الافتراضي المعاصر، قد استحدثت مجموعة من الموضوعات والقضايا والإشكاليات القمينة بالدراسة والتحليل والفهم والتفسير مع التأويل، وهو ما يعني ضرورة التجديد والابتكار في (البراديغمات) والمقاربات النظرية والإبستمولوجية، وفي الأساليب.
ما هي الإثنوغرافيا الافتراضية؟
إنها أسلوب أو مقاربة وصفية تصنيفية، تفهمية وتأويلية لما بات يعرف بالمجتمعات الرقمية أو الافتراضية، تمييزاً لها.
وإذا كان الغرض من البحث العلمي التكنواجتماعي، يتعلق إجمالاً بتناول ودراسة مواضيع وقضايا مرتبطة بمجتمع المعرفة والاتصال، بما فيها المجتمعات الرقمية أو الافتراضية؛ فإن هذا المجتمع العالمي الشبكي والرقمي، يوجد متراتباً ومتمايزاً، بل متبايناً ومتفاوتاً، من حيث البنيات والرساميل المادية والعلمية، والمعرفية والثقافية، بين من يملك التقنيات والمعلومات والعلوم والمعارف واللغات، ويتحكم فيها؛ وبين من لا يملكها، بل يستهلكها فقط، مما يقتضي استحضار واقع تلك (الفجوة الرقمية) التي تتعلق بمظاهر التفاوت المعلوماتي بين الأمم المتقدمة والأخرى المتخلفة على مستوى البنيات التحتية المعلوماتية ومقومات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، كما على مستوى اللغات ذات الفعل الحضاري، وإدارات البيئة الإلكترونية والتحكم في تدبير وانسياب أو تدفق المعلومات طوال الوقت لأجل المعرفة والاطلاع والبحث العلمي، وبناء المجتمعات الافتراضية، ومواكبة التفاعل الاجتماعي الرقمي ورصده وتحليله. (رحومة 2008، ص. 198-197).
فلما كانت الميزة الأساسية للمجتمع المعاصر، مجتمع الاتصال، هي أنه مزدوج: مجتمع تواصلي، ومجتمع استهلاكي؛ فإنه من الجدير مساءلة الوظيفة التي يتم استنتاجها من كون الاستهلاك يشتغل كمؤسسة وكشفرة معممة لقيم الاختلاف والتميز، ومن وظيفة نسق التبادل والتواصل عموماً (135.Jeanp Boudrillard ; 1970 ; p) أنه مجتمع تعلم الاستهلاك، أو مجتمع التشجيع أو الترويض الاجتماعي على الاستهلاك في علاقته بانبثاق قوى إنتاجية جديدة هي الرأسمالية الليبرالية القائمة على الهيمنة الأحادية، وإنتاج التفاوتات بين الشعوب والأمم والمجتمعات. فحتى اليوم (تبقى الولايات المتحدة الأمريكية هي المسيطرة إدارياً وتقنياً على الشبكات العنكبوتية العالمية (www)، بوصفها بنية إلكترونية كونية تحوي مختلف مظاهر الاتصال والتفاعل الرقمي للأفراد والجماعات والمنظمات والمؤسسات المحلية والعالمية بأنواعها، وذلك نتيجة التقدم الأمريكي في التكنولوجيا الفائقة، والبحوث عالية المستوى في مختلف الصناعات الرقمية الآلية، وتوافر الإمكانات الأمريكية الضخمة في الإدارة والتحكم، إلى جانب التهديدات الأمنية المتزايدة، وأهمية الإنترنت في مجالات التجارة والأعمال والاقتصاد العالمي. ومع ذلك، فإن مسألة إبقاء الإنترنت، فضاء رقمياً عالمياً، يمثل البنية الجديدة لنشوء المجتمعات الإنسانية الإلكترونية وتطورها، تحت سيطرة دولة واحدة؛ لا يرضي بقية دول العالم، فهو أمر له علاقة مباشرة ببسط الهيمنة والتحكم في مقدرات الشعوب المعلوماتية بأنواعها، شاملاً ذلك ما تتعرض له الأصعدة الأخرى من مخاطر في الاقتصاد والاجتماع والثقافة والعلم والتكنولوجا) (رحومة، 2008، ص 198 ص 199).
إن هذا الحذر الإبستمولوجي تجاه اختلاف وتباين السياقات والوضعيات في دراسة شتى مناحي استخدام وتوظيف الجمهور العربي لوسائل الإعلام الرقمي، يستتبعه حذر منهجي في استثمار تقنيات أو أدوات المنهج الإثنوغرافي الافتراضي على مستوى المجتمع العربي، المجتمع المستهلك غير المنتج للمعلومة والوسيلة الإعلامية معاً. إن الباحث العربي في مجال التكنولوجيات والمجتمعات المحلية الافتراضية، مازالت تعترضه مجموعة من العوائق الإبستيمية في القيام والتحكم في سيرورة بحثه، وذلك في بيئة مركبة طبيعية وافتراضية، جد معقدة، يتزاوج فيها الإنسان بالآلة الهاتف الذكي أو الحاسوب المحمول، بما يعيد صياغة أفكارنا ومعتقداتنا حول الهوية الشخصية. ذلك أنه عندما ندمج العقل بالآلة، تتبدد الحدود التقليدية للذات أو الهوية - على حد تعبير (ديفيجا ميهتا) (Dvija Mehta) الباحثة في الأخلاق العصبية وفلسفة العقل والوعي والذكاء الاصطناعي بمركز ليفرهولم (Leverhulme) المستقبل الذكاء بكلية الملك بجامعة كامبريدج. فالتقنيات الحاصلة اليوم على مستوى واجهة الدماغ والحاسوب (BCI=Brain-Computer interface) والتي يجري تطويرها اليوم، تشير بالفعل إلى حقبة جديدة في تكنولوجيا تشابك الدماغ البشري والآلات، مما يتطلب منا إعادة النظر في حدسنا حول الهوية والذات والمسؤولية الشخصية عن أفعالنا وأحداثنا (Our Doing and Happening)، بطرح سؤال: هل هي أفعال تعد امتداداً للعقل البشري، أم شيئاً منفصلاً عنه؟ ((2004)، D. Mehta)