مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

سؤال المنهج في عالم متغير

لقد أعمل الإنسان، ومنذ قديم الزمان، التفكير المنظم في معالجة مشكلاته، لكنه لم يستعمل مصطلح المنهج إلا حديثاً، وذلك حين وضع ديكارت، ولأول مرة، تعريفاً واضحاً للمنهج، فالمنهج في رأيه، مجموعة من القواعد التي تمنع مستعملها من توّهم الباطل حقاً، وتقوده إلى المعرفة الصحيحة بالأشياء المدركة، وتصرفه عن تبديد وقته وجهده في أمور غير نافعة. وخلال القرن الثامن عشر ترسخ مفهوم المنهج الوضعي التجريبي، واتضحت معالمه، ثم تعددت المناهج وتنوعت أساليبها، فظهر المنهج الوصفي والتحليلي والتاريخي والاستقرائي والاستنباطي إلخ. وعلى الرغم من تعدد المناهج فإنها جميعاً تشير إلى مجموعة الإجراءات المتتابعة والمنطقية التي تستهدف دراسة موضوع ما دراسة علمية. ومع أن الغاية من استعمال المناهج تحري الدقة والموضوعية في دراسة الظواهر، فإن تطبيقاتها محكومة بالسياق الخارجي، فالمناهج لا تتحرك بمعزل عن طبيعة الأنساق الاجتماعية، والشروط الحضارية، فقد سمعنا عن محاكمة سقراط قديماً، ومحاكمة كوبرنيكس وجاليلو، وخضوع فرويد لضغوط مجتمعية دفعته، حسب ويلهلم رايخ، إلى تعديل نتائج بحوثه. فالمناهج، ورغماً عن دقتها، فإنها لا تقدم حقائق مطلقة، إذ سرعان ما تتكشف فجواتها، فيتم الاستدراك على نتائجها التي ترسخت كحقائق وأقيمت على أساسها صروح علمية شامخة: كالقول بتماسك الذرة، والاحتفاء بمخرجات نظرية الجاذبية، ومفهوم الأثير إلخ. ومع تقدم البحوث تم تفتيت الذرة، وتبين أن الحقائق التي نشكلها نسبية وليست مطلقة، وأن كوننا رباعي الأبعاد وليس ثلاثياً كما يقول نيوتن، والآن تتجه بعض الرؤى إلى القول بتعدد أبعاد الكون. وعلى الرغم من أن جميع المناهج تتفق حول الأسس العامة فإن بعض أسسها وإجراءاتها لم تسلم من النقد، ولاسيما مناهج العلوم الإنسانية، ومن ذلك الانتقادات الحادة التي وجهها ويليام دول لنظرية المنهج عند رالف تايلور، حيث ذهب دول إلى أنّ نظرية تايلور ذات الطابع السلوكي تتناسب وعصر ما بعد الحداثة. فالمناهج طريقة في التفكير، لذا فإنّها تتأثر بالسياقات الحضارية وتحولاتها، ففي ستينات القرن العشرين، على سبيل المثال، شهد العالم ثورة في مناهج العلوم الإنسانية، حيث ظهر مصطلح موت الفلسفة، موت البنيوية، موت المؤلف إلخ. واستناداً إلى ذلك أُعيد النظر في مفهوم اللغة والإنسان والحقيقة والهوية والمعرفة، فتغيرت إستراتيجيات الباحثين، ولاسيما التفكيكيين وأنصار تحليل الخطاب والنقد الثقافي والأنثروبولوجيا واللسانيات والسيميائيات وغيرها، حيث انتقلت إستراتيجيات التحليل من مركزية المؤلف والنص إلى مركزية القارئ، ومن موضوعية النقد إلى التأويليات، ومن مركزية النسق والبنية إلى التعدد والاختلاف. فالمناهج تتأثر بالمنجزات الحضارية المؤثرة في الواقع، فمع بداية تسعينات القرن العشرين أحدثت ثورة الاتصالات والتكنولوجيا تغيرات عميقة في المفاهيم والتصورات والعلاقات، فأفرزت واقعاً افتراضياً موازياً لعالمنا المادي، لكنه متداخل معه، وانتقل المجتمع من مجتمع التصنيع إلى مجتمع الخدمات، ومن اقتصاد السوق إلى اقتصاد الشبكات، ومن عالم التملك إلى عالم الوصول، ومن الحروب التقليدية إلى الحروب السبرانية، ومن مركزية الدولة القطرية إلى فضاءات العولمة. ولقد أفرزت هذه التحولات معطيات حياتية جديدة، ومشكلات مركبة، وأزمات متلاحقة، الأمر الذي دفع الباحثين والعلماء إلى إعادة النظر في المناهج وأهدافها وإستراتيجياتها وأساليبها، فالباحثون اليوم يواجهون عوالم متشابكة، ومعاملات تأثير متعددة ومتنوعة، ومعلومات وفيرة ومتشعبة، ومداخل متباينة لكنها أساسية. وربما أشار أنشتاين، ومنذ العام 1946م، إلى جوهر الأزمة، ففي برقية أرسلها إلى الرئيس روزفلت بشأن الانفجارات النووية يقول إنّ الطاقة الكامنة للذرة قد غيرت كل شيء إلا أساليب تفكيرنا، وأنّ البشرية تتجه نحو كارثة لا نظير لها. فالبرقية تشير إلى ضرورة الانتقال من سؤال المنهج إلى سؤال القيمة. وفي ذات المسار يعزز أورنشتاين وإيرليش ما ذهب إليه آنشتاين، فقد ذهبا إلى أن البشرية في حاجة إلى عقل جديد قادر على فهم العالم الجديد، وأن البشرية لم تدرك مخاطر هذا العالم، فهناك فجوة عميقة بين تطور عالمنا المادي وتطور بيئتنا الروحية، وأن هذه المفارقة تشكل، في رأيهما، أكبر تهديد لحضارتنا، وأن طريقة التفكير السائدة سبب أساسي في مشكلاتنا المعاصرة، ولهذا ينبغي إعادة النظر في طرائق تفكيرنا، وأن نتجه إلى تصميم المناهج التي تحقق الهدف المنشودة، وأن نصيغ الأهداف من أجل إعداد الأجيال لمواجهة العالم الجديد، حيث ينبغي أن تشتمل مفردات المنهج المقترح على: التعريف بالطرق التي تشكلت بها إدراكاتنا، ومعرفة اختلاف هذه التشكلات بين حضارة وأخرى، واختيار أفضل السبل لتقييم المعلومات والآراء، والاهتمام بمجالات الاستثمار البشري التي تعزز بقاء المجتمع، وتقديم التطور الحضاري بجوار التطور البايولوجي للإنسان. إن المقترحات التي قدمها أورنشتاين وإيرليش تمثل مدخلاً مهماً للانتقال من شكلانية المنهج إلى سؤال الموقع وإستراتيجيات البحث، فمشكلات اليوم لا تتطلب تغييراً في المنهج وخطواته من حيث تحديد المشكلة ووضع الأسئلة والفرضيات وجمع المعلومات وتصنيفها وتحليلها، ولا في استعمال المنهج المناسب لطبيعة المشكلة إلخ. إنما تحتاج إعادة النظر في أثر الموقع الذي يختاره الباحث في تحديد المشكلة ومجريات الدراسة. وعلى سبيل المثال فإن الموقع الذي يختاره الباحث لدراسة أثر منظمة التجارة العالمية في عالمنا المعاصر -سيؤثر عميقاً في الوقائع والمعلومات والإستراتيجية والنتائج المستخلصة، فمن ينظر إلى الموضوع من موقع الشركات الكبرى- فسيحدد المشكلة في العوائق التي تحد من نشاط المنظمة، أمّا من ينظر من موقع الدول الفقيرة فسيحدد المشكلة في البطالة والأجور والرعاية الصحية والتعليم إلخ. كما أن كلاً منهما سيختار معاملات تتناسب ومشكلة البحث، فبينما سيختار مناصر منظمة التجارة العالمية تسارع معدلات النمو، فإن الآخر حتماً سيختار معدلات الفقر.
هذا فقد تغيرت كثيرٌ من الوقائع المشكلة لعالمنا المعاصر، حيث انتقلنا من عصر التملك إلى عصر الوصول، ومن اقتصاد السوق إلى اقتصاد الشبكات، وقد أدى ذلك، حسب ريفكين، إلى إعادة هيكلة حيواتنا لتتلاءم مع عالم الشبكات، لذا ينبغي إعادة النظر في المواقع وإستراتيجيات التحليل، إذ لا ينبغي، مثلاً، الاكتفاء بتفسيرات اختصاصي المعلوماتية والمهندسين للاتصالات، لأنهم يكتفون بفحص فعالية الاتصال وحماية الشبكات، بينما نحن في حاجة إلى مناهج التحليل السايكولوجي والسيميائي والأنثروبولوجي، لأنها تنظر إلى الاتصالات بوصفها جهازاً لتوليد المعنى الاجتماعي وتثبيته، وتبحث في اكتشاف القيم المشتركة والعلاقات الاجتماعية، بحيث تصبح الاتصالات والثقافة، كما يقول ريفكيلين، وجهان لعملة واحدة.

ذو صلة