يعتبر البحث العلمي ركيزة أساسية لنهضة الأمم ومحركاً رئيساً للإبداع والابتكار، حيث تشير الإحصاءات إلى استثمار الدول المتقدمة في البحث العلمي بنسبة أكثر من 3 % من ناتجها المحلي الإجمالي. إلا أن إحصاءات العالم العربي تظهر فجوة كبيرة مقارنةً بالدول المتقدمة في إنفاقها على البحث العلمي بمعدل أقل من 0.5 % من الناتج المحلي الإجمالي، ويبلغ المتوسط العالمي للإنفاق على البحث العلمي زهاء 2.2 %. وفي مقدمة الدول العربية الأكثر إنفاقاً على البحث العلمي كل من: المملكة العربية السعودية عبر رؤية 2030 في مجالات التكنولوجيا، والطب، والطاقة المتجددة، الإمارات العربية المتحدة في مجالات التكنولوجيا والابتكار والطاقة المتجددة، والتي تصل إلى قرابة 1 %. ويبقى البحث العلمي الزراعي يعاني بالمجمل من ضعف التمويل رغم أهميته البالغة في تحقيق الأمن الغذائي في المنطقة العربية عموماً، وبخاصة في الدول التي تعتمد بشكل كبير على القطاع الزراعي الوطني مصدراً رئيساً للغذاء وللدخل لشريحة واسعة من المواطنين. ومن بين بقع الضوء الإيجابية على تمويل البحوث الزراعية، ارتفاع عدد المشاريع البحثية الزراعية الممولة حكومياً وعبر الجهات المانحة في كل من: المملكة الأردنية الهاشمية، جمهورية مصر العربية، المملكة المغربية، الجمهورية التونسية. إلا أن إجمالي المخصص لهذه المشاريع يبقى متواضعاً مما يشكل عقبةً في تحقيق اختراقات فعلية وابتكارات في إطار الزراعة والأمن الغذائي.
في هذا السياق، بات البحث العلمي الزراعي أمراً حيوياً لضمان الأمن الغذائي واستدامة الموارد الطبيعية في ظل التحديات العالمية كالتغير المناخي وشح المياه والتحديات الجيوسياسية التي تجابه المنطقة العربية عموماً وانعكاساتها على سلاسل التزويد والإمداد الغذائي العالمي، ولكون الزراعة الضمان الرئيس للأمن الغذائي المستقبلي، فإن تقديرات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO) تؤكد على ضرورة رفع الإنتاج الزراعي بنسبة تفوق 70 % بحلول عام 2050 لتلبية احتياجات النمو السكاني العربي والعالمي. وهذا لن يتحقق إلا بالاستثمار في البحث العلمي الزراعي، وتطوير تقنيات جديدة تعزز إنتاجية المحاصيل وتوظف التنوع الحيوي في المنطقة العربية وهو الأقدر على التكيف مع التغيرات المناخية وشح الموارد المائية مع ضرورة الاستثمار في الموارد البشرية ورفع كفاءتها.
ولا يعتبر نقص التمويل العقبة الكؤود الوحيدة، بل ما يزيد من حجم التحدي ضعف التنسيق البيني بين المراكز البحثية في ذات البلد وبين الدول العربية، وفوقها ضعف التنسيق بين المراكز البحثية والقطاع الزراعي الخاص، الأقدر على دفع عجلة التنمية عبر الاستثمار في مخرجات البحث العلمي. ويعتبر قصور البحث الأكاديمي الأساس بابتعاده عن البحث العلمي التطبيقي، الذي ينعكس على مقدرات التنمية من خلال إيجاد حلول مبتكرة لتحديات المزارعين كتحسين تقنيات الري، وتطوير المحاصيل المقاومة للجفاف والأمراض وغيرها.
كما تعاني المنطقة العربية من انعزال العديد من الفرق البحثية في صوامع تخصصية دون تقاطعات مع التخصصات المختلفة، لذلك باتت الحاجة ملحة إلى تفعيل أبحاث تربط بين قطاعات المياه والطاقة والغذاء والبيئة (WEFE NEXUS)، فالترابط بينها أصبح من أكثر القضايا تعقيداً في المنطقة العربية، إذ إن 90 % من الأراضي الزراعية في الدول العربية تقع في مناطق تعاني من ندرة المياه وارتفاع فاتورة الطاقة على ضخ المياه وتحليتها وإتاحتها مصادر للشرب والري. ويبقى البحث العلمي الأقدر على اجتراح حلول ذكية لتلك التحديات عبر تطوير أنظمة ري حديثة تعتمد الاستخدام الكفء للمياه والطاقة المتجددة في الإنتاج الزراعي.
ومع التطور التكنولوجي السريع، ظهرت إمكانات هائلة. فيمكن توظيف الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence AI وإنترنت الأشياء Internet of Thingsوتحليل البيانات الضخمة Big Data Analsis في القطاع الزراعي لتقديم توصيات دقيقة لإدارة مزرعية حصيفة. وتشير التقديرات إلى أن توظيف الذكاء الاصطناعي في الزراعة يمكنه زيادة الإنتاجية بنسبة تفوق 20 % ورفع كفاءة استخدام المياه بنسبة تصل إلى 30 %. كما أن لنظم المعلومات الجغرافية وإنتاج الخرائط الجيومكانية Geospatial maps المدمجة مع الخرائط الإنسانية الخرائط الجيوديموغرافية Geodemographic Maps دوراً حاسماً في تحليل البيئات الزراعية، والإسهام في تحسين التخطيط الزراعي وتوجيه الاستثمارات بشكل دقيق لتحقيق أقصى استفادة من الأراضي الزراعية، وبخاصة تلك الحيازات الصغيرة التي تسهم في تحقيق الأمن الغذائي الأسري.
ومن جانب آخر، يمثل الشباب العربي هبة ديموغرافية هائلة يجب إحسان استثمارها بالشكل الأمثل، حيث يشكل الشباب أكثر من 60 % من سكان العالم العربي، والاستثمار في تدريبهم وتأهيلهم وتعليمهم يمكنهم من الإسهام بشكل مباشر في تنمية القدرات الزراعية في المنطقة العربية ويحد من فجوتي الفقر والبطالة ويدرأ تحولهم إلى قنبلة ديموغرافية (Demographic Bomb). وتلعب حاضنات الابتكار الزراعي وحاضنات الأعمال دوراً فاعلاً في تقديم الدعم للشباب والمبتكرين، وتحفيزهم على تطوير حلول زراعية مبتكرة تلبي احتياجات الأسواق المحلية والإقليمية وتعزز ثقافة الإدماج بين التقنيات التكنولوجية التي يرغبها الشباب والعمل الزراعي الذي يعد مضنياً جسدياً، ويجعله غير جاذب لهم.
إقليمياً، تلعب المملكة العربية السعودية دوراً ريادياً في تعزيز البحث العلمي الزراعي من خلال المبادرات مثل (رؤية 2030). هذه الرؤية الطموحة تهدف لتنويع الاقتصاد السعودي وزيادة الاعتماد على الزراعة المستدامة بوصفها ركيزة أساسية لتحقيق الأمن الغذائي. وتشكل الاستثمارات الضخمة في مجال البحث الزراعي في السعودية، خصوصاً في مجالات الري بالطاقة الشمسية وتطوير تقنيات الزراعة المستدامة؛ التزاماً من المملكة نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليل الاعتماد على الواردات بحسب هذه الرؤية.
وتعد المملكة الأردنية الهاشمية نموذجاً يحتذى به في مجال البحث العلمي الزراعي، حيث يضم عدة كليات زراعية ومراكز بحثية متخصصة تعمل على تطوير تقنيات زراعية جديدة تتناسب والظروف المناخية الصعبة في المنطقة، وتلعب دوراً حيوياً في تعزيز البحث التطبيقي الذي يستهدف تقديم حلول مباشرة للمزارعين على أرض الواقع، الأمر الذي أشارت إليه أيضاً رؤية التحديث الاقتصادي في الأردن (2022-2033).
وفيما أسلفت، فإن المنطقة العربية تشهد اهتماماً متزايداً بتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة وتقنيات سلاسل الكتل Blockchainوالتوأمة التكنولوجية Digital Twin Technology في البحث العلمي الزراعي. فمثلاً، يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحسين التنبؤات حول المحاصيل وإدارة المياه، ويسهم في زيادة كفاءة الإنتاجية الزراعية بنسبة 25 % حسب تقارير Oxford Business Group. وتعمل السعودية والإمارات على دعم مبادرات الزراعة الذكية ضمن خطط التحول الرقمي، بما في ذلك مشروع (نيوم) السعودي، الذي يعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة لتحقيق زراعة مستدامة. أما تقنية سلاسل الكتل، فإنها تعزز الشفافية في سلسلة التوريد الزراعية، ما يتيح تتبع مصادر المنتجات وتحسين جودة الغذاء، لدعم جهود الأمن الغذائي في المنطقة. وهنالك العديد من قصص النجاح الأردنية لشباب ناشئين ابتكروا تقنيات ذات فاعلية كبيرة في تطوير برمجيات ومستشعرات تستخدم في الزراعة الدقيقة Precision Agriculture.
وفي الختام، يبقى البحث العلمي الزراعي حجر الزاوية لتحقيق الأمن الغذائي والاستدامة البيئية في العالم العربي. وينبغي تعزيز التعاون البيني بين المراكز البحثية في إطار القطر الواحد وبين الأقطار، وتوظيف استضافة العديد من الدول العربية لشبكات بحثية زراعية عربية وعالمية ومراكز بحثية إقليمية وأممية، وتبني التقنيات المبتكرة عبر توطين المستورد منها وتطوير نسخ محلية منها، لتعتبر هذه الخطوات المفصل الأساس في تحقيق التحول المنشود لتحقيق قفزات نوعية في مجال الزراعة لتلبية احتياجات الأمن الغذائي ورفع نسب الاكتفاء الذاتي لحماية مستقبل الدول والمجتمعات العربية.