مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

أثر الذكاء الاصطناعي على البحوث الإعلامية

على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي استطاع تغيير ملامح العديد من التخصصات والمجالات، بدءاً من القانون وعلوم الفلك وانتهاء بالطب والهندسة؛ إلا أن اختبار قدراته في التأثير على مناهج البحوث في العلوم الاجتماعية وتهيئتها لاستشراف مستوى جديد من المعرفة لم يتم استكشافه بعد على النحو المطلوب.
كذلك يقوم الذكاء الاصطناعي بدور حيوي في العرض البصري للبيانات Data visualisation، حيث يصعب أحياناً استعراض نماذج مختلفة من البيانات الاجتماعية المعقدة، ولكن يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي تحويل الأرقام والإحصاءات المجردة إلى رسومات ولوحات معلوماتية تفاعلية تسهل على كل من الباحثين والجمهور العام استعراض وفهم الظواهر الاجتماعية المعقدة، وتوفر إمكانية التفاعل معها.
بالتركيز على مجال البحوث في العلوم الاجتماعية، يبرز الذكاء الاصطناعي عاملاً محفزاً يغير كافة القواعد الكلاسيكية Game changer، ويعيد تشكيل المشهد البحثي، إذ إن نماذج السلوك الكبيرة LBMs قد أحدثت ثورة في الطريقة التي يجمع بها الباحثون البيانات ويحللونها ويفسرونها. ولا تعمل هذه التكنولوجيا التحويلية على تسريع وتيرة الاكتشاف فحسب، بل إنها تعمل أيضاً على توسيع آفاق ما هو ممكن في فهم أعماق السلوك البشري وطبيعة المجتمعات والثقافات.
ولعل قدرة الذكاء الاصطناعي على معالجة كميات ضخمة من البيانات بسرعة كبيرة ودقة عالية تمثل أبرز سماته في سياق بحوث الإعلام، إذ مهدت هذه القدرة الطريق أمام استكشاف مناهج بحثية جديدة، فالاستطلاعات والمقابلات التقليدية، على الرغم من قيمتها، غالباً ما تعاني من قيود عدة مثل التحيز في اختيار العينة والاستجابات غير الموضوعية. كذلك يمكن لتحليل البيانات القائم على أدوات الذكاء الاصطناعي أن يستغل قوة البيانات الهائلة، والاستفادة من مجموعة واسعة من المصادر، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي والمنتديات عبر الإنترنت، وحتى بيانات المستشعرات، لاكتساب رؤى حول السلوك البشري على نطاق غير مسبوق.
وعند البحث في كيفية قيام الذكاء الاصطناعي بتطوير آلية ومنهجية البحوث الاجتماعية بشكل عام والإعلامية بشكل خاص، يمكننا تسليط الضوء على ثلاث محاورة أساسية، يمكن استعراضها على النحو التالي:
1 - تطوير تحليل النصوص:
يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي مساعدة الباحثين في القيام بعدد من المهام البحثية الكلاسيكية الشائعة، مثل: تحليل محتوى البيانات النصية والترميز والأطر. فقد قارن ميلون وآخرون في دراسته عام 2024 بين أداء الترميز للعديد من النماذج اللغوية الكبيرة مع مبرمجين بشر مدربين تدريباً عالياً لتحليل البيانات حول الانتخابات البريطانية. وقد وجدوا أن الذكاء الاصطناعي أنتج نفس التصنيف بنسبة 95 %.
وفي دراسة أخرى قارن زيمس وآخرون قدرات النماذج اللغوية الكبيرة على إعادة إنتاج مجموعات بيانات، قام بترميزها خبراء بشريون من علم الاجتماع والعلوم السياسية وعلم النفس والتاريخ والأدب واللغويات؛ وجاءت النتيجة لتؤكد قدرة النماذج الآلية الكبيرة على استنساخ أداء الخبراء بكفاءة عالية، بل إن الآلات تفوقت في بعض المجالات لتنتج تصنيفات أكثر دقة من البشر، وفي وقت أقل، لا سيما في مجال السياسة والاجتماع، الأمر الذي يشجع الباحثين على التوسع في استخدام هذه النماذج تحت درجة معينة من الإشراف البشري والإلمام بهندسة الأوامر Prompt Engineering، بحيث يكون تحليل النصوص من بين أكثر الطرق الواعدة التي يمكن أن يطور بها الذكاء الاصطناعي أبحاث العلوم الإعلامية.
2 - تحليل المشاعر:
يتم ذلك عن طريق استخدام خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية NLP، بحيث يمكن للباحثين قياس المشاعر العامة تجاه مختلف القضايا أو المنتجات أو السياسات أو الأفكار، إذ استطاعت هذه التكنولوجيا القيام بدور رئيس في فهم الاتجاهات السياسية وتفضيلات المستهلكين وديناميكيات المجتمعات عبر الإنترنت، مما يوفر رؤى حول الآراء والعواطف المتطورة للأفراد والمجموعات.
وفي مجال بحوث الإعلام يمكن الاستفادة من هذه المسألة بشكل كبير في حالة الرغبة في تصميم دراسات تجريبية أو ميدانية لبحث تأثير نصوص أو صور إعلامية محددة على سلوك الجمهور، بحيث تكون محفزة للتصرف بشكل معين، أو إظهار نوع مطلوب من المشاعر من جانب مجموعات تجريبية عند مقارنتها بسلوك مجموعات ضابطة. على سبيل المثال قد ترغب باحثة مهتمة بتأثير الحملات الإعلانية السياسية في دراسة كيفية تأثير نصوص محددة على الناخبين والناخبات والسلوك المحتمل أو النوايا في التصويت بالعملية الانتخابية، أو أثر بعض رسائل الحملات الإعلامية الطبية في إثارة مشاعر الخوف لدى المتلقين عند التحذير من سلوكيات خاطئة.
وكذلك فإن هذا النوع من الدراسات يمكن تصميمه للتنبؤ بسلوكيات الجمهور المستهدف وتطوير القدرة على تقديم منتجات إعلامية يتفاعل معها الجمهور على نحو أكبر، أو جذب شرائح جماهيرية جديدة، لا سيما وأن هذه المسالة تمثل تحدياً كبيراً أمام عدد من المنصات الإعلامية الرقمية التي لا تمتلك خبرات تكنولوجية كافية لتشجيع المتلقين على التفاعل مع المحتوى الإعلامي على حساباتهم في منصات التواصل الاجتماعي. ففي هذه الحالة تعمل خوارزميات التعلم الآلي على تعزيز النمذجة التنبؤية وتطوير إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء نماذج تنبؤية قادرة على تقديم نتائج واقعية بناء على البيانات التاريخية للأشخاص واتجاهاتهم الحالية.
3 - محاكاة السلوك البشري:
يمكن تغذية النماذج اللغوية الكبيرة بخلفيات ديموجرافية متنوعة لمحاكاة ردود أفعال عينات ممثلة مختلفة من البشر عند القيام باستطلاعات الرأي العام على مستويات وطنية فيما يطلق عليه عينات سليكونية Silicon Samples، وفي هذه الحالة ستنتج النماذج إلى حد كبير استجابات متشابهة مع المجيبين الحقيقيين الذين لديهم نفس السمات، الأمر الذي سيساهم في إنتاج عينات أكثر تنوعاً من العينات البحثية الحالية، وكذلك لفترات وسلاسل زمنية طويلة المدى والتوسع في إجراء دراسات المقارنة بين جماعات عرقية ودول مختلفة. إضافة لذلك فإن مثل هذه العينات يمكن استخدامها أدوات اختبار مسبقة للاستطلاعات Pilot قبل التنفيذ الميداني الفعلي على المستجيبين من البشر، أو في حالة ملء البيانات المفقودة في الاستبيان، مما يساهم في تطوير أسئلة استطلاعات الرأي وتصميم مقاييس جديدة للمفاهيم الاجتماعية الإعلامية المركبة.
بل، والأكثر من ذلك يمكن الاستفادة من العينات السليكونية في إجراء التجارب التي قد تمثل معضلة أخلاقية أو تشكل خطراً محتملاً على حياة المستجيبين الذين ينتمون لجماعات فرعية محددة، على سبيل المثال يمكن استخدامها عند الرغبة في إجراء بعض الدراسات التجريبية على الأطفال أو المرضى أو السجناء مما يفتح مجالات جديدة للاستقصاء. على سبيل المثال يمكن استخدام هذا النهج في دراسة الموضوعات التي يصعب القيام بها في العالم الحقيقي مثل إجراء البحوث على الأشخاص ذوي السلوك المتطرف أو العنيف أو المنحرف.
يفتح ذلك المجال أيضاً أمام عدد آخر من البحوث الإعلامية ذات الصلة بإعادة اختبار وتطوير فروض النظريات الكلاسيكية في المجال، بما يتوافق وطبيعة المتغيرات الجديدة للعصر الرقمي والتدفق المعلوماتي، فيمكن في هذا الإطار إعادة اختبار فروض نظرية التعلم الاجتماعي بالنمذجة لباندورا أو مارشميلو ستانفورد لتأجيل الرغبات أو نظرية الغرس الثقافي.
وعلى صعيد آخر نجد أن الذكاء الاصطناعي يمكنه أن يوفر اختبارات جديدة لتوليد السلوك البشري في البيئات الاجتماعية لا سيما في مجال ألعاب الإنترنت Multiplayer online games ، لأنه على الرغم من أن هذه الألعاب لا تقدم محاكاة كاملة للسلوكيات البشرية إلا أنها قد توفر بيانات أساسية لتقييم أداء أدوات الذكاء الاصطناعي في بيئات معقدة. قبل ظهور أدوات الذكاء الاصطناعي كانت شخصيات الألعاب تعتمد على التعلم المعزز Reinforcement learning المبني على التجارب السابقة مع اللاعبين من البشر، ولكن في الآونة الأخيرة، أظهر الباحثون أن أنظمة الذكاء الاصطناعي الآلي يمكن أن تتعلم أيضاً استخدام اللغة الطبيعية في الألعاب التي تتطلب تفكيراً معقداً وإستراتيجية عالية المستوى لهزيمة اللاعبين البشر.
قدم ألامونج وآخرون في دراستهم عام 2023 حول عدم التوازن الحزبي في بيئة وسائل التواصل الاجتماعي نموذجاً لهذا التوجه البحثي، إذ قام وزملاؤه ببناء منصة بحثية على وسائل التواصل الاجتماعي، واستقطب عدداً من المستجيبين على الإنترنت للتفاعل مع أشخاص من حزب سياسي معارض لمدة عشر دقائق، مع إخبارهم خلال الموافقة المستنيرة بإمكانية إحاطتهم بأشخاص ذوي معتقدات غير متجانسة للتفاعل معهم إلى جانب حسابات آلية؛ وجاءت نتائج الدراسة لتشير أن معظم المشاركين لم يتمكنوا من تحديد ما إذا كان المتفاعل معهم روبوتاً أم شخصاً حقيقياً، مما يشير إلى أن الحسابات الآلية المؤتمتة قد تكون مفيدة لإجراء البحوث حول العمليات على مستوى المجموعات، شريطة أن يراقب الباحثون بعناية التفاعلات بين الإنسان والذكاء الاصطناعي، بحثاً عن الهلوسة أو إساءة الاستخدام.
هذا النموذج على الرغم من كونه اعتمد على تقديم نتائج أولية بسبب صغر حجم عينة الدراسة، إلا أنه أثبت إمكانية تجريب التفاعل مع مجموعات كبيرة من الناس، الأمر الذي يكون غالباً صعب التحقق من الناحية اللوجستية أو التكلفة المالية في البحوث الاجتماعية الإعلامية الحالية، بما يشير إلى أنه أذا كانت مجموعات من الروبوتات الآلية قادرة على تشكيل سلوك جماعي قابل للتصديق عند التفاعل مع البشر، فإن هذا يفتح بلا شك آفاقاً رحبة جديدة أمام البحوث الإعلامية القائمة على المحاكاة واستكشاف سيناريوهات افتراضية أو قابلية ظهور التحيزات داخل المجموعات. إضافة إلى إمكانية إجراء الدراسات البينية Interdisciplinary research التي تمكن الذكاء الاصطناعي من التدقيق في مجموعات كبيرة من الأدبيات وتحديد الروابط التي تبدو متباينة مما يشجع على التلقيح المتبادل للأفكار والمنهجيات الخاصة بالعلوم الاجتماعية مثل الإعلام وعلم النفس والاقتصاد والأنثروبولوجيا.
ومع ذلك فإن الدور التحولي لأنظمة الذكاء الاصطناعي في تشكيل منهجية البحوث الاجتماعية لا يخلو من تحديات كبرى تؤكد ضرورة تدخل العنصر البشري وعدم الاعتماد بشكل كلي على أدوات الذكاء الاصطناعي بديلاً عن البحوث الكلاسيكية، التي لا زالت تتمتع بمميزات اختبار الطيف الكامل من السلوكيات البشرية المعقدة والمتغيرة والمتأثرة بسياقات اجتماعية ذات أبعاد مركبة، إلى جانب التفاعلات الشخصية أو المحادثات المواجهية التي قد تؤثر بشكل أو بآخر على السلوكيات المرتقبة للمستجيبين.
ينبغي ألا نغض الطرف عما يلوح في الأفق من تأثيرات سلبية محتملة لمثل هذه التطبيقات، سواء ما يتعلق بخصوصية البيانات أو السرية أو التحيزات الخوارزمية والأخطاء المعرفية والاستخدام غير المسؤول، أو نشر المعلومات المضللة أو التأثيرات البيئية السلبية. إن الإفراط في الاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعي في البحوث قد يؤدي إلى الكسل وتسهيل السرقة الأدبية والافتقار إلى الأصالة والإبداع وإنتاج بحوث إعلامية منخفضة الجودة ولا تحقق قيمة تراكمية مضافة مما يشكل انتهاكاً واضحاً للمعايير الأخلاقية بشكل عام ويلحق الضرر بالأفراد والمجتمعات.

ذو صلة