مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

ذكاء اصطناعي

أود في هذه السانحة أن أهنئ القائمين على المجلة العربية العريقة، بمرور خمسين عاماً على إنشائها، وما قدمته للقارئ العربي من متابعة جادة للثقافة، والسعي إلى تطوير موضوعاتها والاحتفاء بكل ما هو جديد، وبمن يستطيع أن يقدم جديداً للقارئ العربي. وحقيقة أن تصمد مجلة ثقافية واجتماعية كل ذلك الوقت، يدل على متانة محتواها، وجدية العاملين عليها.
سأتحدث عن حوار لي مع الذكاء الاصطناعي، بعد أن كثر الحديث عنه، وعن استخداماته، ونشأة عدد كبير من البرامج التي تدعمه. وقيل يسهل الحياة للناس، وهذا لا نرفضه، لكن ما أعنيه عن مشاركته في الإبداع، وكتابة أعمال أدبية للذين لا يستطيعون كتابتها بأنفسهم، إما لضعف في الموهبة أو انعدام الموهبة من الأساس.
أنا أولاً لا أؤمن بروايات الذكاء الاصطناعي، وعندي يقين بمحدودية ما شحن به من خيال ومفردات، بحيث يهب مستخدمه أشكالاً نمطية من الإبداع، أي كتابة خالية من التفكير العميق، والتجريب واستخدام أشكال غير مألوفة، وقد قمت بتجربته شخصياً في حوارات عدة، فيها رسم للشخصيات، وكتابة أفكار أمنحها له، وأيضاً توليد فكرة عن رواية، وسأعرض ما منحني إياه. وكان في رأيي بسيطاً جداً وأقرب للسطحية.
لقد طلبت من البرنامج مثلاً، أن يرسم لي شخصية حواء، وهي فتاة سودانية جميلة، نزحت مع أهلها أيام الحرب، خوفاً من اغتصاب المليشيات المعتدية، لتقيم مع أهلها في بلدة أخرى، فكتب لي:
حواء فتاة سمراء، شعرها خشن في شكل ضفيرتين، أنفها كبير وشفتاها غليظتان، وعيناها لا يمكن وصفهما لأنهما دائماً مغمضتان.
أين صورة الفتاة الجميلة في هذا الرسم الكاريكاتوري؟ وهنا بالتأكيد تنكشف عملية سوء التغذية التي يحظى بها النظام، فهو غير قادر على رسم شخصية متخيلة بالبراعة التي يمكن أن يصفها بها الروائي الحقيقي. الذي يمكنه أن يتلاعب حتى بالأوصاف الجميلة، فيجعلها أكثر جمالاً.
بالنسبة للأحداث، هل فعلاً ستجد أحداثاً مشوقة في الرواية التي سيكتبها لك الذكاء الاصطناعي؟
ممكن جداً، أن تجد أحداثاً مشوقة، لكنها أحداث روتينية أيضاً، لن تكون كما لو كتبها الروائي، مثلاً حين يكون البطل متورطاً في صراع ما، هناك مخارج عدة لإنقاذه، منها فراره، منها رضوخه للتسوية مع مصارعيه، لكن حين جربت الذكاء الاصطناعي، كتب أنه فاز في ذلك الصراع، وهي أيضاً نهاية نمطية لا تصلح لعمل مبتكر.
بالنسبة للغة، أجد أن برامج الذكاء الاصطناعي، محشوة بمفردات معينة وجمل عادية جداً، هو يعتبرها ضرورة بناء على قراءة كلاسيكية وغير متطورة لآليات الكتابة، لا بد أن يكتب لك مثلاً، في مشهد عن الريف في أي مكان: كانت السماء ملبدة بالغيوم، وهذه جملة نعرفها كلنا، سيكتب لك حين يذكر النسيم: كان النسيم عليلاً، وحين يصف مشهداً لقبلة بين عاشقين، كان طعمها مثل الشهد، إنها حصيلة ثابتة كما قلت، لا يستطيع تغييرها، ولذلك توجد حتى في تلك البرامج الذكية خطوط للرجعة، حيث يسألك: هل تحتاج لمساعدة في تحرير نصوصك؟ إنه هنا يقر بأن وجودك قد يفيد الحكاية.
في الثمانينات، وفي أحد أحياء بورتسودان، سرق شخص مايكرفون المسجد، وباعه لتاجر مسروقات، طلبت من الذكاء الاصطناعي أن يكتب قصته بعد أن أعطيته اسم بطل القصة، فكتب هذا المقطع:
(في ليلة حالكة، تسلل عوض الله بين أزقة الحي كعادته، يبحث عن فريسة يسهل اقتناصها. كانت فكرة سرقة المسجد تراوده منذ أيام، خاصة المايكروفون الذي بدا له أنه سيكون ذا قيمة في السوق السوداء. لم يكن هذا المايكروفون مجرد أداة، بل كان صوت القرية كلها، يرفع الأذان كل يوم، ويصدح بالخطبة يوم الجمعة.
دخل المسجد بحذر، تحسس خطواته وكأن الأنفاس من حوله قد تسمعه. كان الظلام مسيطراً إلا من ضوء القمر الخافت الذي تسلل عبر نوافذ المسجد. وصل إلى المنبر، وقف أمامه للحظة وكأن شيئاً بداخله يردعه. لكن سرعان ما دفن هذا الشعور العابر، مدّ يده وانتزع المايكروفون بحركة سريعة.
خرج من المسجد كما دخله، خفيف الخطى لكنه مثقل بالذنب، رغم أنه أقنع نفسه بأن هذا مجرد شيء مادي، لا قيمة له. سارع إلى أحد السماسرة في السوق، وهناك، وبعد مفاوضات قصيرة، باعه بثمن زهيد، ثمن لن يعوض حتى قليلاً مما خسره داخلياً.
لكن الغريب في الأمر، أن الحي لاحظ غياب صوت الأذان من المسجد في الصباح التالي. وكأن القرية بأكملها فقدت جزءاً من روحها. بدأت الهمسات تدور حول من يكون السارق، لكن عوض الله لم يجرؤ على الاعتراف. ومع كل أذان يتأخر، كان ضميره يثقله أكثر، حتى بات يهرب من أصوات المساجد، وكأنها تلاحقه لتذكره بما فعل).
لقد كتب البرنامج في الحقيقة قصة يمكن قراءتها، لكن أيضاً فيها متناقضات لن يفعلها الكاتب الإنسان، المكان مرة حي شعبي ومرة قرية، وبيع المايكرفون سيكون لأحد تجار المسروقات، وليس سمساراً، ولن يكون في سوق القرية لأن الناس كلها تعرف بعضها، ولو كتب أحد هذه القصة، سيكون ثمة لمحة عن حياة عوض الله، ووصف له، قبل إقحامه في هذه السرقة الغبية، وأعتقد أن السارق في القصة الأصلية، باع المايكرفون لأحد المطربين الناشئين في المدينة التي يسكنها.
أخيراً كانت هذه لمحة لما يمكن أن يقدمه الإنسان للكتابة، وما يمكن أن يقدمه برنامج تقني يحتاج كثيراً للتطوير.

ذو صلة