مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

خالد الظنحاني: ولدتُ شاعراً بهاجس الانتماء العربي الحضاري

حوار/ غالية خوجة: الإمارات


يتميز شعر د.خالد الظنحاني بشفافية رومانسية، ومشهدية، وإيمائية، تتداعى مع طبيعة إمارة الفجيرة ورائحة موجها ورمالها وأشجارها المتضافرة مع الحالة الإنسانية والكونية، سواء بالفصحى أم النبطي الأقرب للفصحى، كما في قصيدته قمح الربيع: (تسألين الحقل عن قمح الربيع.. وش بقى للقمح غير أنتي وأنا).
وهذه الفنيات نجدها في ما يكتبه، غالباً، من شعر ورواية وبحوث ومقالات وفكر، مثل (أول منزل)، و(البرلماني الناجح)، ومشاركته في سلسلة كتب حول (رواد الشعر الشعبي في الإمارات العربية).
نال العديد من التكريمات والأوسمة والجوائز الإماراتية والعربية والعالمية، وعمل في مناصب عدة، وحالياً، يترأس مجلس إدارة جمعية الفجيرة الاجتماعية الثقافية ومؤسسة (غبشة).
قوارب الكلمات
عن تجربته المتنوعة، سألته:
من الشعر انطلقت إلى تفرعات متداخلة، كيف تبرعمت قصيدتك الأولى؟ وما أهم العوامل التي جعلتك شخصية ثقافية اجتماعية مؤثرة؟
- ولدت شاعراً، لكني لم أدرك ذلك إلا بعدما تبلورت تجربتي الشعرية، ونمت وغادرت مهدها، وأطلت على العالم لتكشف لي عن وجهها الملهم، وتمنحني حس الشاعر الحق، وجناحيه المحلقين في عوالم الكلمة الشعرية، وجعلتني أركب قوارب الكلمات لأبحر عن جدارة في بحور القصيد، وأجني من ثمارها أبياتاً أعتز بها، فهي مني وعني، تترجم إحساسي وتجهر بانتمائي، فالقصيدة بيتي ووطني وشهادة ميلادي.
أما عن كيفية تبلور تجربتي ونضجها، فهناك عدة عوامل أنطقتني، منها الدهشة والإعجاب والقلق الوجودي حيال القصائد التي كنت أجدها في المقرر الدراسي، وكانت عبارة عن قطرات الندى البكر التي حركت بحيرة شعري الصامتة، وظلت كذلك حتى غادرت بفضلها قمم الطفولة بحثاً عن النضح وأساسه جمال البيئة الأم المحيطة بكل اتجاهات مسقط رأسي في دبا الفجيرة وسحرها الأخاذ ومناظرها الفاتنة لتسقي براعم تجربتي الشعرية بشغف وسخاء.
ولا يمكن أن أنكر فضل والدي الذي وجّه بوصلة اهتمامي وشغفي نحو حب الكلمة المقروءة، وله الفضل الكبير في حبي للقراءة وتعلقي ببيئتي الأم وشغفي بعالم الزراعة، وعشقي لرائحة التراب، وغرس الأجداد، واكتساب الصبر، والحرص على العطاء والبذل، والانتشاء بجني ثمار التعب، ومواصلة مشوار الطموح دون كلل وملل، لقد عشت في بيئة محكومة بجمال المناظر الطبيعية وحب الحياة والنجاح والتفوق، وبعد الدخول لعالم الكتاب من أبواب عدة، وبعد التمكن من العروض وبحور الشعر، والتشبع بفنيات الشعر النبطي الذي لم يكن يغيب عن مجالس أنسنا ومناسباتنا الوطنية والاجتماعية، وجدت نفسي شاعراً متعطشاً للكلمة، ومتيماً بإيقاعها الشعري، وكاتباً شغوفاً بحضورها النثري، فكتبت القصيدة والرواية وتنقلت بين عوالم إبداعية شتى، وهمي الإنسان، والبعد الثقافي الحضاري، وترسيخ الانتماء الوطني، والسفر بين الثقافات لاطلاع الآخر على درر إبداعاتنا الثقافية الخالدة.
ولم أكتف بالإبحار في عالم القصيد، إذ أصدرت عدداً من الكتب، منها (أول منزل)، وتحدثت فيه عن ارتباطي ببيئتي الأم، ومزرعة أبي التي غرست في وجداني أول لبنات انتمائي لأصالتي ورائحة الوطن وعبيره الذي نتنفسه اليوم عشقاً وولاء واعتزازاً وسعياً لرد الجميل لوطن آمن بنا كفلذات كبد له وطاقات خلاقة، ومازال يباهي بنا الأمم ونباهي به العالم بأسره.
مشروع ثقافي إنساني
سفير دولي للإبداع في فرنسا، واستشاري ثقافي معتمد في التطوير المؤسسي لعدة جهات منها مركز لندن للإبداع العربي في بريطانيا، كيف تدير مشروعك الدولي الفردي، وما أهدافه القريبة والبعيدة؟
- منحني المنتدى الدولي للإبداع التابع للرابطة الدولية للإبداع الفكري والثقافي في فرنسا، لقب (سفير دولي للإبداع) و(فارس الإبداع العربي)، وذلك في الحفل الختامي للملتقى الرابع للإبداع، كما عينت مستشاراً ثقافياً بمركز لندن للإبداع العربي في بريطانيا، حيث أعتز جداً بهذين التكريمين، وأجد فيهما تقديراً لجهودي في مجال دعم الثقافة وحافزاً للاستمرار في هذا المشوار الإبداعي الملهم الهادف لمواصلة تحفيز الحراك الثقافي على المستويين العربي والدولي وبناء الجسور بين المبدعين العرب والمؤسسات الثقافية البريطانية، والتعريف بالإبداع والبرهنة على الإيمان الدولي بالطاقات الإماراتية وقدرتها على إحداث التأثير والتغيير المرجو في المشهد الثقافي العالمي.
أما عن إدارة مشروعي الثقافي على المستوى الدولي، فأنا أسعى دائماً للبحث عن التغيير والتطوير والاستثمار في الطاقات الخلاقة، والحرص على الانفتاح الإيجابي على الآخر، والاستفادة من التجارب السابقة، والحرص على ترك أثر ملهم وواعد، والسعي لرفع راية التألق الثقافي للإمارات، بوصلة نجاحي على المدى القريب والبعيد والتعبير عن حب الوطن والاعتزاز بانتمائنا الحضاري عبر الترويج لثقافتنا المحلية بين الأمم والحضارات وجعلها نابضة في وجدان الأجيال.
الإحساس سر جماليات المنافسة
بين الفصحى والنبطي تتحرك قصائدك، كيف استوعبت اللغاتُ التي ترُجم إليها شعرك المفرداتِ النبطية، مثلاً، وما تحمله من موروث عربي وإماراتي؟
- أدخلتني بيئتي الأم إلى باحات الشعر النبطي من أوسع أبوابها، وأصبحت أرى شخصيتي الشعرية فيه مع أنني بدأت بكتابة الشعر الفصيح، ليقيني أن هذا الشعر يمتلك مقومات المنافسة والجماليات الشعرية والحضور والانتشار أيضاً، وأكبر دليل على ذلك الحضور العربي والأوروبي الكبير الذي تواجد في أمسيتي الشعرية بمعهد العالم العربي في العاصمة الفرنسية باريس التي نظمتها هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام، حيث ترجمت قصائدي العامية إلى اللغة الفرنسية، وحصلت على ردود فعل إيجابية جداً من مثقفين فرنسيين وأوروبيين معاً.
وعموماً، ترجمت قصائدي إلى لغات متعددة، منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية والماليالامية - الهندية، حيث استوعب شعري النبطي هذه اللغات واستوعبته، لأن هذه اللغات ترجمت إحساس الكلمات، ومشاعر الصور الشعرية، وأبحرت بالأبيات بعيداً، مما أضفى على هذه القصائد جماليات إضافية، فالحس الإنساني يجعل من اللغة عطراً فاتناً للقصيدة يختلف باختلاف الانتماء الثقافي للغة ومفرداتها ومعجمها وصورها الشعرية الضاربة في أصول البيئة الأم لهذه اللغة، وبهذا الشكل تفتّحت قصائدي بلغات أخرى.
الشعر غدُنَا
الحداثة تشمل كافة بنى الحياة، ترى ما أهم فنيات شعر الحداثة الإماراتي ومنه النبطي؟
- إن من أهم فنيات الشعر النبطي ارتباطنا ببيئتنا الأم وأصولنا اللغوية وصورنا الشعرية العريقة ومفرداتنا الأصيلة ومعاجمنا العريقة. وهذه الفنون الشعرية تجعلنا نصل بين الأمس واليوم، متجذرين في انتمائنا الثقافي، وتوّاقين للحداثة والتجديد والتطوير، وأنا أعتبر الشعر النبطي من أروع المؤسسين لشعراء الغد الواعد، فالشاعر المتغلغل في أصوله، والمعتز بانتمائه، والشغوف بالاطلاع على الثقافات الأخرى والتجارب الشعرية المتنوعة، يمتلك هويته الخاصة التي تميزه أولاً أينما كان وحل، وهو قادر على تطوير ذاته وتجربته من خلال الإبحار الرصين في بحار الثقافات دون الغرق والتيه.
الجيل الشاب والاستدامة
هل تكتفي الموهبة الإبداعية ولاسيما الشابة بورش عمل وندوات؟ هل يمكن أن نصنع كاتباً، خصوصاً، في عصر التكنولوجيا والكاتب الإلكتروني؟ كيف؟ ولماذا؟
- الموهبة مفتاح النجاح في مختلف المجالات، واكتشاف مواهبنا الشابة وتوجيهها وتشجيعها والاستثمار فيها، هو المطلوب للتألق والإبداع، وبناء غد مستدام، ليس، فقط، في المجال الإبداعي والثقافي، بل في مختلف المجالات.
وبخصوص الكاتب، من وجهة نظري موهبة تصقل باستمرار من خلال التركيز على نقاط القوة، والأخذ بالتحديات ومحاولة تذليلها، فالكاتب ليس صناعة بالمعنى المادي للصناعة، بل استثمار في طاقة بشرية متفردة ودعمها من محيطها، وإيمان من هذا الشخص، وحرصه على تطوير ذاته، وصقل موهبته، والاستفادة من التجارب المحيطة به، والمتألقة في محيطه الضيق والواسع، ولعل التكنولوجيا بقدر كونها تحدياً لبعض الكتاب، فإنها في الوقت نفسه عامل قوة وإثراء لكتاب آخرين، ووسيلة لتلاقح الثقافات والتجارب.
لا مواربة ولا إستراتيجية
ماذا عن النقد؟ هل تناول تجربتك؟ وهل هناك حركة نقدية مواكبة؟ لماذا؟
- لا يوجد نقد بمعنى النقد، لأن النقد له ضوابط ومعايير يتأسس عليها وينطلق منها، وشروط تحكمه، أما الموجود في الساحة فهو عبارة عن محاولات نقدية، أو آراء صحفية، لذلك لا توجد أسماء محلية في الساحة الثقافية الإماراتية يمكن استحضارها في هذا السياق.
ومن أبرز عوامل شحوب التجارب النقدية تواضع الدعم المالي اللازم الذي يعمل على تكوين أقلام نقدية تأخذ على عاتقها تنقيح الأعمال الإبداعية وقراءتها بأدوات منهجية صحيحة، وأنا أعتبر أن أفق المحلي لن يكون وفق المأمول إلا إذا تم اعتماد إستراتيجية ثقافية كفيلة بتحقيق تلك الغاية، وإلا فلن نتجاوز المنطق السائد المتكئ على المواربة والمجاملة التي تساق هنا أو هناك، وهي في النهاية لا تعبّر عن علم، ولا تمنح الآخر رؤية ناقدة رصينة، ولا تكون هناك نواة حركة نقدية ناضجة ما لم تتوافر ظروف لنشأة هذه الحركة.
اهتمام مستدام يزهر
كيف نمنهج، برأيك، لتنمية ثقافية عربية واحدة مستدامة؟ وكيف لهذه المنهجية أن تتناغم مع ما بعد الحداثة؟
- الاستثمار في الإنسان هو النهج والمنهج لإعلاء راية ثقافتنا، والتقاط الطاقات، ودعمها، وتوجيهها، وصقل تجاربها، ومدها بأسباب النجاح والتألق، هو كفيل بازدهار الثقافة العربية، وجعل طاقاتنا العربية الفذة مستدامة ومتناغمة مع الحداثة، وقادرة على الصمود والمنافسة وكسب رهانات الغد عن جدارة.
بحر الوقت
كيف تحقق هذه المعادلة (شاعر وخبير وإعلامي وسينمائي وروائي وإداري ومستشار وسفير ثقافي)؟
- بدأت تجربتي الإبداعية تتسع لتشمل حقولاً ثقافية وإعلامية وسنيمائية وغيرها، فأسست نادي الفجيرة للسينما، وشاركت كضيف شرف وعضو لجنة التحكيم في العديد من المهرجانات الفنية، أبرزها مهرجان (ميجرارت) السينمائي في إيطاليا، والمهرجان الدولي للفيلم في مراكش بالمملكة المغربية، ومهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط، ترأست مجلس إدارة جمعية الفجيرة الاجتماعية الثقافية ومؤسسة غبشة الإماراتية، وهذه المسؤوليات تحتاج إلى تنظيم جاد على بحر الوقت وأمواجه، ومحاولة زراعته نخيلاً في التربة الثقافية الاجتماعية، ووعياً في داخل الإنسان، مع التركيز على التأصيل والتحديث في كافة مجالات الحياة.
ونتيجة تراكم هذا الأثر، أعلن مركز لندن للإبداع العربي في بريطانيا تعييني مستشاراً ثقافياً له، كما ذكرت، ومنحتني الشبكة الإقليمية للمسؤولية الاجتماعية، لقب (خبير ثقافي مجتمعي)، لأصبح بذلك أول مثقف إماراتي يحصل على هذا اللقب في هذين المجالين، ونلت درع السلام كسفير للسلام الدولي في ملتقى (ابن بطوطة) الثقافي، الذي تم عقده في مدينة باليرمو بإيطاليا.
أما في المجال الإداري فحصلت، على اعتمادين أكاديميين؛ أحدهما في مجال الاستشارات، كاستشاري معتمد في التطوير المؤسسي من (كلية تورنتو الدولية لإدارة الأعمال) بكندا، بدرجة امتياز، والآخر في مجال التدريب كمدرب دولي محترف من (أكاديمية القيادة الأمريكية) (ALTA) و(ميدكس) العالمية، وعلى الصعيد الإعلامي، شاركت في إدارة وتقديم برامج تلفزيونية في قنوات عدة، مثل (mbc1)، و(تلفزيون الشارقة)، و(نجوم)، و(قناة الجديد اللبنانية)، وكتبت في عدد من الصحف والمجلات الإماراتية، مثل مجلة (999)، و(جسور)، وصحيفتي (الخليج)، و(البيان)، وقدمت ندوات أدبية وشعرية في مختلف البلدان الأوروبية كإسبانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والتشيك وهولندا والهند.
هذه التجارب المختلفة ساهمت في نيلي عدداً كبيراً من الجوائز والأوسمة الثقافية العربية والدولية، مثل جائزة (القائد الثقافي العربي الملهم 2023) من المملكة المغربية، وجائزة الرئيس الهندي الراحل عبدالكلام العالمية للتميز في المجال الثقافي لعام 2016، كما نلت عدة ألقاب ومناصب منها الرئيس التنفيذي لمبادرة (سفراء زايد) الثقافية الدولية، وكنت واحداً من ضمن قائمة الـ 100 شخصية عربية الأكثر تأثيراً في مجال المسؤولية المجتمعية لعام 2020، وأفضل شخصية إبداعية مؤثرة لعام 2019 ضمن قائمة الـ 100 الأكثر تأثيراً على مستوى الوطن العربي والعالم.

أخلصت للقول والفعل الشعريين، فاشتغلت بشكل متواز على الإبداع الشعري من جهة، وعلى التنظير والنقد والترجمة من جهة أخرى، ناهيك عن إسهامك في الحركة الثقافية والنشر وتأسيس (بيت الشعر في المغرب) وغيرها من المبادرات المهمة. بعد كل هذه السنوات، ماذا يقول بنيس عن هذه التجربة الغنية والمتميزة؟
- الكتابة الشعرية كانت ولا تزال مركز اشتغالي، وفي حوار معها كانت لي ممارسات في الكتابة والدراسة والترجمة. كنت أدركت، وأنا في بداياتي، أن للشعر منهجيته القائمة على معرفة ماديته، وأن اختيار كتابة قصيدة حديثة يلزمني التحرر من فكرة البديهة والارتجال والعفوية التي كان لها الامتياز. لذلك عملت على تكوين نفسي، حيث التحقت بكلية الآداب، على غرار الموسيقي الذي يلتحق بأكاديمية الموسيقى، أو الفنان التشكيلي الذي يدرس بأكاديمية الفنون التشكيلية. أتحدث عن 1968، التي كان تكوين الشاعر الحديث في المغرب في بداياته. أما الدراستان اللتان أنجزتهما فهما مرتبطتان بمرحلة التكوين الجامعي، حيث اشتغلت على الدراسات الحديثة في الشعرية وليس النقد، وموضوعهما استنطاق لأسئلة الشعر العربي وحداثته، في أفق اختبار

ذو صلة