في ذلك اليوم المشمس، من الصعب أن تجد من يمشي في الطريق دون أن يكون كادحاً أو عائداً، ليست ساعات مناسبة للتجوّل، صفاء السماء ليس فاتناً إذا التقى بحرارة الجو، وعلى جانب الطريق تتراص محلات البضائع المستعملة، هناك حيث يجلس على كرسي عتيق أحدهم، يحمل كوب الشاي الأسود، يرتدي ثوبه الريفي الملون، ويفكر بسرية تامة، اقتربت منه، سلّمت بينما أفكّر، كيف لي أن أخبره، ردّ السلام عليّ بينما أوحت حيرتي بأني لا أود شراء شيء منه، لذلك لم يبرح مكانه بل اكتفى بالفضول الذي كسى عينيه، قلت: طالما تشربُ الشاي، في جو صيفي حار، لن يضرك أن يأتي أحدهم ليروي لك قصة.. لمعت عينه كمن اعتاد توقف الغرباء ومرورهم ليقول: تفضل.. هنا بدأت قصتي كما أسردها الآن: ذات يوم نظرت إلى غرفة قديمة في منزلي، وتحت تأثير مقالة حول الاكتناز القهري، قررت التخلص منها، و?نها رغبة يلحقها تمنّع ومقاومة، فقد حللت الحيرة بأنها ستكون عرضاً للبيع بقيمة أعلى مما يوافق عليه عادةً من يتاجرون بالأثاث المستعمل، قمت بوضع الإعلان وحضّرت نفسي لاتصالات كثيرة، ميزة وجود عرض للبيع وسلبيته في آن واحد، أنك تحظى بالكثير من الاتصالات الملحّة، هناك حيث تخضع الردود لحالتك المزاجية، فأحياناً تقتضب الكلام كأنك لا تود البيع، وتنساق روحك أحياناً لتطالب من يحادثك بالمزيد من المفاوضة والمحاولة، كأنما هي لعبة يفوز فيها من يضحك الآخر على تعنته، حتى جاء ذلك المطواع الودود، في نبرته الهادئة تختفي أكثر أسراره الصامتة، بدا كشخص لا يحسن الكتابة بينما يسجل رسائله الصوتية بتسارع، وحين أخبرته بالسعر، تفاجأت بموافقته دون نقاش، أشعرني ذلك بالهزيمة والفوز معاً، سرعان ما تحولت مشكلتي إلى ترحيل بعض ساعات النوم الصباحية، حتى يأتي في وقته المناسب صباح الغد، وقد كان.
سمعت صوت قداحة بينما أهم بإكمال أحداث اليوم التالي، نظرت إلى المستمع بينما يغمض عينيه ويشير بيده مذعناً: أكمل..
فأكملت: في الصباح التالي جاء الرجل ليبدأ في تحميل الأثاث بينما تشاغلت عنه بالعمل على شيء آخر، وحين انتهى أخبرني بأنه يحتاج إلى معرفة أقرب مكائن الصرف القريبة، فدللته بينما كنت منهمكاً في التفاعل مع مكالمة هاتفية، استوعبت بعد نصف ساعة انتظار أن هناك شيئاً ليس على ما يرام!
كررت الاتصال به لأكتشف أن هاتفه بات مغلقاً، ولم تفدني محاولات اتصالي المتكررة حتى البارحة، وها أنذا أتوه في طرقاتي حتى وصلت إليك!
شعرت حينما أنهيت قصتي أنه يرغب في توجيه اللوم أو الابتسام بسخرية، لكنه لم يفعل، بل غاصت عيناه محدقاً في المجهول بينما ينهي آخر أنفاس سيجارته ليقول: ما الذي تعرفه عنه؟ اسمه؟ فرددت: (فلان)، فابتسم ليخبرني أن هذا الاسم لا يكاد يخلو بيت منه، أعاد السؤال مجدداً: وماذا أيضاً؟ تنبهت بعد صمت قائلاً: (بإمكانك أن تعرفه من خلال رسائله الصوتيّة؟) مدّ يده ليستمع إلى كل رسالة بإنصات مهيب، وأجاب: إن هذه اللهجة لا يعمل أهلها في هذا المكان، فأصحاب المحلات التي هنا من منطقة أخرى، إذا أردت، بإمكانك الدخول إلى المجمع التجاري الذي أمامنا، وستجد عشرة محلات تجارية لبيع الأثاث المستعمل يعمل فيها أبناء من منطقة هذا الرجل، لم لا تجرب سؤالهم؟ لمعت عيناي بينما أستشعر أني أمسك بطرف خيط جديد، وكدت أنسى هاتفي في يده بينما أهم بتوجيه مساري نحو مكان إشارته، شكرته بينما ابتسم دون أن يخبرني ماذا دار في عقله لحظة وداعه.
أقترب من المكان الآخر، أجد شاباً يستند إلى دراجته بينما يتفاعل بحركات يده مع مكالمة هاتفية، توقفت، أنظر إليه بينما يحاول إنهاء حديثه، لأقول: أتعلم أين أجد فلان الذي يعمل في محل الأثاث المستعمل هنا؟ وبدأت أصف شكله كأنما كنت صديقاً قديماً يود مفاجأته بزيارة ودودة! أراد التخلص للعودة إلى مكالمته ربما، فأجاب مشيراً إلى أحد المحالّ: أظن أنك تقصد من يعمل في ذلك المكان.. سرعان ما شكرته وأوقف سيارتي قريباً لأسير إلى مكان إشارته.
في داخل المكان، وجدت رجلاً أشيب يعتمر طاقية ويمسك بسبحة في يده، وأمامه كوب من الشاي الذي يشعرك بمرارته دون تذوق، ألقيت السلام ليرده متعجباً من صمتي بعده ونظري إليه بتفحص، فأشار لي بالجلوس، بدأت حديثي بإخباره حول رغبتي الدائمة في حل المشكلات بطريقة ودية، وحبي العميق لتخفيف تبعات المواقف السيئة -وكأني لم أزر مركز الشرطة البارحة للإبلاغ عن سرقة ويجيبني الضابط: وما الذي سيثبت أنه لم يدفع المبلغ إليك قبل رحيله؟ ليغلق باب التصعيد في وجهي-، سألني وقد بدا عليه التوتر من خطبتي المطولة في حقن الدماء: أبشر بما يرضيك، فقط أخبرني عن الأمر، بدأت رواية قصتي للمرة الأخيرة لأضيف عليها نتائج التحقيقات الأولية حول اسم الرجل ومكان عمله ووصف شكله كأنما كنت أعرف كل شيء منذ البداية، ولكن حب الخير والتعامل بدبلوماسية دفعاني لأكون هنا بدلاً من التوجه لمقر الأمن القومي أو الطيران الحربي!