يعد الفنان جيمس توريل (James Turrell) من الفنانين المعاصرين الذين أحدثوا تحولاً جذرياً في الطريقة التي نتعامل بها مع الضوء كعنصر فني إدراكي. لا يُعد الضوء الحسي في أعماله مجرد مادة للإضاءة، بل هو فاعل رئيس في إعادة تشكيل الفضاء وإدراكه. عمله في (وادي الفن) بالعلا يمثل استكمالاً لاستكشافاته المبهرة التي بدأها في مشروعاته السابقة، ولكن مع إضافة عنصر جديد يتمثل في تفاعل الضوء مع البيئة الصحراوية، حيث يصبح الضوء ذاته قوة مادية غير محدودة تحوّل الفضاء إلى تجربة حية. فهل جدلية الضوء في الصحراء ستفتح نقاشاً حول ما هو إدراكي وما هو حسي في الضوء؟
يحاول جيمس توريل تغيير مفاهيمنا حول العلاقة بين الضوء والفضاء من خلال تجربته الفريدة في العلا. إذ لا يقتصر استخدامه للضوء على كونه أداة بصرية فحسب، بل يتحول إلى عنصر مادي يتفاعل مع البيئة وينحت الفضاء عبر تأثيرات فيزيائية معقدة. أعمال توريل ليست مجرد إضاءات أو تركيبات فنية، بل هي تجارب حية تنطوي على استكشافات فيزيائية للهندسة الضوئية. يعتمد توريل في تصميماته على الضوء الطبيعي الصحراوي، ليحول السماء إلى عنصر معماري، والظلال إلى لغة معمارية حية تتحرك مع الزمن. في هذا السياق، يجسد عمله في العلا مفهوماً جديداً للفضاء، حيث يتداخل العلم مع الجمال، ويصبح الضوء مادة حية قادرة على تغيير تجربتنا للزمان والمكان.
إن فكرة الضوء كمادة تجريبية قد تكون محورية في فهم أعمال توريل، لكنها تتخذ أبعاداً مختلفة في مشروعه في العلا. في هذا المشروع، يعبر توريل عن الضوء ككائن حي، شيء غير مرئي لكنه مؤثر في تشكيل الواقع المعماري والطبيعي. هذا ما جعلني أغوص في تحليل العمل الفني لجيمس توريل وفي الصحراء تحديداً، مع التركيز على كيفية تأثير الضوء على البنية المعمارية، والتفاعل مع البيئة الصحراوية، إضافة إلى جوانب الفيزياء الرياضية في تجربته الفنية.
ما يجعل عمل جيمس توريل فريداً في فهمنا للفن المعاصر هو استخدامه المتقن للضوء كعنصر أساسي في بناء الفضاء. لا يقتصر دور الضوء في أعماله على إضاءة المساحات أو خلق تأثيرات بصرية فحسب، بل يصبح هو المكون الذي يعيد تشكيل الفضاء ذاته. في العلا، نجد أن توريل يعمق هذا المفهوم، حيث يعتمد على الضوء الطبيعي المستمد من السماء الصحراوية، ليشكل مع الفضاء المعماري علاقة مدهشة تتجاوز البعد البصري إلى تجربة حسية أعمق.
ما يميز عمله هنا هو استخدام (Skyspaces)، تلك المساحات التي تحول السماء إلى عنصر معماري يتفاعل مباشرة مع الضوء. وعندما نتأمل هذا التفاعل في العلا، ندرك أن هذه الفضاءات ليست مجرد غرف أو هياكل مغلقة، بل هي بوابات إلى السماء، حيث يبدو الضوء جزءاً لا يتجزأ من تشكيل الفضاء المعماري. باستخدام الضوء الطبيعي المستمد من الصحراء، يعيد توريل تكوين العلاقة بين الإنسان والفضاء بشكل مادي وحسي جديد، حيث يتحول الضوء إلى عنصر مادي يتحرك ويتغير مع الزمن، مما يحفز المتلقي على الشعور بالوجود في فضاء لا نهائي. فماذا عن الهندسة المعمارية والتفاعل مع البيئة الصحراوية؟
يتسم تصميم توريل في العلا بقدرة فذة على التفاعل مع البيئة الصحراوية، مما يخلق تمازجاً بين الفن المعاصر والعناصر الطبيعية المحيطة. فالهياكل التي أبدعها لا تقتصر على كونها مجرد أعمال معمارية جميلة، بل هي جزء من محاكاة أو تفاعل دقيق بين الفضاء الصناعي والطبيعة.
تتجسد هذه الفكرة في استخدام توريل للمساحات المغلقة والمفتوحة بطرق غير تقليدية، حيث تعزز الدوائر والخطوط المترابطة بين الفضاءات المتباينة من التجربة الحسية للزوار. وبينما قد يشعر البعض بالغربة بسبب الطبيعة المعمارية غير المألوفة، فإن المساحات المفتوحة والمغلقة تعمل على خلق علاقة حوارية بين الزوار وفضاء الطبيعة الصحراوي. فمن خلال خلق انتقالات بين الظلام والضوء، والفراغات المفتوحة والمغلقة، يمكن للزوار اختبار تباين واضح بين العزلة والانفتاح، وبين الوحدة والاندماج مع الكون.
هذا التفاعل ليس فقط على المستوى البصري، بل يتعدى إلى التجربة الفيزيائية. فكل زاوية وكل منحنى في الفضاء يجذب الزوار إلى أبعاد جديدة، حيث يتفاعل الضوء والظل ليخلق أثراً حياً يتغير مع حركة الشخص في الفضاء. وفي هذه الأشكال المعمارية، يبدو كأن الفضاء يلف الزوار ويغمرهم في تجربة لا متناهية من الاكتشاف البصري والجمالي. فهل يمكن استكشاف خواص الضوء بأسلوب مبتكر من خلال هذا العمل في صحراء العلا؟
إذا كانت الهندسة المعمارية في عمل توريل تخلق تجربة حسية، فإن الجانب الفيزيائي لهذا العمل هو ما يجعله مميزاً حقاً. لا يقتصر توريل على استخدام الضوء كعنصر جمالي، بل يستكشف خواصه الفيزيائية بشكل دقيق. فاختيار الإضاءة الطبيعية والتفاعل مع السماء الصحراوية، بالإضافة إلى تصميم المساحات بطريقة تعزز من تشتت الضوء ومروره عبر المواد المختلفة، يشكل تحدياً فيزيائياً معقداً في حد ذاته.
يُعدّ الضوء في أعمال توريل مزيجاً فنياً من الانكسار، التشتت، والانعاكاس، عبر تصميم المساحات والمعمار بطريقة تتيح تفاعل الضوء بشكل مكثف مع الأسطح والألوان المختلفة، يعكس عمله دراسة متعمقة في خصائص الضوء وطاقاته. فكل مسار ضوء وكل ظل يتغير ويتطور وفقاً للوقت، كما لو أن الضوء نفسه يصبح في حركة دائمة، ما يخلق إحساساً بالزمن غير الثابت لدى المتلقي. فهل يعد عمل توريل في العلا اختباراً دقيقاً للمفاهيم الفيزيائية المتعلقة بالضوء والطيف اللوني؟ وهل التباين بين الضوء الطبيعي القوي والصحراء الجافة والجو الصافي يعزز من الجمالية الفائقة للضوء، مما يمنح كل نقطة في الفضاء طابعاً فريداً يتغير مع مرور الوقت؟
ما يجعل عمل توريل في العلا أكثر إثارة هو استعارة مفهوم (كوكب الضوء) في تفاعل الضوء مع الأرض. يشبه مشروعه في العلا كوكباً ضوئياً على الأرض، حيث يتفاعل الضوء مع المكان بشكل يشبه حركة الأجرام السماوية حول النجوم. في هذا الإطار، الضوء الذي يندمج مع المساحات الصحراوية يتحول إلى مادة حية تأخذ الزوار إلى أبعاد كونية غير مرئية.
كما تتعامل الكواكب مع الضوء القادم من النجوم، يعمل توريل على تشكيل علاقة بين الضوء الطبيعي القادم من السماء والنور الذي يولده التصميم المعماري. فالألوان والظلال تتفاعل بطريقة تخلق إحساساً بوجود حركة غير مرئية، تعكس حركة النجوم في السماء.
تكمن قدرة جيمس الفائقة على دمج الهندسة المكانية مع التجربة الحسية البصرية. الفضاء الذي خلقه في العلا ليس مجرد هيكل مادي، بل هو منظومة معمارية حية تتنفس مع الضوء. الفضاءات المتداخلة التي أنشأها تدعو الزوار للانغماس في حالة من الاستكشاف غير المحدود. فكل خطوة يخطوها الزائر في المكان تُعيد تعريف الإدراك الحسي والتجربة العقلية للفضاء. يعمل الضوء، في هذه المساحات، على كسر الحواجز بين الأبعاد التقليدية ويُعيد خلق العلاقة بين الزمان والمكان.
يقدم جيمس توريل في العلا عملاً فنياً يتجاوز حدود الفن المعاصر ليخلق تجربة حيوية تمزج بين العلم والجمال. لا يقتصر عمله على كونه تركيباً ضوئياً، بل هو دعوة لتجربة جديدة للفضاء والزمن، حيث يعيدنا إلى جوهر الكون ذاته. من خلال هذه (الكواكب الضوئية) التي يصممها توريل، تزداد قدرتنا على إدراك العالم من حولنا، ويصبح الضوء وسيلة للتواصل مع السماء والكون بأبعاده المتعددة. إذ يُعيد توريل تصورنا للأرض كجزء حي من الكون المتغير، حيث يصبح الضوء ليس مجرد شعاع يضيء الظلام، بل هو نافذة للانفتاح على ما هو أبعد من الملموس، ليكون رحلة حسية وفكرية تدعونا للتفاعل مع الكون بكل أبعاده المادية والمعنوية، يترك كل هذا عدة تساؤلات وهي هل يمكن للضوء أن يكون أكثر من مجرد أداة بصرية؟ هل يصبح الضوء في أعمال توريل قوة مادية قادرة على تشكيل الواقع نفسه؟ كيف يمكن للفن أن يدمج بين الفضاء الطبيعي والهندسة المعمارية ليخلق تجارب حسية مغايرة؟ وما هي العلاقة بين هذه التجربة الفنية والعلوم الفيزيائية التي تعتمد على خصائص الضوء الطبيعية؟ هل يمكن للضوء أن يعيد تعريف علاقتنا مع الزمان والمكان؟ وهل يمكن للضوء أن يغير إدراكنا للعالم بحيث يصبح جزءاً من وعينا الكونّي، لا مجرد عنصر يضاف إلى الفضاء؟
هل تجربة توريل في العلا هي فقط احتفال بالجمال البصري، أم أنها دعوة للتفكير في كيفية إعادة تشكيل العالم من خلال إدراكنا للضوء؟ وهل يمكن للفضاء، بتفاعلاته مع الضوء، أن يحمل رسائل حول الوجود الإنساني والعلاقة مع الطبيعة؟ وما الذي يمكننا أن نتعلمه من هذا العمل حول قدرتنا على تغيير الواقع من خلال الفن والتفاعل مع البيئة؟