مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

طه حسين مؤسس رواية السيرة الذاتية

لقد طغت كتابات الدكتور طه حسين النقدية ومعركته الفكرية على أعماله الروائية، فما أن يذكر اسم حسين إلا ويذكر كتابه الأشهر: في الشعر الجاهلي، ومعركته الصاخبة عقب صدوره عام 1926، ومع ذلك تُعدّ روايته الأيام بأجزائها الثلاثة عمدة كتب السيّر الذاتية في الأدب العربي الحديث، حيث صدر الجزء الأول من الأيام عن دار المعارف عام 1927، ثم صدر الجزء الثاني عن دار المعارف عام 1940، ثم نشر طه حسين سلسلة حلقات بمجلة آخر ساعة عام 1955، سرد فيها بقية سيرته الذاتية، ثم جمعت بكتاب وصدر الجزء الثالث عن دار المعارف عام 1972.
دوافع كتابة السيرة الذاتية
التغيير الجذري الكبير الذي طرأ على حياة طه حسين وهزّها هزّاً عنيفاً، والأثر السيئ الذي خلّفته معركة صدور كتابه، حين نشر طه حسين مقدمة كتابه: في الشعر الجاهلي، بالملحق الأسبوعي بجريدة السياسة مايو 1926، ثارت أزمة كبرى، وخرج طلاب الأزهر بمظاهرات غاضبة تجوب شوارع القاهرة، كردة فعل ثائرة غضباً واحتجاجاً على ما كتبه، واندفعت المظاهرات حتى وصلت مبنى مجلس النواب، وخرج سعد زغلول رئيس مجلس الأمة من الشرفة، وخطب في المتظاهرين قائلاً: (إن مسألة كهذه لا يمكن أن تؤثر في هذه الأمة المتمسكة بدينها، هب أن رجلاً مجنوناً يهذي في الطريق، فهل يُضير العقلاء شيئاً من ذلك؟ إن هذا الدين متين، والذي لا شك فيه أن هذا الرجل يقصد طه حسين ليس زعيماً ولا إماماً حتى نخشى من شكله العام، فليشك ما شاء، ماذا علينا إذا لم يفهم البقر؟!).
وبتاريخ 14 سبتمبر عام 1926 تقدم النائب عبدالحميد البنان عضو مجلس النواب، بطلب إلى رئيس مجلس الأمة يطلب فصل الدكتور طه حسين من وظيفته كأستاذ بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حالياً)، وعندما تأزم الموقف إلى هذا الحد، نصحه لطفي السيد رئيس الجامعة بالسفر إلى فرنسا حتى تهدأ الأمور. وحتى يتجاوز طه حسين هذه المحنة سافر مع زوجته وأولاده إلى ريف فرنسا في السافوا العليا Haute-Savoie، وأملى الجزء الأول من كتاب الأيام على سكرتيره فريد شحاتة خلال سبعة أيام، حتى يتخلص من همومه الثقال، كما يصفها في مقدمة إحدى طبعات الكتاب عام 1954، عندما سئل عن سبب كتابته للأيام بقوله:
(إنما أمليته لأتخلص من بعض الهموم الثقال، والخواطر المحزنة التي كثيراً ما تعتري الناس من حين إلى حين).
وهذا يتوافق مع ما روته السيدة سوزان طه حسين في كتابها: معك ص 77، عن أحداث تلك الفترة قائلة: (إن الهزّات التي سبّبها كتاب: الشعر الجاهلي، قد أساءت وضعنا من جديد، فالضجّة التي اقترنت بهذا الكتاب، وثورة الجهل والتعصب التي أعقبت صدوره نعرفها جميعاً، أما ما لا نعرفه فهو ما كانته هذه المحنة في نظر زوجي الذي كانت رزانته الثابتة تمنعه من الشكوى، لقد بدأ كتابة هذا الكتاب في يناير عام 1926، وأنجزه في مارس من العام نفسه، كان يعمل به في النهار ويحلم به في الليل مدفوعاً بحماسة بلغت به درجة كبيرة من التحدي).
ويؤكد الدكتور الزيات زوج ابنته أمينة: (إن طه حسين أملى الجزء الثاني من كتاب الأيام بريف فرنسا في منطقة: فيك سور سير Vic-sur-Cère يوليو وأغسطس عام 1939 في تسعة أيام، احتجاجاً على أزمته مع رئيس الوزراء).
وهذا الطرح يوافق الناقد السويسري ستاروبنسكي، الذي يقول: (إن دوافع كتابة السيرة الذاتية تغيرات جذرية، تهزّ الكاتب هزّاً عنيفاً، فيضطر أن يعود إلى جذوره، ليشحذ همّته، فيكتب سيرته الذاتية ليواصل مشروعه الفكري، وهذا ما فعله طه حسين، حيث ذهب إلى ريف فرنسا حتى يتغلب على أوجاعه).
وكما تخبرنا زوجته: (لكي يتمكن طه من التغلب على مرارته واستعادة صحته التي ساءت، صحِبْتُه إلى فرنسا، إلى قرية صغيرة في السافوا العليا). معك، ص 77.
وفي كتاب (معك) تضيف السيدة سوزان: لم ينقذ عنق (طه حسين) من الفتك إلا رجاحة عقل النائب العام الذي مثل أمامه (طه حسين)، ففي المذكرة التي أعدّها ذلك النائب المستنير محمد نور قائلاً: (بل إن العبارات الماسّة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما أوردها في سبيل البحث العلمي، مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وحيث أنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوافر، فلذلك تُحفظ الأوراق إدارياً، صدر هذا القرار بتاريخ 30 مارس عام 1927).
النص المؤسس للسيرة الذاتية
يختلف نقاد الأدب العربي حول تصنيف كتاب الأيام، نجد أن الفريق الأول يعدّه فنّاً روائياً خالصاً تحقّقت فيه معظم الشروط الفنيّة للرواية، بينما الفريق الآخر يُصنّفه من حيث طريقة السرد مُتأرجحاً بين السيرة الذاتية التي تنهض على ذكر الوقائع الحياتية التاريخية طيلة حياة صاحب السيرة، وبين الرؤية الفنيّة للفن الروائي التي تعتمد على الخيال، ومع كل هذا لم يكن الخلاف كبيراً بين الفريقين، فقد جمعت الأيام بين تسجيل الوقائع والأحداث اليومية في حياة كاتبها وبين الخيال الفني في وصف الأمكنة التي عاشها السارد، فجاءت رواية الأيام حلقات سردية أبهرت الجميع، عربياً وأوروبياً، وعندما ترجم الجزء الأول للإنجليزية بعنوان: طفولة مصرية، لندن عام 1929، وترجم الجزء الثاني بعنوان: بحيرة الأيام، لندن عام 1932، تعرّف الأوربيّون على الرجل الطموح الكفيف الفقير الذي تحدى الصعاب، ليصبح كاتباً ومفكراً تنويرياً وانتصر في معاركه الفكرية، فتسابقت الأوساط الثقافية بالعواصم الأوربية لاستضافته، حيث أقامت جامعة أكسفورد حفلاً لتكريمه، ومنحه الدكتوراه الفخرية بتاريخ 18 نوفمبر 1950.
وترجم الجزء الثالث بعنوان: طريق إلى فرنسا، لندن عام 1967، وتصف دائرة المعارف البريطانية ترجمة: الأيام، بأنها أول أدب عربي حديث عرفه الغرب، ويتم توزيع الكثير من النسخ المترجمة على مكتبات الهيئات الأوروبية المهتمة برعاية شباب المكفوفين، ليتعلم منها الشباب كيفية التحدي وتجاوز المعوقات الصعبة، حتى يتم تحقيق أحلام وآمال المكفوفين، وقد أعجب به المستشرقون قبل الباحثين والنقاد العرب، ففي سنة 1929، ومع صدور الجزء الأول من كتاب الأيام، وصفه المستشرق المعروف هاملتون جب قائلاً: (وأهمّ من ذلك كلّه من الناحية الأدبيّة سيرته الشخصيّة التي دعاها الأيام، هذا الكتاب الذي استحقّ الثناء لما فيه من عمق في الشعور وصدق في الوصف، ويمكننا أن نعتبره بحقّ أحسن عمل أدبي صدر في الأدب المصري الحديث حتى الآن).
وأجمع نقاد الأدب العربي أن كتاب الأيام يُعدّ الكتاب العمدة في أدب السيرة الذاتية، وهذا ما يؤكده الناقد والروائي محمد الباردي في مقاله: (كان كتاب الأيام لطه حسين هو النص التأسيسي الأول لكتابة السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث، ففيه يتحدث عن طفولته وشبابه، ويعطي صورة متكاملة عن الظروف التي ساعدت في نشأته، وأثرت في تكوين شخصيته، كما أنه أبدع في تصوير المعاناة التي عاشها، في بيئة تحيا في ظل الموروثات القديمة والخاطئة). مجلة فصول، القاهرة، عدد شتاء 1997.
روايات طه حسين
كتب طه حسين تسع روايات ليرفد المكتبة العربية بكتاباته السردية الرائعة، حتى تجاور كتاباته النقدية والفكرية المُهمّة. ويُشبّه حسين كل رواية من روايته أنها قبس من النور تنير طريق المعرفة، يقول طه حسين: أليس من العجب أن يكون هذا الضوء الذي أخذ يغمُرنا شرّاً من الظلمة التي خرجنا منها؟! إن الحبّ لا يسأم ولا يملّ ولا يعرف الفتور، كل عمل صالح عبادة، وروايات طه حسين بحسب تاريخ نشر الطبعة الأولى كالتالي: دعاء الكروان عام 1924، الأيام الجزء الأول عام 1929، أديب عام 1935، الحب الضائع عام 1938، أحلام شهر زاد عام 1943، شجرة البؤس عام 1944، المعذبون في الأرض عام 1949، ما وراء النهر، نشرها الدكتور محمد حسين الزيات زوج ابنته بعد وفاته عام 1975، خطبة الشيخ نشرها طه حسين في حلقات متتابعة بمجلة السفور عام 1916، لكنه لم ينشرها في كتاب طيلة حياته، ربما لأنها كانت بدايته الأولى المتواضعة مع الكتابة السردية دار الكتب والوثائق المصرية عام 2017.
الأيام بين الإذاعة والتليفزيون
خلال سنوات 2005 : 2010، كنتُ عضواً نشطاً بمجلس إدارة نادي القصة بالقاهرة، وفي أحد اجتماعات مجلس الإدارة، مارس 2005 اقترحت تخصيص ندوة شهرية لواحد من كبار كُتّاب الرواية، ليسرد خبراته الروائية والحياتية، وتمت الموافقة على الاقتراح، وبالسابعة مساء الإثنين شتاء عام 2005، كان خيري شلبي يجلس بقاعة يوسف السباعي بنادي القصة، ليحدثنا عن تجربته المدهشة قائلاً: عشت عشر سنوات في شوارع القاهرة بلا سكن، ثم بدأ يسرد علينا لقاءه الأول بالدكتور طه حسين، وكيف أخذ موافقة مدير البرامج الثقافية بالإذاعة على كتابة سيناريو وحوار رواية الأيام كمسلسل إذاعي، فأشر المدير: مع ضرورة أخذ موافقة كتابيه من الدكتور طه حسين، ويضيف شلبي: بحثت عن رقم التليفون، طلبت وردّ سكرتيره وحدّد موعداً، ذهبت إلى بيت طه حسين بحيّ الزمالك، فرحب بالفكرة وقال بشرط أن تقرأ لي حلقات المسلسل مكتوبة باللغة العربية الفصحى، يضحك شلبي ويضيف: لجأت إلى حيلة فنيّة وهي أن أكتب الجمل الحوارية وأقرأها على طه حسين بالفصحى مُشكلةً، حتى أحصل على موافقته، ثم يقرؤها الممثلون بتسكين آخر الحروف، أعطيكم مثالاً: معي جَوابٌ، أَحْلِفُ باللهِ لو شَافَهُ مخلوقٌ لَرُحْتُ في داهيةٍ.. هكذا أقرأها على طه حسين، وعند تسجيل الإذاعة يقرأها الفنان عبد الوارث عسر باللهجة الصعيدية هكذا: معي چوابْ أحلفْ باللهْ لو شافهْ مخلوجْ لرُحتْ ف داهيهْ.
وهكذا نجح خيري شلبي بالحصول على الموافقة، لكن المخرج إسلام فارس صمّم أن يُسجّل الدكتور طه حسين مقدمة المسلسل بصوته، وبحسب رواية مُحرّر مجلة آخر ساعة الذي حضر التسجيل والحوار، ثم نشره بتاريخ 9 يناير 1969، نقرأ نص الحوار: التفت طه حسين إلى المخرج الإذاعي وسأله عن المقدمة التي يريدونها فقال له المخرج: نفس المقدمة التي كتبتها في كتاب الأيام.
فقال طه حسين وهو يبتسم: ما رأيك في مقدمة جديدة لم يسمعها أحد من قبل؟ فرحب المخرج إسلام بذلك.
وبهدوء قال الدكتور: إنه مستعد للتسجيل، وخرج صوته بنبراته الممّيزة فقال: هذا الكتاب لم أدبّر تأليفه ولم أفكّر فيه، وإنما دُفعت إليه دفعاً، فقد دفعتني إليه ظروف قاسية عندما ضاقت بي الحياة في مصر، كان ذلك حين صدر لي كتاب: الشعر الجاهلي، وأثار الأزمة التي أثارها، واشتد سخط البعض، وقد صحب ذلك اشتداد سخط الملك ودبرت فيه المكائد، ولذلك ضاقت بي الحياة في مصر فتركتها، وعندما وصلت إلى فرنسا لم أستطع أن أفرّ من هذه الظروف، فلم أجد إلا وسيلة واحدة للهروب من هذا الضيق، وهي أن أفرّ من الحاضر إلى الماضي، وبدأتُ في كتابة مذكرات، وانتهيتُ منها في أسبوع دون أن يخطر ببالي أن هذه المذكرات يمكن أن تؤلف كتاباً.
ومضت لحظات صمت قصيرة عاد بعدها عميد الأدب العربي يُكمل حديثه فقال: ولكن صاحب دار الهلال في تلك الأيام طلب منيّ نشر بعض إنتاجي، ففكرت في أن أعطيه هذه الصفحات مع أنها لون من المذكرات، وأردت وقتها أن أستشير بعض أصدقائي، فاستشرت صديقي المرحوم عبدالحميد العبادي، ونصحني ألا أنشر هذا الكلام، ولكن إلحاح صاحب الهلال جعلني أعطيها له، ونُشرتْ في الهلال متتابعة، وقرأها الناس ورضي عنها بعضهم، وإذا ببعضهم يستأذنني في نشر هذه الصفحات في كتاب، وذات يوم إذا بالكتاب قد أرسل إليّ دون أن أكون قد قدرت لهذا الأمر تقديراً، ولست أدري ما هذا الحظّ الذي أقيم لهذا الكتاب الذي تُرجم إلى عشر لغات عالمية؟ ثم قال طه حسين سراً لأول مرة شرح فيه الظروف التي أخرج فيها الجزء الثاني من أيامه فقال: كنتُ في أزمة مع رئيس الوزراء في ذلك الوقت، فأنهيتُ حياتي من الجامعة، ومن العمل في الجامعة، وبدأتُ إعداد الجزء الثاني، وانتهيتُ منه في تسعة أيام، وترجما معاً في مجلد واحد، وكانت روسيا أول من ترجم هذا الكتاب.
وعرض مسلسل الأيام بإذاعة صوت العرب عام 1969 بطولة أمينة رزق، في دور الأم، وعبد الوارث عسر، في دور والده، والطفل وجدي عبدالبديع في دور طه حسين وهو طفل، ونجح المسلسل نجاحاً كبيراً.
وفي عام 1979 تقدمت أمينة الصاوي وأنور أحمد بسيناريو وحوار عدة حلقات من مسلسل الأيام للتليفزيون، وعند تكليف المخرج يحيى العلمي طلب أن يُعيد كتابة السيناريو والحوار الأديب يوسف جوهر وتمت الموافقة، واستعان المخرج بكلمات الشاعر سيد حجاب وألحان عمار الشريعي وغناء على الحجار، لتأتي مقدمة المسلسل تجسيداً لمعاناة طه حسين، وعندما عرض المسلسل نجح نجاحاً كبيراً وتعاطف الناس مع طه حسين الطفل الفقير الذي يواجه الصعاب في سبيل أن يتعلم ويدخل الجامعة في القاهرة.
مذكرات طه حسين
نجح سهيل إدريس في إحدى زياراته للقاهرة، أن يحصل على الموافقة بنشر الحلقات السردية المنشورة بمجلة آخر ساعة عام 1955، وصدر الكتاب بعنوان: مذكرات طه حسين دار الآداب عام 1967، هذه المذكرات هي نفسها فصول الجزء الثالث من كتاب الأيام الصادر في طبعته الأولى عن دار المعارف عام 1972، بنص اعتراف سهيل إدريس بمقاله في مجلة العربي، العدد 539، أكتوبر 2003، بمناسبة الذكرى الثلاثين لرحيل طه حسين، يقول سهيل إدريس في مقاله: (كنت حريصاً، بعد ذلك، على أن أقوم بزيارة طه حسين كلما قصدتُ القاهرة، وكان يلقاني دائماً بالترحيب والمحبة، وقد توثقت أواصر الصداقة بيننا في أحاديث طويلة حضرت بعضها زوجتي، ولما عرف أنها ترجمت بعض الكتب، جعل يحدِّثنا بفرنسيةٍ صافية لا تقل أناقة عن لغته الأم، ثم تعاقدتُ معه على بعض كتبه، وكان آخرها مذكرات طه حسين التي يُتمّ فيها جُزأيّ الأيام).

ذو صلة