مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

باب موارب

(خلف الأبواب المواربة دائماً هناك من ينتظر)
(1)
العصا المعدنية المستندة على الأريكة بعناية، والشال الأبيض الفضفاض المزخرف بورود ملونة يحتضن يديها المجعدتين، وفنجان قهوة سعودية ساخن، موضوع بقربها على طاولة زجاجية مذهبة، تنظر عينيها بشرود نحو الفراغ، تلتقط في ذاكرتها صور أبنائها في صغرهم، ترن في رأسها أصواتهم الصاخبة وتمر أطيافهم الراكضة في مخيلتها، تنشد بهمس خافت قصيدة قديمة ترثي بها نفسها المشتاقة المتلهفة، ثم ما تلبث إلا أن يُفتح ذلك الباب على مصراعيه مخلفاً صدىً محبباً لنفسها، تتقدم الخطوات التي تميز صاحبها بدقة، تطل تلك الملامح القاسية، المتعبة، النحيلة، السمراء بوجه جامد، إلا أنها تستقبل ذلك الجمود بحنان دافق علَّها تطمئن تلك الروح، وتشفي ما بها من جفاء وبُعد.
(2)
الهدوء يسيطر على أجواء المنزل كما العادة، تخلو الردهة من أي أحد، عدا ذلك القط الأليف ينام على الأريكة القديمة، رائحة القهوة تغمر المكان، والشبابيك المفتوحة تنذر بمغيب الشمس، يقطع ذلك الصمت رنين الهاتف المحمول لأم راوية، تلتقط يدها الثقيلة هاتفها، تجيب، وبعد السلام ترد بكلمات مقتضبة، تُنهي بعدها حديثها السريع وتغلق الهاتف، تتنهد بقلق وتجرُ قدميها نحو المطبخ وهي تتمتم أستودعك الله من كل شر، كان اتصالاً بارداً يحمل في طياته هاجسها الذي خافته يوماً أن يحدث، تضع الهيل ثم تسكب القهوة في الدلَّة ببطء، تتصاعد رائحتها الطيبة إلى أنفاسها المتوترة، تحس بقبلة دافئة على خدها النحيل، ترمق تلك العينين المرحتين بشيء من الحنان الخفي، وتهمس الأخرى بحب وتطمين سيكون كل شيء على ما يُرام يا أمي، تبتسم الأم في وجل وهي تنظر لابنتها الكبرى التي تقاسمها ذات الهم، فمنذ أن غاب ابنها بين غياهب الحرب في جنوب البلاد، لم تستطع أن تحدثه، لكنها اليوم أثقل كاهلها صوته فلم يكن طبيعياً بشوشاً كما عهدته، فقد كان صوته يبث في روحها الموحشة قليلاً من الارتياح، استعاذت بالله من شر كل فكرة مُغمَّة، أخذت ترتب صينية القهوة، أخذت ثلاثة فناجين ووضعتها بابتسامة طفيفة، جلست مع ابنتها تحتسيان القهوة وتتبادلان أطراف الحديث، فما ظلَّا على ذلك حتى وقفت الأم بسرعة وخطت نحو الباب الموارب بلهفة، لحقتها الأخرى باستغراب وبسرعة مماثلة، توقفت الأم وهي تمسك بطرف الباب تتأمل خلو باحة المنزل سوى من أنفاسها اللاهثة وأنفاس ابنتها، قالت بصوت مستاء: يبدو أنه خُيل إليَّ سماع صوت باب الشارع، ثم أردفت بصوت راجف: ظننته قد عاد، احتضنت راوية أمها بلطف عميق وهي تقول: سيرجع سيرجع يا أمي سيكون بخير حال. لقد بقيَ الباب موارباً منذ تلك اللحظة، لم تغلقه أمي، على أمل بعودة أخي الغائب.
(3)
كعرجون قديم تشكل القمر تلك الليلة في سماء فقدت نجومها المضيئة، تجلس تحت تلك السماء فتاة عادية جداً، تمسك في يدها كوب شايٍ ساخن مطعم بشيء من النعناع المديني اللذيذ، تقربه من أنفها الطويل وتشتم رائحته الزكية، كثيراً ما أحبت ذلك المزيج ولاسيما في هذا الكوب، الذي مُحيت رسوماته لكثرة استعماله له، فهو ثمين جداً بالنسبة لها، كان هدية من إحدى صديقاتها العزيزات الأحب والأقرب، أخذت تتسلل إلى ذاكرتها ذكرى لقائهما الأول، كيف تعرفتا على بعضهما البعض، كيف عانقتا بعضهما أول عناق أخوي، كيف بكت لأجلها في أول موقف خاضا به قسوة الحياة، كيف تشكل آخر لقاء بينهما وابتدت خيوط الفراق تشد على قلبها بقوة، كيف انهالت عليها بالدعوات بعد كل نهاية محادثة بينهما، تفتقد تلك الدعوات، وتفتقد صوت صديقتها الهادئ الطيِّب، لقد مضى على غيابها الجغرافي قُرابة السنة، إلا أنها منذ فترة طويلة لم تسمع همسها عبر الهاتف ولا حتى برسالة نصية، لقد غابت طويلاً!
حظيت في تلك السنوات بشيء من الجفاف الشعوري، البُعد الذي بينهما أنساها ماهية الاتصال الروحي بينهما، لقد كان ينتابهما نفس الشعور.. نفس القلق على بعضهما، لقد أحست بفتور علاقتهما، إلا أنها أبت إلا أن تضع حجة بَيْنٍ لها لدوام وصلهما، استعانت على ذلك بصندوق ذكرياتهما، ومحادثاتهما الخالدة في قلبها رغم فقدها إياها، ماضيهما المنصرم كان نافذة الحياة التي يدلف منها نور تلاقيهما رغم اتساع المسافات، لقد تركت لها باب قلبها موارباً، اختارت أن تُبقي على صداقتهما، لأجل باب الود بينهما.

ذو صلة