إنّ السلوك الطبيعي للطفل هو السلوك نفسه الذي يمارسه أقرانه، أو معظم مَنْ هم مِنَ الفئة العمرية ذاتها، إذا ما عاشوا في ظِلِّ ظروف نشأة طبيعية، وفي كَنَفِ أسرة متماسكة ضمن مجتمع متوازن. ويُعَدُّ انخراط الطفل في محيطه الاجتماعي، واندماجه بشكل عفوي وودّي - في نظر الباحثين؛ هو درجة عالية مِنَ التلقائية الطبيعية، وأمّا سوء التكيّف الاجتماعي وما يُصاحبه مِنَ التوتّر المزاجي، فإنّما يعني وجود حالة مرضية كخللٍ نفسي، أو فشل تربوي، يحول دون نجاح عملية التهذيب السلوكي، والإعداد الاجتماعي للطفل في مرحلة التأسيس.
ونظراً للأهمية البالغة لمرحلة الطفولة، فهي مرحلة عمرية يقتضي بناؤها الكثير مِنَ الصبر والجهد، والتوجيه المرن والإعداد الواعي لمرحلة اليفاعة، وإدراك التشابك القسري لتلك المرحلة، وتداخلاتها المُعقَّدة مع جميع المراحل اللاحقة؛ ومِنْ أجل ذلك كلّه نشط أخصائيو التربية وعلماء النفس وسلوك الطفل، وكذلك الباحثون الاجتماعيون، لوضع النظريات والدراسات المتطوّرة في هذا المجال وفق أُسس ومعايير دقيقة، تعتمد التحليل السلوكي للتصرُّفات اليومية للطفل، ودراسة الظواهر المصاحبة للفعل الطبيعي، ورد الفعل التلقائي لديه تجاه الحدث.
وذلك نتيجة لما طرأ على الحياة الاجتماعية المعاصرة مِنْ خلل في البُنى التربوية والتعليمية الأساسية التي تنهض عليها قواعد السلوك والمواهب والإبداع، وما شاب هذه الركائز مِن تطوّرٍ وانفتاح سلبيّين، نتيجة الانبهار ببريق الحضارة الغربية، والابتعاد عن العادات والتقاليد الأصيلة المتوارثة، وانزياح القِيَم الدينية والأخلاقية بدرجات متفاوتة، حتى أصبح هاجس بعض الأهالي هو تربية أبنائهم حسب توصيات الدكتور (سبوك). ويعزو المراقبون أسباب هذا التَّفسُّخ الأسري، والخَلل في العلاقات الاجتماعية إلى أسباب اقتصادية واجتماعية عديدة، كخروج الوالدين معظم ساعات النهار إلى عملهما، وانشغال الأقارب بهموم معيشتهم اليومية، وتباعد الأهل والأقارب نتيجة نمو المدن واتساعها، وولع الأطفال بوسائل الترفيه الحديثة، مثل (التلفزيون والفيديو والأتاري والإنترنيت والبلاي ستيشن)، حين يلهو بها الطفل دون رقيب أو حسيب.
ومن هنا نستنتج بأنّ التوجيه السليم والرعاية الشاملة، إلى جانب التشريعات المُنظِّمة لحقوق الطفل وحمايته؛ تمنح الطفل قسطاً عالياً مِنَ الطمأنينة، وتُبعِد عنه شَبَح القلق الذي -ربّما- يقوده تدريجياً إلى الانحراف السلوكي، ويحوّله ببطء إلى العدوانية والتنمّر، وهذا ردّ فعل طبيعي لِلفتِ الأنظار إليه، واستجداء الرعاية والاهتمام على طريقته الخاصة، وأكثر ما يورّث القلق هو الوحدة والخوف والخواء الروحي، والله سبحانه وتعالى يقول: (الذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكر الله أَلَا بذكر الله تطمئنّ القلوب) (سورة الرعد، الآية 8).
والقلق كما يراه (فرويد) عبارة عن: (ردّ فعل على حالة الخطر التي يتوقّعها الطفل). وفي عام 1932م، أجرى عالِم النفس والباحث السويسري (جان بياجيه) سِلسلة دراسات حول النمو المعرفي لدى الأطفال، تناول فيها بحث الأحكام الأخلاقية عند الطفل، لملاحظة أنّ حُكم شخص على (صلاح أو فساد) سلوك معيّن، يتوقّف في جزء كبير منه على إدراك ذلك الشخص لأسباب هذا السلوك، وقد أكّد فيها على الوالدين أنْ يعيا معادلة مهمّة في أسس التربية والرعاية الصحيحة للطفل، فبقدر ما يملكان مِنَ الحزم والشِدّة للسيطرة على الطفل، وتنمية شخصيته، عليهما بنفس الدرجة أنْ يُشعراه بمقدارٍ كافٍ مِنَ العطف والحنان، ليكبر الطفل على قِيَمٍ إيجابية، كالأُلفة والمودّة والرحمة والإيثار والصدق، وهذه القِيَم هي التي تَمدّ الطفل بأسباب التواصل والاندماج والتعاون مع الآخرين، وعلى الوالدين أنْ يحرصا كذلك على إرضاء الطفل بقدرٍ معقول مِنْ تحقيق الرغبات المُمكنة له، لتُحقِّق المعادلة التربوية غايتها بنسبة كبيرة عندما تجنّب الطفل الانحدار إلى مستوى الدلال والميوعة، وتبعده عن دائرة الأذى والعنف.
ويرى العالم الاجتماعي (لوكاش): (أنّ الحياة الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية هما نتاج عملية تطوّر وتغيير تكون حصيلتهما بروز ما نطلق عليه التاريخ، فأطفال اليوم هم رجال الغد، وقادته، وصُنّاع تاريخه، فأيّ تاريخ يصنعه جيل يلهو بـ(البوكيمون وباربي)، ويشاهد (باباي وتوم وجيري)، ويتمثّل بـ(غراندايزر ورامبو))؟! والإمام علي رضي الله تعالى عنه، يوصي الوالدين بأبنائهم أنْ: (أدِّبوهم ولاعبوهم). حيث أنّ لكلِّ أمة تاريخها وتراثها الحافل بالشخصيات القيادية، والرموز العظيمة، فنحن أمة عربية إسلامية لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلّم أُسوة حسنة، وصفحات تاريخنا تزخر بِسِيَرِ القادة العظماء، والأئمة الأجلّاء، والمفكرين والمبدعين والعلماء، ولا يتطلّب الأمر منا سوى القليل منَ الجهد لإعادة كتابة التربية الوطنية، بشكل يليق بقادتنا ورموزنا ويُنصِفهم، ويروي بذور المحبّة والتعاون والتسامح والتضحية في حقولها الخصيبة، لتنبتَ ولاءً وانتماءً وعطاءً شهيّاً.