مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

لمن نقول القصيد؟

(ويَظنُ أنَّي قد أمِيلُ لِغيرهِ
أنَّى وقلبي باسمهِ مَكتوب
‏أنَا مَا شَرِبتُ الحُبَ إلا مَرَّةً
والكُل بَعدَك كأسُهُ مَسكوبُ)
هذه الأبيات نموذج على الكم الهائل من القصائد القديمة والحديثة التي تتحدث عن أمر واحد ألا وهو الحب. فما هو الحب؟ وهل يستحق كل هذا الزخم من الوصف والتحليل؟ وهل الحب جماله يكمن في صعوبته؟ كما قال الفيصل:
احب النادر اللي محد يطوله
واحب كل صعب لغيري ما تهيأ
وهذا ما أكدهُ البدر -رحمهُ الله- في نصيحته التي قال فيها:
إن هويت لا تهوى إلا الصعب الثمين
ولا يروي ضماك بير كل عابر ارتوى منه
أم أن الحب استمد شهرته من لذته التي تكمن في الكبرياء أو ما يصفه العامة بقولهم (التغلّي) الذي يعطي الإنسان شعوراً بأهميته عند محبوبه فهو يكتم إحساسه بالاشتياق ليرى مكانته لدى من يحب وردة فعله.
هل سيسأل عنه؟! هل سيذكره؟!
وهذه الحالة النفسية من الصراعات والتجاذبات أجاد في وصفها محمد السكران في أبياته الآتية:
يا   اصحابه اللي على القمرا  يسامركم
في مركب تلعب الامواج ناحيته
ما جابلي علم ما سولف لكم عني
ما شفتوا الحزن في وجهه وناصيته
لا يدري اني نشدت وجبتله طاري
ولا يدري اني ذكرت اسمه وخصيته
أمْ أن الحب لا يكون إلا بالبعد والافتراق مع الرغبة الشديدة في اللقاء وهذا التناقض العجيب وصفه خالد عبدالرحمن في هذين البيتين:
إن قلت لك مرتاح والله أنا كذاب
وان كان روحي سرها البعد كذابه
ولا يختلف النثر عن الشعر في وصف الحب، فتجد أن القصص التي حققت شهرة عالمية كانت الحبكة فيها تقوم على عدم التقاء الأبطال بل فراقهم وبكائهم.
وحتى أهل العلم ذكروا الحب ومنهم ابن القيم الجوزية -رحمهُ الله- فقد وضع فصلاً كاملاً للعشق في كِتَابَهُ (الداء والدواء)، ووصف أنواعه، وذكر منها: الهيام والصبابة والوجد والوله والاشتياق.
أما علماء النفس فقد وضعوا له أنواعاً بل جعلوا منه مادة تحقق الدافعية لإنجاز الأعمال، ومنها أقوال فرويد المتناقضة بهذا الشأن.
وبعد كل ذلك..
إذا كان الحب به هذا الكم الهائل من الشقاء فلِمَ الإصرار عليه؟!
سؤال محير حقاً!
ولكن الحقيقة خلاف ذلك كله..
الحب شعور وإحساس رقيق عذب يشفي صاحبه ويسعده ولا يشقيه، وهو أمر غير إرادي، فلا يمكن للإنسان أن يختار من يحب فهو ميل قلبي لا يمكن التحكم به، والحب لا يخضع لمعايير الجمال أو الوسامة أو الغنى أو الفقر أو المكانة، بل مقاييسه مختلفة تماماً.
والحب رابط قدسي لا يمكن أن يجتمع مع موبقات النفس وآثامها؛ لذلك كل حب خارج إطار الزواج فهو كذب وزيف، لأن المحب لا يمكن أن يتحمل شعور من يحب بالألم حتى وإن كان مقدار ذلك الألم بسيطاً جداً، فكيف يُحَمِّلهُ ألم وشقاء علاقة بِلا زواج؟!
المحب سعادته تكمن في سعادة من يحب مهما كان يتعب في سبيل تحقيق رغبات من يحب. ألا تجد الأب يسعده ويذهب عناء يومه مشاهدة ابتسامة طفله بلعبة أحضرها له؟
المحب يهتم لمن يحب ويحيطه بهالة من الاهتمام والعطاء، وهذا العطاء متبادل دون معرفة الآخر بمقدار المشقة التي يكابدها المحبوب في سبيل ذلك.
الوفاء يشكل جانب الحب الثابت، فمهما حصل بين المحبين من خصام يبقى الوفاء بينهم، وهذا خلاف من يدعي الحب وتجده بعد الخصام يفضي بكل أسرار محبوبه.
للحب لذة لا يمكن وصفها أو الحديث عنها يجدها المحب في محادثة من يحب وفي مشاهدته في جميع أحواله، فالحب والملل خطان متوازيان لا يمكن أن يلتقيا، فمن يقول إنه يحب ويشعر بالملل فعليه أن يُعِيد النظر في قوله ذاك. وبالمختصر الحب جنة الحياة الدنيا، من لم يذُقها فهو ميت لم يذُق الحياة.

ذو صلة