توطئة: الديموقراطيا نظام عظيم، ولكن له مثالبه، كما نوّهَ ذات مرة رئيس وزراء بريطانيا الأسبق وِنستُن تشرشل Churchill الذي اشتهر بعمق روح الدعابة: (إن النظام الديموقراطي نظام ليس الأفضل، لكن النظم البديلة هي الأسوأ)!
أي إن الديموقراطيا هي الأحسن.
وأرجو أن نبتعد عن الإشارة إلى المعنى المسيء إلى قدسية فكرة (الديموقراطيا)، البعد عما يجري أحياناً تداوله على لسان من هب ودب،(بمن فيهم هذيان (رئيس دولة) عربي مشهور قضى مؤخراً).
ولغوياً، فإن (الديموقراطيا) هي مفردة يونانية مركبة من مقطعين، أصلهما كلمتان مستقلتان: (ديموس)، وتعني (الناس). ومع لفظة ديموس جاءت مفردات (الشعب)، (الجمهور)، بل وأخذت تشمل (عامة) الناس، بينما (كراتيا/قراطيا) تعني الحكم والإدارة. (*)
وأخذاً في الاعتبار مصدر اللفظة وموئلها، سواء في الموضع (الإغريقي/اليوناني) أو فيما تطورت إليه فيما بعد، مارةً بالفكر البريطاني ثم بالثورة الفرنسية وما تلاهما؛ فإنه يلزم التوضيح بأنه بينما ينحو مبدأ وفكرة ومصطلح (الديموقراطيا) نحو فكرة الناس و(الشعب)، وبالتالي فكرة حكم الشعب للشعب، بالشعب، ومنه (من الشعب)
لكن للأمانة التاريخية والفكرية، يلزم الإشارة إلى أن معنى لفظة (الشعب) كان قد تدرّج وتطور عبر العصور، ففي الأصول اليونانية كان مفهوم (الشعب) محدوداً، بل للأسف كان مقتصراً على فئة أو (طبقة) من الناس حيث كان (الأحرار)، بل الطامة الكبرى أن أغلبية الناس كانوا مُسخَّرين للأعمال البدنية التي كان الخاصة يأنفون من أدائها، بينما في نفس الوقت كان (واجب) الدفاع عن الوطن منوطاً بتلك (الأغلبية) ومفروضاً عليها، وبلا حقوق مدنية.
ولكن، وحسن الطالع، كان من جملة تطورات الحركات الدستورية البريطانية (منذ العهد الأعظم: الماقنا كارتا Magna Carta)، 1215م، وبعد نتائج الثورة الفرنسية، أن تم إعادة بلورة فكرة ومفهوم (الديموقراطيا) في شكل متطور وراقٍ.
فمن تأثيرات الثورة الفرنسية وأمثالها أن اكتسبت فكرة (الديموقراطيا) مبدأ المساواة في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية لجميع المواطنين، والرقابة على الحكومة عن طريق هيئة نيابية يشترك في انتخاب أعضائها البالغون من أفراد الشعب على أساس النظرية القائلة بـ(صوت واحد للشخص الواحد)، وأن من حق الشعب أن يشرِّع لجميع أمور العامة بإجماع (أو أغلبية أصوات) نوابه.
ويرى الأستاذ محمد أسد في كتابه: (منهاج الإسلام في الحكم)، تعريب منصور محمد ماضي، (بيروت: دار العلم للملايين، ط 6، 1983م، ص.ص 47- 49): الديموقراطيا الغربية السائدة اليوم هي في الواقع أكثر قرباً وأوثق نسباً بتصور الإسلام للحرية منها بتصور الإغريق القدامى، ذلك بأن الإسلام ينادي بأن الناس جميعاً متساوون من الناحية الاجتماعية، ولهذا، فلا بد أن يُعطوا فرصاً متساوية كذلك للتطور وللتعبير عن إرادتهم.
ونستأنس هنا ببعض نقاط مما جاء في مقال للأستاذ محمد عبدالقادر جاسم (من الكويت):
- أن الأمة هي مصدر السلطات.
- أن الثروة الوطنية للشعب.
- الحاكم رئيس دولة يمارس سلطاته وفق الدستور.
- الحرية قيمة عالمية ليس لأحد أن يصادرها.
وبالطبع، فإن مجرد استعمال وتداول كلمة (الديموقراطيا) لا يكفي، ومجرد نطقها واستعمال المفردة لا يسمن ولا يغني، بل قد نجد أن إطلاق واستعمال لفظ الديموقراطيا في عدد من الأحوال، في بعض البلدان، يصل بنا إلى مستوى نضطر معه إلى الابتسام! مثل: جمهورية الكونغو الديموقراطية، جمهورية كوريا الديموقراطية. و(قبل إعادة توحيد الألمانيتين): جمهورية ألمانيا الديموقراطية.
والديموقراطيا ركيزةُ (الشأن العام)، وفي القطاع العام تعني أن الحكومة تستمد سلطاتها -بصفة عامة لكنها أصيلة- من الشعب، حيث يقوم نوابهُ بالدفاع عن مصالح الأمة قصيرة المدى وطويلته. وحيث الناس هُم مصدرُ الشرعية، فهنا يقوم ممثلوهم (النواب) بالمشاركة في وضع القرارات، وسَن القوانين، وإقرار المعاهدات أو (التصديق) عليها (وذلك بعد قيام السلطة التنفيذية في الدولة بإتمام مراحل الاتصالات والمفاوضات).
فالناس في (النظم الديموقراطية) يكونون مسؤولين عن مصيرهم، ويجدون أنفسهم شركاء في إقرار قراراتهم، وذلك بتكاتف مختلف مكونات المجتمع، بما فيها الطبقة الوسطى، العصب الاقتصادي والمالي في البلاد، ومعها الطبقات الفقيرة والطبقات العليا. وتحتاج هذه النظم إلى (مؤسسات المجتمع المدني) النشطة الواعية.
في (الديموقراطيا) يتجلى التعاون، وتبرز الفائدة المشتركة، وينخرط السواد الأعظم من الناس في خضم العمل الاجتماعي، وكلٌ يؤدي دوره، وكلٌ يسْهمُ بسهمه ويدلو بدلوه. وتكون نتيجة هذا التعاون في شكل: (الكل كسبان)، (بدلاً من التسلط من جهة والتناحر من جهات، فلا يكسبُ هذا ولا ذاك، بل يخسرُ الجَمعُ ويُوَلّونَ الدُّبُر).
في (الديموقراطيا)، وفي العمليات (الديموقراطية) لوضع القرارات، تخرج الأطراف جميعُها شاعرة بأنها (كَسْبانة)، (بل منتصرة!)، وذلك حينما تلاحظ الأطراف المتعاونة والمتعاركة أن (الديموقراطيا) تقود إلى النتائج وإلى الإنتاجية وإلى الاعتدال، ومعها يأتي (القسطاس).
ومن المفاهيم الأساسية هنا: تعددية المشارب والمذاهب والأفكار، بل والمصالح، وفي هذا يأتي (التمكين) المناسب لنصف المجتمع، المرأة، بمشاركتها المشاركة الفاعلة والكاملة في مختلف المجالات والاتجاهات، والانخراط في (ديموقراطية التعليم والتدريب)، وحقوق الإنسان كافة، وتنمية وتنشيط فئات (المجتمع المدني). فهذه هي (المكونات) الأساسية للمشاركة الديموقراطية. فكل جهة تلعب دورها المطلوب والضروري لتحقيق المصالح الخاصة لكل فئة، ومعها يأتي تحقيق (المصلحة العامة).
ولتحقيق الديموقراطيا في المجتمع بعامة، يلزمُ إقرار (سيادة القانون)، وأن القانون فوق الجميع، وأنه يطبق على الجميع، ويساوي بين الجميع.
وتطبيق الديموقراطيا يحتاج إلى: الأمن الشخصي والوظيفي المعاشي، وإلى فرصة التعليم للجميع، والتنمية الاقتصادية، وبالتالي إلى نماء (الطبقة الوسطى).
ومن المقومات الأساسية للديموقراطيا: الفصل بين السلطات (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، حماية حقوق الأقليات، حق الفئات العاملة للمطالبة بحقوقها، حرية التعبير بعامة بتمكين إقامة تنظيمات ومنابر التعبير عن الرأي والمطالبات المتنوعة.
وغني عن القول بأن الديموقراطيا تتطلب حرية وخصخصة الصحافة، وشفافية كافة القوانين والمعلومات، ومقاومة الفساد.
ومن الأهمية تذكر لزوم (توطين) الفكر الديموقراطي أثناء تنشئة الأجيال، لأن (الديموقراطيا) مفهوماً وفكرة غير متجذرة في الفكر العادي، فعلينا أن نسعى إلى توطين المفردة وترسيخ مفهومها، وأن نعمل على (تربية) النشء على مبادئ وتطبيقات التعايش، وتوليفهم باستمرار على النمط (التشاوري) في عمليات (حل المشكلات) في حياتهم اليومية، وأن نقوم بتدريبهم على مبادئ وخطوات (المشاركة) في عمليات وضع القرار، وذلك منذ (نعومة أظفارهم)، ومنذ بدايات سني دراساتهم، بل وفي البيت أصلاً وبدايةً.
ومن أمثلة ما يمكننا عمله لتنشئة أولادنا وبناتنا لتأصيل ولو بعض الديموقراطيا وممارساتها، ما يشمل تعليم وتدريب التلاميذ منذ المراحل المنزلية والمدرسية الأولى على عدد من (المهارات) الاجتماعية الضرورية، مثل:
- الوقوف في الطابور، وانتظار كل منا دوْره، وتحاشي التعدي بالتقدم على الآخرين الواقفين في نفس الطابور.
- التدرب بانتظام على تقاسم الأشياء، وقبول كل شخص بقسطه.
- التدرب على اتباع الإرشادات المرورية، وقواعد السلامة، بما يشمل حقوق الآخرين، كحق مرور المشاة، وحق المرور للطرف الآخر.
- الإكثار من استعمال الألعاب والتمارين التي تحتاج إلى العمل التعاوني وتكوين الفريق، أكثر من التركيز على الألعاب (الفردية).
فعندما نقوم باحترام فكرة ولفظة (الناس)، كونها المصدر اللفظي لـ(الديموقراطيا)، فإننا نقوم باحترام (الناس) في كافة مجالات وممارسات التعامل التطبيقي والسلوكي.
ولكن: تبقى العدالة (ضالة) ومطلب المواطن في كل مكان، وبخاصة في الدول النامية والمتخلفة.
كما تبقى العدالة من أساسات الديموقراطيا، حيث ينبغي أن يكون القانون الجيد اسمها، والقضاء المستقل العادل عنوانها، ومقايضة وتوازن (الحقوق) و(الواجبات) ديدنها.
فالديموقراطيا مشوارٌ نضاليّ كفاحي كبير يحتاج إلى الصبر والمصابرة من جهتيْ الحاكم والمحكوم، فالناس شركاء في الوصول إلى قراراتهم وفي تقرير مصائرهم.
وبعد، وكما جاء (في أبيات كنتُ قد نظمتُها) في قصيدة منذ سنوات:
والناسُ مهما غابَ طاغٍ أو أتَى
فهُمُ الأساسُ على الدوام.. يقينا
(*) فالجزء الأول من لفظة ديموقراطيا= ديموس: الناس، أما الجزء الثاني من الكلمة (كراتيا/قراطيا)، فتعني (السُّلطة/الإدارة/التصرف).
وهنا أقدم حاشيةً حول لفظة (ديموقراطيا) ذاتها كما أستعملها أنا هنا (بالياء والألف في آخرها، بدلاً من التاء المربوطة في الهجاء المتداول).
فإني أفضلُ أن تأتي لفظة (ديموقراطيا) بالياء والألف في نهايتها، وفي ذلك تكون متوازية مع استعمالنا لألفاظ مشابهة ومألوفة، مثل: (جغرافيا)، (جيولوجيا)، (آسيا)، (أفريقيا)، إلخ، فأرى ألا تستعمل تهجئة لفظة (الديموقراطيّة) بالتاء المربوطة والياء المشددة، إلا في حالة صفة الموصوف: النظم الديموقراطيّة، الطبقات الجيولوجيّة، الكشوف الجغرافيّة، إلخ.