مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

مطاع صفدي فيلسوف الجيل الذهبي

 

مع رحيل المفكر السوري مطاع صفدي، يخسر المشهد الثقافي والفكري أحد أهم مؤسسي النهضة الفلسفية. تحول الرجل مع بداية نشأته القومية إلى باحث دائم عن أسئلة محيرة، وبعضها له علاقة راسخة بالوجودية، وبالواقع العربي. فقد نشأ المفكر مع بداية النهضة القومية العربية، في عصرها الذهبي، وشهد أفولها وانكماش الهوية العربية إلى هويات فرعية صغيرة معادية ومناهضة للعروبة والوحدة، بل مناهضة لوحدة تراب بلده سوريا نفسها، وقبلها فلسطين. وبعمقه الفلسفي ورؤيته النقدية الرصينة؛ قدم النموذج الساطع على عروبة حرة، ومتحررة، منحازة للإنسان دون تردد ودون وجل. ساعياً بين المعاصرة والحداثة، وفياً لحلمه، وباقياً لنصرة قضيته.
ولد صفدي في العام 1929، في مدينة صفد، وهُجّر إلى سوريا إبان نكبة 1948، عاش شبابه في دمشق، وبدأ فيها مساره الفكري والسياسي بنزعة وجودية قومية قريبة من الأفكار البعثية الأولى، وبعد هذه المرحلة الوجودية انتقل إلى فلسفة ما بعد الحداثة، وأصبح من روادها وناشريها في الثقافة العربية، مما دفعه إلى تأسيس مركز الإنماء القومي والانتساب لحزب البعث العربي الاشتراكي. اختلف صفدي معهم نتيجة بعد أفكارهم عن تطبيقاتهم، فانتقل إلى بيروت ليتسلم رئاسة تحرير مجلة الفكر العربي المعاصر التي تطرق فيها لمعالجة الفلاسفة المعاصرين، وأخذته الفلسفة الخالصة، فكانت له قراءاته لهيديغر وفتنغشتاين.
وهيمنت على كتاباته أفكار ومصطلحات الفلاسفة الفرنسيين الجدد، مثل: ميشيل فوكو وجيل دلوز وجاك دريدا. فأطاع الفلسفة الغربية وطوعها في كتاباته، فأثرى الساحة العربية بمؤلفات ساهمت في تشكيل فكر ووجدان أجيال كاملة، من تلك المؤلفات: إستراتيجية التسمية في نظام الأنظمة المعرفية، نقد العقل الغربي: الحداثة ما بعد الحداثة - الثورة في التجربة «فلسفة القلق- جيل القدر» (1961)، و»ثائر محترف» (1962)، دراسات في الفلسفة الوجودية، ومجموعة قصصية «أشباح أبطال». فضلاً عن دوره الريادي في ترجمة عدد من المؤلفات والمقالات المهمة، ونشرها في مجلة «الفكر العربي المعاصر».. وغيرها من الدوريات، إضافة إلى عمله في جريدة القدس العربي التي كتب فيها مقالات في السياسة والفكر والثقافة.
تجلت إحدى وصايا صفدي الثقافية بقوله: (ينبغي أن نزيل بعض المفاهيم الثابتة التي تفرض علينا خريطة جيوفكرية، تفصل باستمرار ما بين الثقافة الغربية، والثقافة الشرقية أو العربية على وجه الخصوص؛ ذلك أن الثقافة في النهاية متكاملة، فليس هنالك انفصال بين الأنا والآخرين، بقدر ما هنالك من تمايز وحركة مشاكلة ومثاقفة بين الطرفين).
فرأى أن النهضة والتغيير في المجتمع العربي يسيران ضمن خطين متوازيين هما التجربة التي نعيشها والتجربة العالمية. قال صفدي في حواره الأخير عام 2013 مع صحيفة قاب قوسين: (التكوين هو أن يكون المرء، ليس فقط على مستوى الفكرة، بل مادة للفكرة، قادراً على أن يصبح هو «المفكر به»، وهو «ما ليس المفكر به» في آن واحد، بمعنى: أنه دائماً يتجاوز معطياته المباشرة ويستشرف الآفاق، لذلك عندما كنت أجرب الكتابة في هذه الموضوعات كانت مسألة التكوين هاجسي، وكنت أبحث عن «نماذج تكوين» سواء منها النماذج السابقة التي يقدمها لنا تراثنا، أو النماذج التكوينية التي برزت في المشروع الثقافي الغربي).

 

ذو صلة