مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

نظرية المعرفة والعلم أولاً (2)

 

 

قال أبو عبدالرحمن: إن براهين العقل علمية مصدرها المشاهدة في الأنفس والآفاق، والمرجع للصور المحفوظة في الذاكرة من الهويات والعلاقات والمفارقات.. والفرد قد يكون بارعاً وهو ابن سبع سنوات في أحكامه وتصوراته، ولكن في فهم المراد الشرعي حكماً ووصفاً: رحمه ربي بسعة في الأجل، فلم يجعله مسؤولاً محاسباً إلا بعد بلوغ الحلم.. وتصنيف الأحكام يقوم بعد توفيق الله على ملكتين عقليتين هما التمييز بجودة الفهم، ورهافة الإحساس في اللماحية.. وبهذه القوى بعد الله تحصل هبته، وتحصل ممارسته العلوم الصعبة بنزاهة.. ومن عباد الله من هو بليد عومة وإن مارس، فهؤلاء معذورون يقال لهم: (سلام)، ويزجرون عن القول فيما لا يعنيهم، ويقال لهم: خذوا النتائج من أهل العلم تلقيناً.. وفطر العقل على ضرورات الخبرة التصورية هويات وعلاقات وفوارق، وأهم هذه الضرورات إحالة التناقض والتضاد، وإيجاب السبب الكافي، فأما إحالة التناقض والتضاد فكراً لا عملاً ولا حركة: فإنه يمنع من الجمع بين الحليب والعسل وعصير البرتقال في هوية واحدة، لأن فطرة الله كوناً في التمايز بينها هوية: منعت العقل الذي هو فطرة الله أيضاً من الجمع بينها ورفعها، ومنعت من التقاء طرفي الخط المستقيم.. وأما الحركة والفعل بما وهبه الله الإنسان من قدرة وحرية اختيار: فإنه يقدر على جعل طرفي الخط المستقيم يلتقيان، ولهذا تتغير الهوية، فيكون الخط منحنياً لا مستقيماً.. ويقدر على مزج الحليب والعسل وعصير البرتقال، فيكون هذا الشراب ذا هوية أخرى غير هوية الحليب وحده، وهوية العسل وحده.. إلخ.. وأما إيجاب السبب الكافي للمتغيرات في الكون فهو وجود تكتشفه خبرة العقل الإنساني المشترك.. يرى لكل متغير سبباً، ويرى للسبب سبباً، وقد يجهل السبب ولكنه موقن بوجوده، لعقيدته بأنه لا شيء إلا بسبب.. ويعلم يقيناً أن كل الأسباب راجعة إلى سبب واحد يسميه الفلاسفة (علة كافية ما وراءها علة)، وتلك إرادة الله وقدرته بالبراهين العلمية من الأنفس والآفاق على أن الله واحد بالكمال المطلق لا شيء قبله ولا بعده، ولا بداية لأوليته، وأنه الآخر لا شيء بعده، وصفته أنه الدائم الباقي المهيمن الفعال لما يريد سبحانه وتعالى، ويستحيل تفسير الكون بغير ذلك.. وخبرة العقل منتجة بالله ثم بالفعل والحركة، فنواميس الله في كونه هي خلقه، وهي سنته الكونية في تنظيم خلقه.. ولقد أذن الله لخلقه على مدى التاريخ باكتشاف عشرين ومئة عنصر كيميائي اكتشفوها مما أذن الله بمعرفته من نواميس كونه، فأفادوا منها اكتشاف السر في ظواهر من المخلوقات، وأقدرهم الله على أن يصنعوا بها من مخلوقات الله إنتاجاً بشرياً، والله خالق البشر وما صنعوا.. والناموس بهذا المعنى هو سنن الله في أنظمته في كونه، والكلمة فصيحة مولدة بالمجاز من كلمة أعجمية استعملها العرب، إذ حولوا (صاحب السر) إلى السر نفسه.. والعقل بخبرته يعلم ببادي الرأي علم اليقين -كما بينت ذلك في أحد بحوثي- بعواصف مدمرة تأتي، وفيضانات، وسحب داجنة عريضة تهطل صباً لا رشاً، فيوقنون بالغرق، ولا يجدون بالاستقراء مانعاً من ذلك، ثم يفاجؤون بالسحب الداجنة العريضة التي تصب الماء صباً تتوقف، وتتقطع، ويتحول بعضها إلى جهام (نفيض) متطاير لا ماء فيه كما قال أبو الطيب:
 ومن الخير بطء سيبك عني
 أسرع السحب في المسير الجهام
لماذا؟.. لأن المانع مفاجئ بإرادة الله، فليس هو على الحقيقة من علم البشر إلا بعد وقوعه، وقد يمضي الله المقتضي، فتكون نتيجة علم البشر يقينية وهي قبل ذلك رجحانية وإن ظنوها يقينية.. والعلم لا تحصيل له إلا بالعقل من مصادره، فالمصادر التي توصل العلم إلى العقل: هي الحواس الظاهرة والباطنة، ويدخل في ذلك العلوم، فالعلم الشرعي كان مصدر التصديق به العقل أولاً، وقد حكم بأن الشرع على العصمة والصدق في أخباره، والعدل والإحسان في أحكامه، فكل ذلك حاصل بنظر العقل في براهين الله في الآفاق والأنفس على أن الله هو الواحد المتفرد في الكمال المطلق، والتنزه المطلق، فتلك البراهين العقلية مصدرها الحس.. ثم جاءت ثانياً براهين الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه وبركاته على صدقهم، وأن الشرع من عند الله.. ثم جاءت ثالثاً براهين الشرع نفسه على أنه لا تصلح حياة عباد الله، ولا يسعدون إلا بالشرع الذي هو تنزيل خالقهم.. وفي الشرع التذكير بكل ما سلف من براهين الله.. والشرع مسموع ومقروء بلغة القوم الذين نزل إليهم الشرع، فحفظه وفهمه ممارسة حسية بحضور العقل وشهادته.. والعقل يتصور، ويحفظ ما تصوره، ويستذكر ما في تصوره.. وفي تصوره معرفة العلاقة والفوارق التي تصورها، والتمييز بينها، والتجريد منها (أي تجريد المعاني العامة للأشياء)، والتأليف من الأجزاء المتصورة المعاني المجردة، وذلك بملكة العقل التي هي الخيال.. وما تخيله قد لا يعلم وجوده في الأعيان بذلك التأليف.. وأما أجزاء ذلك التأليف فلا بد أن تكون في الأعيان، لأن العقل لا يتصور إلا ما أدركه من الأعيان، والخيال لا يستطيع التأليف إلا من أجزاء تصورها العقل من المحسوس.. وأما الواقع المغيب فغير معروف بتصور العقل، ولكنه معلوم.
 قال أبو عبدالرحمن: المعرفة ما عرفه العقل بالمشاهدة الحسية، والعلم معرفة الشيء المشاهد مع زيادة المعرفة بأحواله وخصائصه والحكم فيه: بالاستنباط، وبالممارسة الحسية المكررة (التجربة).. ومن ثم أعود إلى بيان أن الواقع المغيب غير معروف بتصور العقل، ولكنه معلوم الوجود بآثاره، ومعلوم الصفات من آثاره، ومعلوم من وصف العليم به إذا ثبت الخبر عنه دلالة وثبوتاً كصفات الله سبحانه وتعالى: نعلمها بتفصيل الشرع، وبمجمل دلالة براهين الله في الآفاق والأنفس على الكمال المطلق والتنزه المطلق بصفة الوحدانية، وبهذا ينتقل العقل بملكة الاستنباط من معرفة المحسوس والعلم بأحواله إلى العلم بالواقع المغيب حسبما وصل إليه من مشاهدة الآثار، وسماع أو قراءة الأوصاف بالخبر المعصوم.. ووصف المغيب علم مقارب لا مطابق بالنسبة للمخلوقين، فإن جاء الوصف على الكمال المطلق: فهو علم مطابق بدلالة الكمال والإطلاق، وهو وصف مطابق في علم ذي الخبر المعصوم جل جلاله.. وهكذا صفات نعيم الجنة، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فالعلم المطابق أنه فوق كل ما نتصوره من نعيم، ولا نبلغ العلم بمنتهى كماله إلا أنه عطاء من ذي الكمال المطلق جل جلاله القدير الغني الذي لا ينفد ما عنده، ولا يعجزه شيء، وإذا أراد شيئاً قال له: (كن) فيكون.. وجاء شرع الله مصحوباً ببراهين صدق الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن الشرع من عنده.. وجاء الشرع آيات بينات مذكراً الناسي، معلماً الجاهل بالبراهين عليه في الآفاق والأنفس.. ثم وجد ممتثلو الشرع براهين صدق الشرع وعدله وإحسانه وعصمته طمأنينة في قلوبهم.. وجاء الشرع المتعلق بأفعال العباد بعد قيام الحجة على أن الله هو الحق، وأن دينه الحق.. وبعد هذه الجولة يتلقى العالم المسلم، (والعامي مكلف بسؤال أهل الذكر) شرع ربه على أنه حق واجب يترتب على فعله الثواب، ويترتب على تركه العقاب، وأن الثواب والعقاب يقعان في الآخرة وفي الدنيا.. ومن عقاب الدنيا هلاك المعاندين بالريح والصيحة والحاصب والغرق.. ومنه حرج الصدر، والمرض النفسي، والجنون، والانحطاط عن شرف الإنسانية.. ومنه الاستدراج بالخيرات، ليزداد المحاد لله إثماً.. ويتلقى المسلم شرع ربه على أنه صدق، وعدل، ورحمة، وحكمة، وأنه معصوم، وأن فيه خير البلاد والعباد، فلهذا كله يتلقى ما جاء على أنه شرع الله بنظر العقل بمصادره الحسية من ثلاث جهات: الأولى والثانية منها واجبتان، والثالثة كفر:
الجهة الأولى: التحقق من ثبوت النص عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله بيقين أو رجحان، وكلاهما موجب العلم والعمل ما ظل الرجحان قائماً ولم يستجد علم يجعل الراجح مرجوحاً.
والجهة الثانية: التحقق من دلالة الخطاب الشرعي على المراد بيقين أو رجحان، ومن لا يحقق هاتين الجهتين فلن يعبد الله على بصيرة، وقد يفتري على الشرع ما ليس فيه، أو ينفي ما ثبت أنه منه، لتقصيره في الطلب.
والجهة الثالثة: أن يرد الخطاب الشرعي بعد صحته عند الفقيه المسلم دلالة وثبوتاً بنظر عقلي خارج البيان الشرعي، وذلك بتكذيب الخبر، لأنه غير معقول، أو يرد بعض الأحكام كبعض العقوبات الشرعية، لأنها عنده قسوة ووحشية.. ومآل كل ذلك إلى الإسقاط من الشرع، أو الإضافة إليه، أو الاستبدال منه.. وهذا هو الكفر المحض، والردة عن ضرورات العقل التي حصل بها الإيمان.. وبكل ما سبق نكون أمناء مع الخطاب الشرعي من جهتي الدلالة والثبوت، فمن جهة دلالة النص الثابت فلا نتجاوز ظاهر الدلالة بشرطي التصحيح اللغوي في اللغة، ولا نتجاوز برهان إرادة منزل الشرع له فهو برهان الترجيح، وهو الظاهر الشرعي الذي تحرم مخالفته.. وكل ما نسب إلى مراد الشرع وليس عليه دليل صحة من لغة العرب: فهو افتراء عليه، لأن خطاب الشرع بلسان عربي مبين، ولأن برهاني التصحيح والمراد يستخرجان من علم الدلالة المبثوث في متون وعلوم اللغة، والنحو، والبلاغة، والسياق، ومعهود الشرع واصطلاحه.. واصطلاح الشرع كما في معنى الصلاة والصيام والحج: نص شرعي.. وهو غير اصطلاح علماء الشريعة كالاصطلاح على الماء الطاهر والطهور، وتقسيم التوحيد إلى ألوهية وكمال وربوبية.. ومصطلحات علماء الشريعة صحيحة إذا كانت معانيها وأحكامها موجودة في نصوص الشرع، متميزة بذلك الاصطلاح، قائم برهانها من المتون والعلوم.. وبرهان المراد يسمى برهان ترجيح وإن كان يقينياً، لأنه رجح مراد الشرع من عموم لغة العرب، فاختيار المعنى اللغوي ترجيح له على بقية المعاني اللغوية، أو ترجيح للأخذ بجميع المعاني إذا كانت غير متضادة ولا متناقضة.. وهذا المعنى المرجح من اللغة قد يكون هو مراد الشرع اليقيني، وقد يكون هو المراد الرجحاني، وقد يكون الظاهر في المراد الشرعي غير المتبادر للذهن من المدلول اللغوي.. وتبدأ ملكات العقل في تصور العقل نفسه بما اكتسبه من المعرفة والعلم من مبدأ الهوية، فهو مصدر كل تصوراتنا، وهو مصدر كل أحكامنا في الوجود وجوباً متعيناً، أو ممتنع الوجود، أو محتمل الوجود.. ومنه أحكامنا في درجات علمنا بين اليقين والرجحان والاحتمال، ومنه تحديد سلوكنا في درجات علمنا من الاعتقاد والعمل بما علمناه يقيناً أو رجحاناً، أو علمناه من الاحتمال بغير نفي أو إثبات.. وهكذا سلوكنا في التوقف عما لا علم لنا به.. ولو فرض أننا وجدنا طعم الحلاوة في فاكهتين مختلفين: طعماً واحداً بلا فارق بينهما في معرفة الذوق: لكانتا حلاوة واحدة ذاتي هوية واحدة لا تختلفان إلا بالنسبة إلى فارق غير مؤثر كاللون الذي تتميز به هوية كل واحد من النوعين، فإن دلنا العلم التجريبي على فارق خفي بين الحلاوتين أصبحنا بالعلم لا بمجرد المعرفة المباشرة نعتقد ونتصور هويتين مختلفتين.. والعلم بالكائنات بإطلاق إنما هو لعلام الغيوب سبحانه وتعالى، وإنما علمنا ربنا أشياء بتفكير العقل بمصادره الحسية والشرعية، فعلينا ألا نتعدى قدرات العقل الفطرية المعروفة باستقراء الممارسة الحاصرة، ومن هذه الممارسة علمنا: (أن أصل ما علمناه علم قاصر محدود بما نصل إليه من معرفة ما يوصله الحس إلى العقل من هويات الأشياء التي تصورناها كما هي عليه وفق تصورنا، ونميزها بالفوارق والعلاقات)، فكان العلم بالهوية هو المصدر الأول، وهو في نظرية المعرفة يسمى (مبدأ الهوية)، ثم اشتق من مبدأ الهوية مبدآن عامان: أولهما برهان السبب والعلية الذي لا يتصور العقل حصول الهوية إلا به، لأن السببية مشاهدة عامة، والعقل مفطور على البحث عنها، لأن ممارسته الحسية لم تنخرم عنها.. وثانيهما برهان رفع التناقض والتضاد، بألا يجتمع ولا يرتفع نقيضان، لأن ذلك عدم محض كالجمع بين الحياة والموت حسبما مر آنفاً.. ومن مبدأ الهوية أرغمنا العقل بضروراته التي فطره الله عليها على الحكم بما هو ممتنع الوجود، لأن تصوره محال، وهذا المانع هو قانون إحالة اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما، لأنه لا يوجد ثالث غيرهما، وهو المسمى (الثالث المرفوع).. وسبب إحالة الجمع بين الضدين: أنه جمع بين هويتين مختلفتين ليس بينهما ثالث غير مرفوع، ولا يستحيل رفع الضدين، لوجود ثالث أو أكثر غيرهما كما مضى بيانه.. وهذه الإحالة مشروطة بالأمور التالية:
الأمر الأول: أن يكون الحكم على الشيئين القابلين مثل الحياة والموت، وهما نقيضان حكماً بمقتضى حقيقة اللغة لا مجازها كما سلف ذكره من قول الخنساء: (لاحياً فيرجى، ولا ميتاً فيبكى)، فهذا على المجاز.
والأمر الثاني: أن يكون الجمع بين النقيضين غير عمل يحول هوية النقيض إلى هوية أخرى كالاستقامة والاعوجاج، فالخط المستقيم هويته الاستقامة ونقيضه الاعوجاج، فنستطيع أن نحني الخط المستقيم عملياً، فلا يكون مستقيماً معوجاً في آن واحد، بل تغيرت هوية المستقيم بالعمل، فكانت هويته الاعوجاج.. والمربع والمثلث والمستطيل والمستدير أضداد، وتستطيع بالعمل أن تجعل المستدير مربعاً فتتغير الهوية بدون جمع بين الضدين.
والأمر الثالث: أن يكون الجمع بين النقيضين أو الضدين غير عمل ينتج هوية ثالثة مع بقاء كل واحد على هويته في الأصل كما مر عن المزج بين العسل والحليب وعصير البرتقال.
والأمر الرابع: أن يكون الجمع في غير ما هو متفرق في الوجود في آن واحد كوجود الخير والشر، فهما موجودان في آن واحد، وهذا هو فرق ما بين التناقضات الوجودية والحكمية، ذلك أن في العقل، وفي النفس (مشاعر القلب)، وفي الطبيعة (خارج النفس) أموراً متعارضة حمل الماركسيون تعارضها على التناقض.. والتناقض يحتم صراعاً يزول به أحد المتناقضين.. ومن أقطاب الماركسيين (موس كافين)، و(جي يبس)، و(جورج بولينزر) الذين بنوا فلسفتهم على دعوى تلك المتناقضات في كتابهم (أصول الفلسفة الماركسية)، وهكذا فعل زعيمهم (ستالين) في كتابه (المادية الجدلية، والمادية التاريخية)، والمادية الجدلية تعني صراع (نفي النفي) المستلهم من الهيام الهيجلي.. ومثل هذا في كتاب (الكراسة الشيوعية) لزعيمهم الشرقي (ماوتسي تنج).. وبعض هذه الكتب ترجم قديماً، وأفرغت مكتبتي من ركامها، ولم يبق إلا ما قمشته منها في كناشتي، ولم آس إلا على أسفار (لينين) عن الفن التي فرطت فيها، لأنه عسر علي فهمها، ثم طلبتها فتعذر علي وجودها ولم يبق عندي إلا الملخص في مجلد واحد.
 قال أبو عبدالرحمن: في العقل أفكار متناقضة، وهكذا غرائز النفس، وهكذا مشاعر القلب، وهكذا أحوال الطبيعة الخارجية.. هي تناقضات وجودية لا حكمية، وهي متناقضات غير محالة، فليس من المحال أن أقول مخبراً لا حاكماً: (في عقلي أفكار تحتمل أن هذا الذي أراه إنما هو جدول ماء غزير منساب، وتحتمل أنه سراب إذا جئته لم أجده شيئاً.. وفي نفسي غريزة تريد البطش والعدوان، وفي نفسي غرائز الحب والصبر والتسامح.. وفي قلبي مشاعر فرح وبهجة، وفيه مشاعر ترح وانقباض.. وفي الطبيعة رجال في شراسة السباع المتوحشة، وفيها رجال على صفة ديوثة الخنازير القذرة.. كل هذه متناقضات بلا ريب، وكلها موجودة متفرقة بلا ريب، وليست محالة ألبتة، لأنني لم أحكم باجتماعها أو ارتفاعها وليس عندي ثالث غير مرفوع، فقولي (في البشر الحياة والموت): خبر عن وجودين متناقضين في مكان وجد فيه النقيضان مجتمعين، فذلك خبر صادق لا إحالة فيه، لأن المكان متعدد الأجزاء، فيحصل في جزء غير ما حصل في الجزء الآخر، وهذا بخلاف ما تقوله عن شخص واحد في آن واحد كقولك: (زيد الآن لا حي ولا ميت) وأنت تريد حقيقة معناهما، فهذا محال لا يستطيع العقل تصوره، ومحال أن يكون موجوداً بهذا الجمع كما يستحيل أن تقول: (هذا الخنزير الآن ليس قذراً ولا طاهراً، وليس غيوراً ولا ديوثاً).. إلا أن الغيور والديوث كانا في آن قصير لا يظهر به أحد الحالين، فالحاكم بأحدهما بان على علمه بطبيعة الخنازير، وغير العالم صامت عن الحكم وهو يعلم أنه: إما كذا، وإما كذا.. كما يستحيل أن تقول: (هذا الرجل تجاه ذلك الرجل معني به وغير معني به الآن، باطش به عدواناً وغير باطش به، وذو علاقة به ولا علاقة له به.. وكل ذلك الآن!!).. والفارق بين وجود المتناقضات أنها غير مجتمعة، وأنها غير محالة، وأن الحكم فيها بدعوى وجودها مجتمعة في الآن والزمان قائم على عدم (الثالث غير المرفوع)، وذلك محال، فإن نفى الأمرين مع وجود الثالث غير المرفوع كان ذلك غير محال.. وقد يكون غير المرفوع أكثر من واحد كاختلاف الآن والمكان، واختلاف دلالة اللفظ بصرفه عن حقيقته إلى مجازه كقول الخنساء الذي مر ذكره عن أخيها: (لا حي فيرجى، ولا ميت فيبكى).. ومن غير المرفوع اختلاف الهوية والكيفية والإضافة.
 قال أبو عبدالرحمن: وما أجمله الماركسيون تحت عنوان (التناقض): مختلف جداً بثنائية الوجودي والحكمي التي أسلفتها.. والتناقض الحكمي ليس على عمومه، بل هو أحد ثلاثة أحوال حكمية: الأول ما لا يمكن للعقل أن يتصور إثباته ونفيه في آن واحد، لتخلف ثالث مرفوع، وذلك هو التناقض المحال كقولك: (الخير والشر موجود في الوجود مفرقاً وغير موجود في الوجود مفرقاً).. وكذلك ما لا يمكن للعقل أن يتصوره إثباتاً، وهو اجتماع الضدين، فهذا أيضاً تناقض محال.. والثاني أحوال حكمية يتصور العقل إثبات أضدادها ولا يتصور نفيها سواء أكان المنفي متعيناً أو احتمالياً، وذلك هو احتمال نفي أحد الضدين كقولك: (فلان راكع ساجد) وأنت تريد حقيقة اللفظ ووحدة الزمن، ولا تريد أنه يمضي فراغه لعبادة ربه إما راكعاً وإما ساجداً، فالثالث المرفوع موجود بأضداد كثيرة، فيمكن أن يكون نائماً غير راكع ولا ساجد تعييناً، ويمكن بالاحتمال أن يكون قائماً أو مضطجعاً أو راكضاً أو راكعاً، ونفي الحكم هاهنا أن تقول (ليس في الكون عدو ولا صديق ولا محايد ولا غير قابل كل ذلك)، وهو الذي لا يعرفك، بل تقول حسب منتهى علمك: (لا أعلم لي صديقاً في الكون، ولا أعلم لي عدواً، لأنه يوجد في الكون محايد، وعدو، وصديق.. وفي الكون (غير قابل) كالجمادات، فأنت أثبتّ الأضداد ونفيت أحدها، وهو الصديق بالنسبة لمدى علمك.. والثالث أحوال حكمية تسمى تعارضاً وليست تناقضاً ولا تضاداً، وهي تعارض في الذهن لا في الواقع ينتفي بتوقف من لم يعلم المتعين من الأمرين، ويستيقن أن اجتماعهما محال.. ويرتفع عند من علم بالمتعين كمن علم الناسخ من المنسوخ، فاستيقن أن النصين حقاً كل واحد له حكمه في زمنه.. ومنه ما يكون منجلياً عند فحول المجتهدين كالعلم بأن استخراج الخاص من العام يبقي بقية العام على عمومه.. وهذا التعارض من أعظم ما يواجه المجتهدين في الجمع بين النصوص، ويرفع الله به درجات المتميزين بالفكر والعلم في استقصاء النصوص وتوثيق الثبوت والدلالة، وهو الركن الركين فيما ألفه العلماء عن أسباب الاختلاف.
 قال أبوعبدالرحمن: والماركسي يريد فساد الأرض والحرث والنسل، وإصابة العقول بالخبال، وحجز القلوب في دائرة القلق، وذلك بالفلسفة الممروضة تعمداً لا المريضة واقعاً، إذ يحاول الماركسي بحيلته الخاسئة نفي الحقائق الثابتة، وهي وجود المتناقضات في الوجود متفرقة.. وأمّ المتناقضات عندهم القضاء على الطبقية، ليكون الناس سواسية في الرزق، فهذه المحاولة أولاً كاذبة في سلوكهم، فالحزب الشيوعي في منتهى الرفاهية، فرجل مثل (خروتشوف) من أكثر الناعمين بمباهج الحياة.. ولم يرتفع الفقر بسلوكهم الكاذب المبني على خلاف ما يعتقدونه من جحد الله سبحانه وتعالى، فإن استطاع العامل بجهده أن يشبع ويكتسي، فذلك هو شعار (يا عمال العالم اتحدوا)، وإن لم يستطع فمنطقهم (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه) (سورة يس: 47).. ومن هذا الضلال ولدت فكرة (البقاء للأصلح أو الأقوى)، فلا حرج عندهم في قتل المريض المزمن في المستشفى، لأنه عبء على المجتمع.. ولا حرج في ضرب المجانين، أو نفيهم إلى البحر، أو قتلهم، لأنه لا سعادة لهم إلا بذلك، ولا خلاص للمجتمع، ولا حماية لخزينة الدولة إلا بهذا.. وهكذا قتل مشوهو الحرب أو الحريق.. وبعد هذا كله فالماركسية والثقلان جميعاً غير قادرين على نفي التناقض الوجودي في سنة الله الكونية، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.. وأدنى نموذج أنهم عاجزون عن تسوية العقول والمهارات، ليكون العامل الخامل نديد العالم الماهر في موهبته.. والله جعل هذه السنة الكونية برهاناً جلياً في الآفاق والأنفس، وهو هداية من الله كونية تمنح العقل يقيناً، والقلب طمأنينة.. وأما صراع المتناقضات، ونفي النفي في دنيا الأحياء العاقلة فذلك حق معياري يميز به الحق والخير والجمال بالمعادلات في القدرات التي قد تركن في حين إلى الرضا بأحلى الأمرين.
 قال أبو عبدالرحمن: يأتي إن شاء الله تعالى مستقبلاً في غير وقت محدد الآن بحث مستقل ضمن معاني مفردات نظرية المعرفة والعلم عن معنى التناقض، وعن معنى السببية، وحسبي هاهنا العلم بأن (لكل هوية تصورناها سبباً به وجدت)، وهذا الحكم بعدي لا قبلي، لأن كل الهويات التي تصورناها مشهود سبب وجودها، ثم صار عدم العلم بالسبب فيما شاهدناه بعد ذلك: لا يعني سوى جهلنا بالسبب، ولا يعني التسليم بموجود لا سبب لوجوده، لأن وجدان عقولنا يخبرنا أن العقل غير قادر على تصور هوية عرفناها بلا سبب أوجدها.. ولما اشتق من نظرية المعرفة والعلم البشرية (بباء قبل الشين) أحكام من مسائلها قيام البراهين: على أن الكون خلق الله، وأن الخالق له الكمال المطلق غير القابل الإضافة، وأنه مقدس عن كل نقص لا يقبل سلباً، وأن ذلك بصفة الوحدانية بلا شريك ولا ند، وأنه الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية، بمعنى أنه الحي القيوم الباقي الدائم الفعال لما يريد كما بينت ذلك في بحوث لي عن مسائل الإيمان والإلحاد، وأن خبر الله على الصدق والعصمة: علم أن كل سبب مشهود أو غير مشهود ينتهي إلى إرادة وخلق الخالق الواحد تبارك وتعالى، وهذا يسمونه (العلة الكافية، أو السبب النهائي).
 قال أبو عبدالرحمن: والبرهان على أن السببية ضرورة في العقل الإنساني المشترك: أن هذا الكون الذي نشاهده وندرك بكل الحواس أو ببعضها ما بدا لنا منه، ونحن جزء من هذا الكون، والعقل البشري المخلوق مفطور من خالقه على طبيعة في الإدراك لا سبيل إلى تبديلها أو تحويلها، لأن العقل مسبوق بما هو موجود وليس صانعاً له، وقصاراه ونهايته أن يعرف ما التقطه حسه تصوراً، وأن يعلمه حكماً، وأن يفيد من مجموع تصوراته وأحكامه في ابتغاء معرفة ما غاب عنه لمساً باليد، لينطلق إلى علم به: (قال أبوعبدالرحمن: النقطتان الأفقيتان إشعار بأن ما بعدها خبر (أن) قبل خمسة أسطر مضت) أنتج حقيقة ماثلة في الوجود.. ثم وجدنا العقل بالضرورة لا يتصور وجوداً بلا سبب، ووجدنا في أنفسنا من جراء هذه الضرورة: أن العقل لحوح على معرفة سبب وجود هذا الكون، ووجوده هو، وفي فطرته التي لا يستطيع تجاوزها قسمة حاصرة هي (أي الفطرة) في وجودها غريزة، والقسمة في حصرها مكونة من جميع معارفه وعلومه منذ بلغ التمييز، فلم يجد العقل في ضرورة القسمة سوى أربعة احتمالات لا خامس لها: فإما أن يكون الكون حدث بلا سبب، بل بمصادفة غير معللة.. وإما أن يكون أوجد نفسه، وإما أن يكون أوجده خالقون كثر دفعة واحدة أو بالتناوب، وإما أن يكون موجده واحداً.. فأما أن الكون أوجد نفسه فكلمة محالة المعنى لغة، لأنه قبل الخلق ما كان شيء اسمه كون يوجد مصادفة، وبعد وجوده كان شيئاً بعد أن لم يكن شيئاً، فجملتا (شيء) و(لا شيء) تنفيان أن يكون (لا شيء) كوناً يخلق، وأن تكون (شيء) هي نفسها (لا شيء)، فيصح أنه خلق نفسه.. وأما المصادفة حكماً فلا وجود لها في الكون ببرهان من المشاهدة، وأما المصادفة في دنيا البشر بغير قصدهم فموجودة علماً وعملاً، فقد يجتمع الفرد بمن طال شوقه إلى لقائه من غير علم وميعاد مسبق.. وقد يعمل عملاً ينتج مصادفة ما لم يقصده، وهذه هي المصادفة العملية لو قصدها لكانت عمياء، لأنك لو ملأت فمك بالحبر، ثم مججته رشاً على لوح: لم تخرج لك حروف وسطور مقروءة قد قصدتها، وقد يوجد من الرش كلمة، أو حرف، أو صورة شيء، أو صورة بعض شيء لم تكن قاصداً فعلها، فلما أنتجت ما لم تقصده كانت إرادة محكمة من الخالق جل جلاله الذي لا مصادفة في تدبيره، بل كل ذلك عن علم وحكمة.. وأما أن الكون وجد بلا سبب فلا سند له إلا ما مر بطلانه من كونه وجد مصادفة، أو خلق نفسه، ولهذا جمعت هذين الاحتمالين مع السبب في احتمال واحد.. ونفي السبب ليس في فطرة العقل بعد حصول معارفه وعلومه البعدية، ولا يقوى على تصوره.. خذ مثلاً رجلاً سافر وبيته مليء بالأوساخ، وأجزاء من ثيابه وفراشه وسخة، وكل ذلك مبعثر في الأرض، وليس عنده زوجة ولا ولد ولا خادم.. ثم عاد فوجد بيته نظيفاً مكنوساً، وفراشه نظيفاً مطوياً، ولباسه نظيفاً معلقاً، فهل يقوى أي عقل أن يقول: حصل هذا بلا سبب؟!.. كلا، لأن السبب من يقينه، ولكنه قد يجهل من هو فاعل السبب.. هذا في دنيا البشر في أعمالهم، وأما ما يحدث في الكون ولو من فعل البشر أنفسهم فلا يكون سببه الكافي إلا إرادة الله وإقداره بعض مخلوقاته.. وأما الاحتمال الثالث، وهو أن خالق الكون أكثر من خالق: فذلك غير متصور بأبسط عناصر الإدراك الحسي معرفة، وإدراكاً لما ظهر منه علماً، بل العقل ينفي تعدد الخالقين بإحالة تصوره، ويوجب الوحدانية بحتمية عقلية، لأن نظامه في أفلاكه الجامدة وأحيائه يدل على إرادة خالق واحد، ونظام لا يحتمل التنازع، وقد أفضت عن هذا في الكلام في بحوث لي عن مسائل تحليلي (برهان التمانع)، وعن مسائل الإيمان والإلحاد عند تحليلي (البرهان الأونطولوجي) كدلالته على أن أي ظاهرة في الكون كالعظمة: فإنها متحتمة الدلالة على أن موجد الكون واحد أعظم.. وأما اليقين الذي جعلته احتمالاً رابعاً على منهج التنزل في الاستدلال ثقة بحتمية البرهان: فقد أظهره إحالة بقية الأقسام التي لا يتصور العقل غيرها، وإلى لقاء في الشهر القادم إن شاء الله تعالى، والله المستعان.

 

 

pantoprazol 60mg pantoprazol yan etkileri pantoprazol iv
ذو صلة