وجد الفتى نفسه في مدرسة العلوم الشّرعية، وهي المدرسة التي انتقل إليها بعد تجاوزه مرحلة كُتّاب الشيخ الحلبي، الذي كان يقع في الجهة الخلفية لمسجد مالك بن سنان رضي الله عنه، وعند الأهالي كانت الدلالة عليه (كُتّاب سيّدنا مالك)، وكثير من شباب المدينة المنوّرة (فكّوا الحرف)، كما يقولون، في هذا الكُتّاب، ومن بينهم الصديق الأستاذ يوسف ميمني، وأخوه فريد.
وجد الفتى اختلافاً بين هذه المدرسة وبين المحمدية، ففي مدرسة العلوم الشرعية كانت فئات مختلفة من شباب البلدة تدرس فيها، بل ومن طوائف إثنية متعدّدة. كان التسامح من سمات تلك المرحلة، قبل أن تدخل مرحلة الأدلجة والتصنيف.
وكان من بين الطلاب مجموعة قدمت من البلد العربي الجزائر، احتضنتهم المدرسة، كما احتضنت من قبل نفراً أضحوا من طليعة أدباء الوطن، مثل: عبدالعزيز الربيع، وأمين عبدالله القرقوري، وعبدالفتّاح أبومدين، أحمد رضا حوحو، وقد كان الأخير من روّاد كتابة فن القصّة.
وصباح يوم خيّمت فيه السكينة على كلّ شيء، طلب منه أحد طلاب المدرسة من الإخوة الجزائريين، واسمه بشير العقبي، أن يساعده هو وزميل آخر في حمل الدوارق والأواني المخصصة لشرب الماء في الحرم النّبويّ الشّريف، وسار ثلاثتهم إلى مدخل الحيّ الذي يحمل اسم (الأغوات) ودخلوا إلى ما يُعرف بـ(السبيل)، الذي تملأ فيه (أزيار) الماء الكبيرة الحجم بالماء البارد، ثمّ تعبّأ الدوارق منها، وأراد الفتى -قليل الخبرة- أن يحمل عدداً من الدوارق بين يديه كما فعل صاحباه، ولكنّه بعد أن قطع مسافة قصيرة سقط على الأرض، فلقد كان جسمه النحيل لا يساعده على تحمّل أو حمل الأشياء الثقيلة، ولم يكن جسد الفتى فقط الذي كان على درجة كبيرة من الضّعف، بل كانت عاطفته هي الأخرى من الضّعف بحيث إن سماعه لصوت شجي أو تغريد قمري أو (دقة نقرزان) - آلة كانت تستعمل في الألعاب الشعبية مثل المزمار، هذا وسواه كان باعثاً لدموعه أن تنهمر، ولدقات قلبه أن تخفق، ولجسده الموهن أن يرتعش.
وكانت المدرسة والحارة التي نشأ فيها ضنينة عليه بالصديق الذي يشاطره همومه، ويؤازره في رحلته المضنية في هذه الحياة. حتّى حلّ عام 1386هـ، وكان آنذاك في السنة الأولى من مرحلة الإعدادية، وذات مساء شعر بضيق وشيء من الكآبة، فقطع الطريق من دارهم في السِّيْح، ثمّ مسجد الغمامة، ثمّ سوق الحبّابة، الذي يؤدّي إلى سويقة وشارع العينية، وعندما بلغ منتصف هذا الشّارع وجد نفسه أمام شخص شاهده من قبل في حصوة المسجد.. إنّه (الزّين).. ورغم انشغال هذا الرّجل ببضاعته التي يسعى لتسويقها لكسب لقمة العيش الحلال، إلا أنّه أعطى الفتى اهتماماً. ولعلّ هذا ما كان يبحث عنه في دروب هذه الحياة. وشكا الفتى لهذا (الزين) ما يجده، فحاول أن يخفّف عليه. وكان (الزين) يسكن الحارة التي تحمل اسم (الأغوات) -خدم الحرم النّبويّ الشّريف في الحقبة الماضية-، وذلك لسكناهم فيها، وعرف في الحارة منبع الماء الذي يشرب ويرتوي منه النّاس، و(الرستمية)، موقع المدرسة التي كانت تقوم هناك في الحقبة الماضية. ووجد أن مبنى الرستمية يشتمل على غرف صغيرة بحيث بالكاد تتسع لشخص واحد، وكان يسكنها بعض أتباع الأغوات أو رقيقهم. وكانوا ينزلونهم منزلة الأبناء لأنهم جربوا نعمة الإنجاب.
في منتصف المكان يجلس رجل، وثيق البنيان، عريض المنكبين، أسمر البشرة، حاد النّظرات، يتمنطق بحزام يشده على وسطه، ويرتدي صدرية حيكت أطرافها في صفة متقنة بقماش (القيطان)، وينسدل الثوب الذي يلبسه إلى ما فوق القدمين، بحيث تبدو أطراف الإزار الذي كان يعرف باسم (المُشتغل) بارزة، وقطعة من القماش الرقيق يرمي بطرفيها على كتفه تدعى عند القوم آنذاك بـ(السليمي). وكان الرجل الذي يحمل اسم (سيّده) وهو (طيفور)، يُدعى بين سُكّان ذلك المبنى باسم (المُعلّم)، وكان بعد العصر كلّ يوم يقدم إلى الحارة، ويفتح باب غرفته في الرستمية، ويأخذ منها كرسيّاً صغيراً مصنوعاً من سعف النّخيل، ليجلس عليه، كما كانت الأرجيلة هي الأخرى تحظى باهتمام خاص من (المُعلّم)، فكان يضعها أمامه، ثمّ يخرج مادة التّبغ من جيبه ليغسلها ويعركها بالماء، ثمّ يشعل النّار في الجزء الأعلى منها، حتى إذا انتشرت رائحة التّبغ في المكان، يبدأ في نفث الدخان الذي تنعقد سحابته في سماء الرستمية، ويحلو له بين الحين والآخر أن يمرّر أنبوب هذه الأرجيلة على جبهته، و(المُعلّم) الذي يعتبر الشخصية الأولى في هذا المكان لا يتحدث كثيراً، ولكنّه في يوم من الأيّام توجّه إلى الفتى قائلاً: (أبوك اليوم قدم الحارة مشغول عليك كثيراً وسألني عنك فأجبته إنّك في يدٍ أمينة).
وبعد أن تعوّد الفتى على الحارة وأزقتها وأهلها، كان يصطحب معه أحد أصدقائه، ثم غاب الصديق واختفى في زحام الحياة، فإذا بالمعلّم وهو يمارس عادته في شرب نارجيلة الدخان الصغيرة الحجم، يتوجّه إلى الفتى وبعبارة موجزة ومحددة يخاطبه قائلاً: (فين ولد سيدي غائب عن الحارة؟).. وأثرت كلمة (ولد سيدي) على الفتى، وفتحت له باباً آخر ليتعلّق بهؤلاء القوم الذين فطروا على الصفاء والنّقاء.
ثمّ غابت الحارة أو غيّبوها، واختفى (المُعلّم) نفسه، وحفّارو القبور، زائد، وسعد، والزيبق، وصانع الخبز المعلّم حجازي، ورفاقهم مثل التّوم، وحسن البيشي، وشخص آخر غريب الأطوار يدعى (السحلبجي)، أسند إلى نفسه مهمة خاصة وهي رشّ برحة الحارة بالماء قبل فجر كلّ يوم.
نعم.. لقد أزف الوقت ليغيبوا ويختفوا عن الأعين، فنهاية الحياة محسومة، والموت يطرق الأبواب ليعبروا هذه الحياة الفانية إلى حياة البقاء الأبديِّ.. ولكن أحدهم قال له عند عودته إلى المدينة المنوّرة بعد رحلة دراسية طويلة بأنّ واحداً من القوم ما زال يسكن في أحد الأربطة، فعزم على السؤال عنه، ودخل المكان، وطرق باب الغرفة التي كان يقيم فيها الرجل، وناداه باسمه، وجاء الصوت من الدّاخل: لقد ذهب إلى روضة البقيع.. والبقيع اسم المقبرة التاريخية في البلدة الطّاهرة، على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.. أما الصديق الذي كان عوناً للفتى في رحلته في هذه الحياة، في الوقت الذي هجره فيه بعض من الأهل والأقارب، ذلك الأب الروحي الذي كان يؤثره بـ(سجادته) كلّما ارتعشت منه اليدان، وخفق القلب، واتّسعت حدقة العين، لقد آثر (الزين) أن يوصد على نفسه باب منزله ويختفي هو الآخر عن الأعين.. وحلّ شهر رمضان، ثمّ انتصف فأدرك الأقربون منه دنوّ أجله، ولكن الله اختصّ نفسه بعلم الغيب والأزل.. وفي يوم السابع والعشرين من الشهر المبارك، ومع ارتفاع الأذان لصلاة العصر من المنارة الرئيسية صعدت روح (الزين) إلى بارئها، وكانت الخاتمة الحسنة، والنهاية التي تتطلّع إليها النّفوس.. وخرست الألسن التي كانت تتعرض للرجل وتنهش جسده وهو ينصت لهم، تاركاً للباري وحده محاسبة القلوب والألسن عندما ينتقل النّاس من دنيا الفناء إلى آخرة البقاء.. وكثيراً ما كان يردّد هذا الدعاء: (يا من في الآفاق آياته.. يا من في الممات قدرته.. يا من في القبور قضاؤه.. يا من في القيامة مملكته.. يا من في الحساب هيبته.. ويا من في الميزان عدله، رحماك يا ربِّ وعفوك ومغفرتك وأمانك).